العيش قرب المساحات الخضراء يبطئ من شيخوخة الخلايا

لمحاربة شيخوخة الخلايا في الجسم.. اسكني بجانب المساحات الخضراء

جمانة الصباغ

يبدو أن هجرة الناس منذ سنوات طويلة، من الأرياف والقرى، نحو المدينة؛ لأغراض السعي وراء لقمة العيش وتحسين الظروف المعيشية والتعلم والاستمتاع بما توفره المدن من مقومات. يبدو أنه لم يعد مُغريَا كما في السابق، بل أن ثمة هجرة معاكسة قد يقوم بها الناس هذه الأيام، من المدن الممتلئة بالبنايات والأبراج الشاهقة، نحو المساحات الشاسعة والأكثر خضرةً ، حتى ضمن المدن نفسها.

والأسباب لذلك متعددة؛ منها الهرب من زحام المدن، والتلوث البيئي الذي يبدو أن له تداعيات كبيرة على الصحة بمختلف نواحيها. آخرها ما توصل إليه الباحثون، يتعلق بشيخوخة الخلايا التي تصيب خلايا الجسم وتجعله أضعف مع الوقت. وذلك في دراسة أُجريت لمدة 20 عامًا وشملت مجموعة من الأفراد في أربع ولايات أمريكية.

لكن قبل التعرف على تفاصيل هذه الدراسة المثيرة، لا بد من التطرق لموضوع شيخوخة الخلايا؛ كيف يحدث، وما هي الأسباب التي تقف وراءه، وتداعياته على الصحة.

شيخوخة الخلايا

التواجد في المساحات الخضراء له فوائد صحية ونفسية عدة
التواجد في المساحات الخضراء له فوائد صحية ونفسية عدة

أو الشيخوخة الخلوية كما أطلق عليها الإسم كلٌ من "ليونادر هايفليك" و"بول مورهيد" بعد تجاربهما أوائل الستينيات من القرن الماضي؛ هي ظاهرةٌ لها علاقة بتوقف انقسام الخلايا. وقد وجد الباحثان أن الأرومات الليفية الجنينية الطبيعية في الأدب الطبي، تصل إلى ما يقرب من 50 خليةً مضاعفة قبل أن تصبح في حالة الشيخوخة. وتُعرف هذه العملية بإسم الشيخوخة التكرارية، أو حد هايفليك. وقد مهد اكتشاف "هايفليك" للخلايا المُميتة، الطريق لاكتشاف وفهم المسارات الجزيئية لشيخوخة الخلايا.

يمكن أن تبدأ الشيخوخة الخلوية من خلال مجموعة متنوعة من العوامل المُسبَبة للتوتر؛وتتضمن عوامل الإجهاد هذه الأحداث الضارة البيئية والداخلية، النمو الخلوي غير الطبيعي، الإجهاد التأكسدي، وعوامل الالتهام الذاتي، من بين أشياء أخرى كثيرة.

تُعزى الأهمية الفيزيولوجية لشيخوخة الخلايا إلى الوقاية من التسرطن، وتطور الشيخوخة ، والنمو، وإصلاح الأنسجة. فيما تساهم الخلايا الشائخة في النمط الظاهري للشيخوخة، بما في ذلك متلازمة الضعف، ضمور العضلات، والأمراض المرتبطة بالشيخوخة. أما الخلايا النجمية الشائخة والخلايا الدبقية الصغيرة، فإنها تساهم في التنكس العصبي.

تعمل الخلايا الشائخة عكس الخلايا الجذعية، التي تمتلك قدرةً لا محدودة لتجديد الذات أو الانقسام. إذ لا تستطيع الخلايا الشائخة الانقسام مجددًا؛ فالشيخوخة حصارٌ غير قابل للعكس في دورة الخلية، ما يعني أن التقدم بالسن مسألةٌ محسومة. إلا أن العيش قرب المساحات الخضراء، قد يُسهم بشكل أو بآخر، في إطالة أعمار بعد الأفراد ممن دخلوا مرحلة الشيخوخة، وهو ما نتعرف عليه في التالي..

المساحات الخضراء تطيل العمر لعدة سنوات

هذه هي خلاصة البحث أو الدراسة، التي عكف مجموعةٌ من الباحثين على العمل فيها، ولمدة 20 عامًا؛ وتم نشر نتائج هذه الدراسة في مجلة "ساينس أدفانسز" يوم الأربعاء الماضي.

وأكد الباحثون أن المساحات الخضراء والحدائق المنتشرة بشكل واسع في معظم دول العالم حاليًا، لا تسهم فقط في تخفيف درجات الحرارة المرتفع وتُعزَز التنوع البيولوجي للنباتات والخضار؛ بل أنها مفيدةٌ أيضًا في إبطاء شيخوخة الخلايا التي يتعرض لها الإنسان في مرحلة ما من حياته.

ونقل موقع "العربية.نت" عن كيزو كيم، مُعدَة الدراسة والمشرفة على الباحثين فيها، في حديث لها لوكالة "فرانس براس"؛ من أن العيش بجانب المساحات الخضراء يساعد في أن يبدو المرء أصغر من سنه الفعلي. وفي نتائج الدراسة، اكتشف الباحثون أن الأفراد الذين يعيشون بالقرب من المساحات الخضراء، هم في المتوسط أصغر بعامين ونصف عام من الآخرين من الناحية البيولوجية.

وأضافت كيم: "نعتقد أن النتائج التي توصلنا إليها، تحمل تبعات مهمة على التخطيط المُدني فيما يتعلق بتوسيع البنية التحتية الخضراء وتعزيز الصحة العامة وتقليل الفوارق الصحية". خصوصًا مع توصل الباحثين أثناء سنوات الدراسة، لرابط يجمع بين السكن بجوار المساحات الخضراء وتحسَن صحة القلب والأوعية الدموية، فضلًا عن انخفاض أعداد الوفيات.

التواجد في المساحات الخضراء يتيح اطالة العمر
التواجد في المساحات الخضراء يتيح اطالة العمر

وكان لدى الباحثين اعتقادٌ أن النشاط الجسدي والتفاعلات الاجتماعية المرتبطة بزيارة المتنزهات الخضراء،لها دورٌ كبير في التوصّل إلى هذه النتيجة؛ إلا أن فكرة أن المتنزهات نفسها تساهم في إبطاء شيخوخة الخلايا، لم تكن واضحةً من قبل.

تفاصيل الدراسة

خلال سنوات البحث الطويلة (من 1986 – 2006) التي شملت أكثر من 900 شخص في أربع مدن أمريكية (برمنغهام وشيكاغو ومينيابوليس وأوكلاند)؛ تناول فريق الدراسة التعديلات الكيمياوية للحمض النووي، المعروفة بإسم "المثيلة".وكانت دراسات سابقة كشفت أن "الساعات الفوق الجينية" التي تستند إلى "مثيلة الحمض النووي"، تستطيع التنبؤ بالمشاكل الصحية التي قد يتعرض لها الفرد مع التقدم بالسن؛ كأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان وضعف الوظائف الإدراكية. وهي طريقةٌ أدق لقياس العمر، من احتساب السنوات التقويمية.

خلال الدراسة، قامت كيم وزملاؤها وباستخدام صور التقطتها الأقمار الصناعية؛ قياس المسافة بين مواقع إقامة المشاركين في الدراسة والمتنزهات. ثم عملوا على دراسةعيّنات دم أخذوها من الأشخاص بعد 15 سنة من بدء الدراسة، ثم في سنتها العشرين، لتحديد أعمارهم البيولوجية. وخلال هذه الدراسات، اعتمد الباحثون على نماذج علمية لتقييم النتائج التي سيتوصلون إليها، آخذين في الاعتبار المتغيرات التي ربما تكون قد أثرت عليها كالتعليم والدخل والتدخين من عدمه.

ليلاحظ الباحثون في نهاية الدراسة، أن الأفراد الذين كانت منازلهم مُحاطةً بنسبة 30% من المساحات الخضراء ضمن 5 كيلومترات؛ كانوا في المتوسط أصغر بـ2.5 سنة بيولوجيًا من الأفراد الذين كانت منازلهم مُحاطةً بنسبة 20% من المساحات الخضراء. ما يعني تفاوتًا كبيرًا في الفوائد حتى بنسبة المساحات الخضراء التي يحيا فيها المشاركون، وليس فقط بين المساحات الخضراء وغيرها من التي لا تحوي على أية نوع من أنواع التشجير.

لكن المثير في الأمر، أن التفاوت في الفوائد هذا لم يكن ذاته لدى الجميع. فالأفراد أصحاب البشرة السوداء الذي يعيشون بالقرب من المساحات الخضراء؛ كانوا أصغر من سنّهم الفعلية بسنة واحدة فقط، فيما كان أصحاب البشرة البيضاء أصغر بثلاث سنوات.

وبحسب كيم فإن "عوامل أخرى كالتوتّر ونوعية المساحات الخضراء المحيطة وعوامل اجتماعية،قد تؤثر على حجم فوائد المساحات الخضراء من حيث العمر البيولوجي"؛ مضيفةً أن هناك حاجةٌ لإخضاع هذه الفوارق للمزيد من الأبحاث.خاصةً في حال عدم استخدام المتنزهات الواقعة في الأحياء الفقيرة بشكل أكبر، وهو ما يُفسَرالفوائد الأقل لدى السود ممن يقطنون هذه الأماكن.

وأضافت كيم أن الأبحاث المستقبلية يمكن أن تتناول الرابط بين المساحات الخضراء وآثار صحية معينة؛ معتبرةً أن الطريقة التي "تُقلَص" فيها المساحات الخضراء من الشيخوخة، ليست واضحة بعد، على الرغم من إدراك العلماء لتأثير ما موجود في هذه العلاقة.

العيش قرب المساحات الخضراء يبطئ من شيخوخة الخلايا-رئيسية واولى
العيش قرب المساحات الخضراء يبطئ من شيخوخة الخلايا

بدوره، تحدث مانويل فرانكو، عالم الأوبئة من جامعتي ألكالا وجونز هوبكنز عن "تنفيذ الدراسة" بشكل جيد؛ وقال العالم الذي لم يشارك في الدراسة: "بات بحوزتنا الآن، المزيد من الأدلة العلمية التي تتمتع بنوعية أفضل، بهدف زيادة وتعزيز استخدام المساحات الخضراء في المدن".

في الختام، ننصحك عزيزتي وسائر الناس، بالتفكير مليًا بالبحث عن المساحات الخضراء المحيطة بالمسكن الجديد قبل الإنتقال إليه. وفي حال رغبت بزيادة معدل عمرك وعمر من تحبين، عليك بزيادة المساحة الخضراء في منزلك ومحيط عملك، والتردد أكثر على المنتزهات والحدائق للتزود بالأكسجين وغيره من الفوائد الصحية التي نجنيها من التواجد في الأماكن المُخضَرة.