الجيل الجديد من علاجات سرطان الثدي.. دقةٌ جينية وترميمٌ تجميلي متكامل
سرطان الثدي لم يعد كما كان قبل سنوات، حكمًا بالإعاقة أو الخسارة الدائمة للصحة والأنوثة. فالتطور العلمي خلال العقود الأخيرة، غيّر قواعد اللعبة على مستوى التشخيص والعلاج وإعادة التأهيل.
واليوم بات بإمكان المختصين الكشف المبكر عن آفاتٍ مجهرية غير محسوسة، ومعالجة أورامٍ كانت سابقًا مستعصية؛ كما يجري ترميم الثدي بصورةٍ تحاكي الطبيعي لدرجةٍ كبيرة وتبعث على الطمأنينة.
هذه المقالة موجّهة اليوم لكل امرأةٍ تسأل: ماذا بعد التشخيص؟ كيف أختارُ بين العلاجات؟ وهل يمكن أن أعود كما كنت؟ الإجابة المختصرة: نعم؛ مع خطةٍ علاجية دقيقة، فريقٍ متعدد التخصصات، واختياراتٍ ترميمية تناسب احتياجاتكِ ومظهركِ ووظيفتكِ، يمكن العودة إلى حياةٍ مكتملة.
تستعرض لنا الدكتورة ريتا صقر، استشارية جراحة وترميم أورام الثدي وأمراض النساء والتوليد من مجموعة مستشفيات الإمارات، لأحدث التطورات في علاج سرطان الثدي وعمليات الترميم التي تليها، كي تكون رحلة المريضة نحو استعادة الجسد والثقة بالنفس أعلى وأفضل.
علاجات سرطان الثدي.. تطوراتٌ مذهلة
يبدأ النجاح في علاج سرطان الثدي من التشخيص المبكر. إذ حسَن التصوير الشعاعي للثدي بالتقنية ثلاثية الأبعاد (الـ 3D Mammography) من قدرة الأطباء والمختصين على كشف الأورام الصغيرة والكثافات الدقيقة التي قد لا تظهر في الصور التقليدية.

ترافق ذلك مع استخدام الذكاء الاصطناعي في قراءة الصور؛ خوارزمياتٌ متقدمة تُبرز مناطق الشذوذ وتُقلَل من احتمال إغفال تغييراتٍ طفيفة، ما يختصر الوقت ويزيد الدقة. يُضاف إلى ذلك التصوير بالرنين المغناطيسي للثدي، وهو مفيدٌ خصيصًا لدى النساء ذوات الكثافة النسيجية العالية أو الخطورة العائلية المرتفعة، إضافة إلى تصوير الثدي مع مادة ظليلة في بعض المراكز.
على المستوى الجزيئي، وفّرت الاختبارات الوراثية مثل BRCA1 وBRCA2 وPALB2 نافذة مهمة للتنبؤ بالخطر؛ فالمرأة التي تحمل طفرة مؤكدة قد تستفيد من برنامج متابعة مكثف، أو خيارات وقائية، أو من توجيه العلاج بشكل مبكّر.
ولا يقل أهمية تحليل البصمة الجينية للورم نفسه عبر لوحات NGS التي تكشف الطفرات المحرّكة، وتدلّنا على العلاجات الموجهة المناسبة.
الجراحة.. من الاستئصال إلى الجراحة المحافظة والأنسنة الجمالية
التغيَر الأبرز في الجراحة، هو الانتقال من الاستئصال الشامل إلى الجراحة، المحافظة على الثدي عندما تسمح المرحلة والحجم بذلك. وتقول الدكتورة صقر: "نُزيل الورم بحواف أمان مع الحفاظ على شكل الثدي، ثم نستكمل العلاج الإشعاعي الموضعي أو الخارجي."
هناك أيضاً الاستئصال مع الحفاظ على الجلد والحلمة (Skin- وNipple-Sparing Mastectomy) لمن هنّ مؤهلات، ما يمنح نتيجةً جمالية عالية ويُهيأ الأرضية لِترميمٍ فوري.
كذلك تطوّرت أدوات تحديد موضع الورم قبل الجراحة؛ إذ لم يعد السلك المعدني هو الوسيلة الوحيدة، بل باتت هناك بذورٌ مغناطيسية أو مُشعة، وحقن صبغاتٍ مضيئة مثل الـ ICG تساعد المختصين مثل الدكتورة صقر على تحديد حدود الاستئصال بدقة أكبر. أما بالنسبة للغدد اللمفاوية، فخزعة العقدة الحارسة أصبحت نهجًا معياريًا لتقليل الاستئصال الواسع للإبط، ويجري أحيانًا استهداف عُقد محددة مسبقاً (Targeted Axillary Dissection) لتقليل الاختلاطات، كالوذمة اللمفاوية، دون التأثير في السلامة الورمية.
تمنع الجراحة على يد فريقٍ مُلمّ بالترميم التجميلي ضمن نفس الجلسة، تكرار التخدير، وتُقلَل الصدمة النفسية؛ فالمريضة تستيقظ وهي ترى شكلاً منسّقاً لجسدها، وهذا عامل شفاء لا يُستهان به.
العلاج الإشعاعي.. دقة أعلى وأثر جانبي أقل
يُقلَل الإشعاع بعد الجراحة، خاصةً بعد الجراحة المحافظة، خطر النكس الموضعي. وما تغيَر اليوم هو كيفية إيصال الجرعة بدقة، تشير الدكتورة صقر، مضيفةً أن تقنيات التوجيه ثلاثي الأبعاد وIMRT وVMAT، وتقسيم الجرعات المختصر (Hypofractionation)، كلها أساليب تُقلَل اليوم الوقت والأثر على الأنسجة السليمة.
وتضيف: "في بعض المراكز نستخدم الإشعاع أثناء العملية (IORT) مباشرةً إلى سرير الورم، أو نكتفي بالإشعاع الجزئي للثدي (APBI) لدى فئاتٍ مُختارة. نولي أهميةً خاصة لتزامن الإشعاع مع خطط الترميم؛ فالأجهزة المزروعة تحت العضلة أو فوقها (Prepectoral) تتأثر بدرجاتٍ مختلفة، وقد نميل لاستخدام أنسجةٍ ذاتية في الحالات المتوقع أن تتعرض للإشعاع لمنح النتائج استقرارًا أفضل على المدى البعيد."
العلاجات الجهازية.. نحو تخصيصٍ أوسع
بحسب استشارية جراحة وترميم أورام الثدي وأمراض النساء والتوليد من مجموعة مستشفيات الإمارات، لم تعد المريضة تتلقى العلاج الكيميائي بصورة نمطية. إنما باتت الاستراتيجية تعتمد على خصائص الورم:
• أورام مُوجبة لمُستقبلات الهرمون: يُعتمد فيها العلاج الهرموني (تاموكسيفين أو مثبطات الأروماتاز) مع إمكان إضافة مثبطات CDK4/6 لتحسين السيطرة، خصوصًا في الحالات المتقدمة أو عالية الخطورة. كما يتم أيضًا رصد طفرات ESR1 التي قد توجه الأطباء لتبديل الخطة.
• أورام موجبة HER2: غيَرت الأدوية المضادة لـ HER2 (مثل تراستوزوماب وبيرتوزوماب، وعلاجات مقترنة بأدوية سامة للخلايا) مسار المرض.
• الأورام الثلاثية السلبية: أحرزت العلاجات المناعية تقدمًا، خاصةً عند وجود مؤشرات استجابة مناعية؛ كما تلعب مثبطات PARP دوراً لدى حاملات طفرات BRCA.
"المفهوم المهم هنا هو العلاج المُسَبّق للجراحة (Neoadjuvant) الذي يمنحنا فرصة تقييم الاستجابة عبر معدل الاستجابة الكاملة المرضية (pCR)، ويتيح تعديل الخطة بعد الجراحة للواتي لم يصلن إلى استجابة كاملة بهدف خفض احتمال النكس" تضيف الدكتورة صقر.

ترميم الثدي.. خياراتٌ متنوعة لمظهرٍ طبيعي ووظيفة متوازنة
الترميم ليس "تجميلًا" بالمعنى السطحي، تؤكد الدكتورة ريتا؛ بل هو علاجٌ يُعيد للمرأة تماسكها الجسدي والنفسي. ويُبنى قرار الترميم على شكل الجسم، مرحلة العلاج، وجود إشعاعٍ متوقع، وتفضيلات المريضة.
فيما يلي تفاصيل ترميم الثدي:
1. الترميم بالحشوات الصناعية: حيث يمكن وضع الزرعة فوق العضلة (Prepectoral) أو تحتها (Subpectoral). ويميل الاتجاه الحديث نحو الوضع فوق العضلة، عند توافر جلدٍ كافٍ ودعمٍ بمصفوفة جلدية مُزالة الخلايا (ADM)، ما يُقلَل تشنّج العضلة ويمنح حركةً أكثر طبيعية.
لكن ينبغي الانتباه لاحتمال التليف الكبسولي والتأثيرات المتعلقة بالإشعاع، وفقًا للدكتورة ريتا.
2. الترميم بالأنسجة الذاتية: يتم فيها نقل أنسجة من البطن (DIEP/ TRAM) أو الفخذ (PAP/TUG) أو الأرداف (SGAP/IGAP) أو الظهر (Latissimus Dorsi)، ما يمنح ملمسًا وشكلًا أقرب للطبيعي، يحتمل الإشعاع بصورةٍ أفضل.
فيما تُحافظ التقنية الميكروسكوبية الدقيقة في وصل الأوعية على العضلات وتُقلَل الاختلاطات الوظيفية. وقد يُجري المختصون "ترميمًا هجينًا" يجمع الزرعة مع حقنٍ دهني لتحسين الحواف والتماثل.
3. إعادة بناء الحلمة والهالة: يمكن إجراؤها جراحيًا أو عبر وشمٍ طبي ثلاثي الأبعاد، يعطي وهمًا illusion بصريًا أقرب للطبيعي. وفي حالات الحفاظ على الحلمة ضمن استئصالٍ جلدي، تراقب الدكتورة ريتا التروية والدواليات بعناية لتجنَب النخر.
4. المحافظة على الإحساس العصبي: بدأت بعض المراكز بإجراء وصلاتٍ عصبية دقيقة لإعادة بعض الإحساس في الحلمة والجلد بعد الترميم الذاتي، وهو مجالٌ واعد يهم بالأخص جودة الحياة على المدى الطويل.
الندبات وصحة الجلد بعد العلاج
الندبة ليست مجرد خطٍ على الجلد؛ بل ذاكرة جسدية للألم والشفاء. وتبدأ الوقاية منذ لحظة الإغلاق: خيوطٌ دقيقة، تقليل التوتر على حواف الجرح، لصاقات سيليكون، وتعليمات عناية مبكرة.
للندبات السميكة أو المتضخمة يُستخدم الليزر الوعائي أو الجزئي، الميكرونيدلنغ، وحقن الستيرويد أو 5-FU بحذر؛ قد تستفيد المريضة أيضًا من PRP والدهون النانوية لتحسين جودة الجلد. أما الجلد المعالج بالإشعاع فيحتاج بروتوكولات خاصة للترطيب والحماية من الشمس، وعلاجات تدريجية لطيفة لتجنب التفاقم.
يتم التعامل أيضًا مع المشكلات اللونية والتصبغات بوسائل ضوئية مدروسة بعد اكتمال الشفاء.
التأهيل الحركي والوقاية من الوذمة اللمفاوية
قد يزيد إزالة العقد اللمفاوية أو علاج الإشعاع، من خطر تورم الذراع. لذا فالوقاية المبكرة ضرورية من خلال تمارين تدريجية، رفع الطرف، وتعليمات حمل الأوزان. العلاج اليدوي للتصريف اللمفاوي، الكمادات الضاغطة المعيارية، وتقنيات الشريط اللاصق، جميعها أدواتٌ فعّالة عندما تُستخدم ضمن بروتوكول واضح.
وتضيف الدكتورة ريتا: "نرصد أيضًا متلازمة الحبل الإبطي (Axillary Web Syndrome) ونعالجها بتمطيطٍ لطيف وتمارين إشرافية. وتتم العودة للنشاط الرياضي على مراحل، مع التركيز على المرونة والقوة الوظيفية."
المتابعة والتصوير بعد الترميم
بعد الترميم بالحشوات، توصي الدكتورة ريتا بمتابعة دورية لتقييم سلامة الغلاف والتليَف الكبسولي، وقد يلزم تصويرٌ بالرنين المغناطيسي كل فترة حسب الإرشادات المتبعة. أما في الترميم الذاتي فيبقى التركيز على توازن الحجم والتماثل ومظهر الندبات ووظيفة الكتف.
مع التنويه إلى علاماتٍ تستوجب استشارة فورية: كتلة جديدة، تغيَر مفاجئ في شكل الجلد، إفرازات مقلقة، أو ألم غير مُفسر ومستمر.

علاجات سرطان الثدي: أين يتجه المستقبل؟
تعِد الهندسة النسيجية ببدائل حقيقية لأنسجة أقرب إلى الطبيعة، عبر هياكل قابلة للتحلل وخلايا ذاتية، وقد تلعب الحويصلات خارج الخلوية (Exosomes) دورًا في تحسين التجدد. فيما تُتيح الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد تشكيل دعاماتٍ دقيقة تُطابق تشريح المريضة.
في الجانب الدوائي، تستمر الأدوية المقترنة بالأجسام المضادة (ADCs) في تغيير قواعد اللعبة عبر نقل الدواء السام مباشرةً إلى الخلايا المستهدفة مع أذى أقل للأنسجة السليمة. أما الذكاء الاصطناعي فسيرتقي من قراءة الصور إلى التنبؤ بالمضاعفات واختيار المسار العلاجي الأمثل وتخصيص الترميم قبل الجراحة بالواقع المُعزز والافتراضي.
في الختام؛ كطبيبة في مجموعة مستشفيات الإمارات، تتوجه الدكتورة ريتا إلى قارئات "هي" بالقول: لا تؤجلي الفحص الدوري، اطلبي رأياً ثانياً إن احتجتِ، واسألي عن كل تفصيل. فالقرار قرارك، والجسد جسدكِ، والمستقبل يستحق أن تخططي له على مهل. يمنحنا الطب اليوم أدواتٍ قوية، لكن المفتاح هو الخطة الفردية المبنية على العلم واحترام خصوصيتكِ وتفضيلاتكِ.
أنا الدكتورة ريتا صقر، أؤمن أن الترميم الحقيقي يبدأ من الداخل، ثم يكتمل في الخارج بيدٍ خبيرة تعرف أين تزيل وأين تضيف، وكيف تعيد رسم الذات لامرأةٍ سليمة وواثقة.