اكتشاف علمي يمهد لعلاج جذري لمرض السكري من النوع الثاني

اكتشافٌ علمي .. يُمهّد لعلاج مرض السكري من النوع الثاني

جمانة الصباغ
23 أكتوبر 2025

في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الابتكارات الطبية، يظلّ مرض السكري من النوع الثاني أحد التحديات الكبرى التي تواجه الصحة العالمية. ورغم أنّ الأدوية الحديثة ساعدت في السيطرة على المرض وتحسين جودة حياة المرضى، إلا أن الأمل في علاجٍ جذري ظلّ بعيد المنال — حتى بدأت ملامحه تتشكل مؤخرًا في مختبرات البحث العلمي.

واليوم، نعيش على أعتاب ثورةٍ جديدة في فهمنا لهذا المرض؛ اكتشافٌ علمي حديث قد يفتح الباب أمام علاجٍ يُعيد توازن الجسم الطبيعي، ويُحرّر المريض من الاعتماد الدائم على الأدوية. دعينا عزيزتي نُلقي الضوء على هذا الإنجاز العلمي الذي يُثير الأمل حول العالم، بلغةٍ مبسطة ومليئة بالأمل قدمتها لنا مشكورةً الدكتورة يارا لطيفة، أخصائية الغدد الصماء في مستشفى الإمارات دبي.

ما هو السكري من النوع الثاني ولماذا يزداد انتشاره؟

الدكتورة يارا لطيفة أخصائية الغدد الصماء في مستشفى الإمارات دبي
الدكتورة يارا لطيفة أخصائية الغدد الصماء في مستشفى الإمارات دبي

يحدث السكري من النوع الثاني عندما يفقد الجسم قدرته على استخدام الإنسولين بشكلٍ فعّال — وهي الحالة التي تُعرف باسم “مقاومة الإنسولين”.

والإنسولين هو الهرمون المسؤول عن إدخال السكر من الدم إلى الخلايا؛ وعندما تتوقف الخلايا عن الاستجابة له، يبدأ السكر بالتراكم في الدم، مما يؤدي إلى مشكلاتٍ صحية مزمنة تشمل القلب، الكلى، الأعصاب، والعينين.

وجدير بالذكر أن هذا النوع من السكري لا يرتبط فقط بالوراثة، بل بنمط الحياة أيضًا. فقلة النشاط البدني، الأنظمة الغذائية الغنية بالسكريات والدهون، وضغوط الحياة اليومية، كلّها تسهم في زيادة معدلات المرض بشكلٍ لافت. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإنّ أكثر من 500 مليون شخص حول العالم مصابون بالسكري، وقرابة 90% منهم من النوع الثاني. وتشير الدراسات إلى أنّ المنطقة العربية والخليجية تشهد ارتفاعًا متسارعًا في معدلات الإصابة، خصوصًا بين الفئات الشابة والنساء في منتصف العمر.

بداية الأمل: كيف وُلد الاكتشاف الجديد؟

قبل أعوامٍ قليلة، بدأ باحثون في معهد ماونت سيناي الأمريكي بدراسة مركّبٍ طبيعي يُدعى هارمين (Harmine)، مستخلص من بعض النباتات، كان يُستخدم قديمًا في الطب التقليدي. ولم يكن أحدٌ يتوقع أن يكون لهذا المركّب البسيط أثرٌ مذهل على خلايا البنكرياس المسؤولة عن إفراز الإنسولين.

خلال التجارب، لاحظ العلماء أنّ هذا المركب يملك قدرةً فريدة على تحفيز خلايا بيتا (β-cells) وهي الخلايا التي تُنتج الإنسولين — لتتكاثر وتنمو من جديد بعد أن كانت خاملة. هذه الخطوة تُعتبر بمثابة "إحياء" للبنكرياس، إذ أنّ خلايا بيتا عند الإنسان البالغ نادرًا ما تنقسم أو تتجدد؛ ولذلك عندما تتضرر بسبب السكري، يفقد الجسم قدرته على إنتاج الإنسولين الطبيعي.

وعندما دمج العلماء مركب هارمين مع أدوية من فئة منشطات مستقبلات GLP-1 (التي تُستخدم اليوم للتحكم بالسكر والوزن مثل سيماغلوتايد وأوزمبيك)، كانت النتيجة غير مسبوقة: تضاعف عدد خلايا بيتا في البنكرياس بمعدل سبعة أضعاف تقريبًا خلال أسابيع قليلة فقط، مما أعاد قدرة الجسم على إنتاج الإنسولين بشكلٍ طبيعي في التجارب الحيوانية.

كيف يعمل المركّب داخل الجسم؟

توضح الدكتورة يارا لطيفة أنّ الفكرة العلمية وراء هذا الإنجاز، تعتمد على تثبيط إنزيمٍ محدد يُعرف باسم DYRK1A. هذا الإنزيم مسؤول عن إيقاف انقسام خلايا بيتا بعد مرحلةٍ معينة من العمر. وتضيف "عندما نُوقف هذا الإنزيم جزئيًا باستخدام الهارمين، نستطيع إعادة تنشيط قدرة خلايا بيتا على الانقسام، وكأننا نضغط على زرّ (إعادة التشغيل) في البنكرياس. إنَ الجمع بين الهارمين ومنشطات GLP-1 يجعل العملية أكثر كفاءة وأمانًا، إذ يُحفَّز النمو بطريقةٍ منضبطة ويُحافظ على توازن الجسم الهرموني."

في التجارب المخبرية التي أُجريت على فئرانٍ تم زرع خلايا بنكرياس بشرية فيها، لوحظ أنّ مستويات السكر في الدم عادت إلى طبيعتها خلال أسابيع قليلة، واستمرّت مستقرةً لأشهرٍ دون الحاجة إلى أي تدخلٍ دوائي إضافي.

بداية الطريق نحو علاجٍ بشري

نمط الحياة الصحي الركيزة الأساسية للوقاية من السكري النوع الثاني
نمط الحياة الصحي الركيزة الأساسية للوقاية من السكري النوع الثاني

رغم أن التجارب البشرية لم تبدأ بعد على نطاقٍ واسع، إلا أنّ المرحلة الأولى من الاختبارات أظهرت أنّ الهارمين آمنٌ بجرعات محددة، ولم تُسجل آثارٌ جانبية خطيرة. لكن العلماء لا يزالون يعملون على تطوير طريقةٍ، لتوصيل هذا الدواء مباشرةً إلى خلايا البنكرياس دون أن يؤثر على خلايا الجسم الأخرى. وهنا يأتي دور تقنيات النانو التي تسمح بنقل المركّبات بدقةٍ عالية إلى الأنسجة المستهدفة فقط.

تقول الدكتورة يارا لطيفة: "نحن الآن في عصرٍ يمكن فيه تصميم دواءٍ يذهب مباشرةً إلى الخلية التي نريدها فقط. تخيَلي علاجًا يُعيد بناء البنكرياس دون الحاجة إلى حقنٍ يومية أو حبوبٍ متعددة، وهذا ما يحلم به كل مريض سكري اليوم."

السكري والنساء: تحدٍ مضاعف

بحسب الإحصاءات، فإن النساء هنَ أكثر عرضةً للإصابة بالسكري في مراحل مختلفة من حياتهنَ؛ خصوصًا أثناء الحمل أو بعده، حيث تظهر حالةٌ تُعرف باسم سكري الحمل. وإذا لم تُعالج بشكلٍ صحيح، فقد تتحوّل لاحقًا إلى سكري من النوع الثاني. كما أنّ التغيرات الهرمونية، والضغوط النفسية، ومشكلات الغدة الدرقية، كلها عوامل تؤثر على حساسية الإنسولين في جسم المرأة.

وتضيف الدكتورة يارا لطيفة: "كطبيبة نساء وغدد صماء، أرى يوميًا نساءً يعانين من آثار السكري ليس فقط جسديًا، بل نفسيًا أيضًا. فالأعباء اليومية، والحرص على رعاية الأسرة، تجعل التعامل مع المرض مهمةً صعبة للنساء، لذلك فإنّ أي تقدمٍ نحو علاجٍ جذري سيكون بمثابة ولادةٍ جديدة لهن."

نمط الحياة يبقى الركيزة الأساسية

رغم الأخبار المُبهجة؛ تؤكد الدكتورة يارا أنّ الوقاية لا تزال أقوى من العلاج، وأنّ الحفاظ على نمط حياةٍ صحي يمكن أن يمنع تطور المرض أو يؤخره بشكلٍ كبير.

وتشير أخصائية الغدد الصماء في مستشفى الإمارات دبي إلى ثلاثة قواعد ذهبية ينبغي الالتزام بها:

1. الغذاء المتوازن: الإكثار من الأطعمة الغنية بالألياف مثل الخضروات والحبوب الكاملة، وتقليل السكريات المكررة.

2. النشاط البدني المنتظم: يُساعد المشي السريع لمدة 30 دقيقة يوميًا على تحسين حساسية الإنسولين بشكلٍ كبير.

3. النوم الجيد وإدارة التوتر: فقلة النوم والإجهاد المزمن يرفعان هرمونات الكورتيزول، التي بدورها تزيد مقاومة الإنسولين.

آفاق البحث المستقبلية

لا تتوقف الأبحاث عند الهارمين فقط؛ فهناك تجارب موازية في الصين وكندا تعمل على تحويل الخلايا الجذعية إلى خلايا قادرة على إنتاج الإنسولين. وفي بعض الحالات المحدودة، نجح العلماء بزرع هذه الخلايا لدى بعض المرضى، مما سمح لهم بالاستغناء عن الإنسولين لفتراتٍ طويلة.

كذلك، تتطور التكنولوجيا لتشمل العلاج الجيني، الذي قد يُعيد برمجة خلايا أخرى في الجسم لتتحول إلى خلايا بيتا عاملة. هذه التقنيات لا تزال في مراحلها التجريبية، تقول الدكتورة لطيفة؛ لكنها بالتأكيد تحمل وعودًا كبيرة للمستقبل.

التحديات العلمية أمام "العلاج الجذري"

رغم الحماس، فإن الطريق أمام تطبيق هذا العلاج طويلٌ ومعقد. ومن أبرز التحديات التي تواجه العلماء:

        التأكد من الأمان الكامل: إذ أن تحفيز نمو الخلايا يجب أن يكون مضبوطًا بدقةٍ عالية لتجنب أي نموٍ غير طبيعي.

        التكلفة والتصنيع: تطوير أدوية تعتمد على الخلايا الجذعية أو الجزيئات الدقيقة يتطلب استثماراتٍ هائلة.

        الفروق بين البشر والحيوانات: ما ينجح في التجارب الحيوانية قد لا ينجح دائمًا على الإنسان.

        الاستجابة الفردية: لكل مريضٍ بصمةٌ جينية مختلفة، وقد تختلف استجابته للعلاج.

وتقول الدكتورة يارا لطيفة في هذا الصدد: "نحن لا نتحدثُ عن حلمٍ بعيد، بل عن مسارٍ بدأ بالفعل. وكل عام نقترب خطوةً من اليوم الذي نقول فيه: وداعًا لمرض السكري."

باب الأمل للجيل الجديد

من النقاط المضيئة في هذا البحث أنّ العلماء لا يهدفون فقط لعلاج المرضى الحاليين، بل أيضًا لمنع انتقال المرض إلى الأجيال القادمة. فالأبحاث تشير إلى أنّ تحسين وظائف الإنسولين مبكرًا لدى الأشخاص ذوي القابلية الوراثية للإصابة، قد يمنع ظهور المرض تمامًا.

ما يعني أننا ننتقل من مرحلة "التعامل مع المرض" إلى "منع حدوثه"، بحسب الدكتورة لطيفة؛ وهو تحولٌ جذري في التفكير الطبي.

وتختم قائلةً: "كطبيبة، رأيتُ معاناة الكثير من المرضى مع السكري لسنواتٍ طويلة. والآن، وللمرة الأولى منذ عقود، أستطيعُ أن أنظر إليهم وأقول بثقة: الأمل موجود. قد لا يكون العلاج متاحًا اليوم، لكنه قريبٌ جدًا. والعلم لا يعرف المستحيل."

في الختام ونصيحة لكل قارئة: إذا كنتِ مصابةً بالسكري أو لديكِ تاريخٌ عائلي معه، تذكّري أن التغيير يبدأ من الداخل. اتبَعي أسلوب حياةٍ صحي، وراجعي طبيبكِ بانتظام، فالاكتشاف المبكر والتوازن الغذائي والذهني يمكن أن يصنعوا الفارق حتى قبل ظهور العلاج النهائي. العلم يصنع الدواء، لكن الإرادة تصنع الشفاء.