السُمنة... وعيٌ وعلاجٌ متكامل بين التوازن الداخلي والدعم الطبي المستدام
لم تعد السُمنة اليوم مجرّد هاجسٍ جمالي أو مسألة مظهرٍ خارجي، بل أصبحت أحد أبرز التحديات الصحية في القرن الحادي والعشرين. ففي وقتٍ تتزايد فيه وتيرة الحياة السريعة والاعتماد على الأغذية المُصنّعة، يجد كثيرون أنفسهم في دوّامةٍ من العادات الغذائية الخاطئة وقلّة الحركة والتوتر المزمن، لتتحوّل السُمنة تدريجياً إلى مرضٍ مُزمن يمسّ جودة الحياة وصحة الجسد والعقل معًا.
في مقالة اليوم، نستعرض كيف فرضت علينا الحياة العصرية - بكل ما تحمله من ضغوطٍ، توتر، وسرعة في الإيقاع - واقعًا غذائيًا غير صحي؛ حيث انتشر الاعتماد على الوجبات السريعة والمُصنّعة، مقابل تراجع النشاط البدني، وارتفاع معدلات الخمول. ومع الوقت، باتت السُمنة أكثر من مجرد أرقامٍ على الميزان أو مؤشر كتلة جسمٍ مرتفع، بل أصبحت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بأمراضٍ خطيرة مثل السكري من النوع الثاني، ارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، اضطرابات النوم، وحتى الاكتئاب.
بحسب الدكتورة منال علي أحمد، أخصائية التغذية العلاجية، في مستشفى الدكتور سليمان الحبيب في دبي؛ فإن السُمنة ليست فشلًا شخصيًا أو ضعف إرادة، بل هي مرضٌ مُعقّد يحتاج إلى وعيٍ وفهم قبل أي خطةٍ علاجية. موضحةً في الوقت ذاته أنّ السُمنة تبدأ غالبًا بصمت، ثم تتفاقم مع الوقت لتؤثر على توازن الهرمونات ومستوى الإنسولين وصحة القلب والكبد والمفاصل، وحتى النوم.
وتضيف "إن التعامل مع السُمنة يجب أن يكون شاملًا. فالنظام الغذائي الصحي والرياضة هما الأساس، لكننا ننظر اليوم أيضًا إلى الصحة النفسية، جودة النوم وتنظيم الهرمونات باعتبارها عناصر متكاملة. فكلّها مترابطةٌ ضمن دائرةٍ واحدة من التوازن."

دعم المجتمع... خطوةٌ لا تقل أهمية
من منظورٍ أوسع، تسعى المؤسسات الخاصة، وبالتعاون مع الهيئات الحكومية المعنية بالرعاية الصحية، للمساهمة في نشر الوعي ودعم الحلول المستدامة، من خلال تنظيم جولاتٍ ميدانية تشمل أماكن عامة للوصول إلى أكبر عددٍ ممكن من الأشخاص.
وفي هذا السياق، يقول توني تيرزيس، نائب الرئيس المساعد للشؤون الطبية في منطقة الشرق الأوسط وتركيا بشركة "ليلي"" :نهدف من خلال جولة التوعية الخاصة بالسُمنة، إلى تمكين الأفراد بالأدوات والمعرفة التي تساعدهم على اتخاذ خطواتٍ استباقية نحو تحسين صحتهم."
ويضيف "نحن ملتزمون بالعمل عن كثب مع شركائنا في منظومة الرعاية الصحية في دولة الإمارات العربية المتحدة، لضمان حصول الأشخاص الذين يعانون من مرض السُمنة على الدعم والرعاية المستمرة التي يحتاجونها للعيش بصحة وحيوية."
رحلة التغيير تبدأ بالوعي
في هذا الإطار، تُشدّد الدكتورة منال على أنّ الوعي هو الخطوة الأولى في العلاج؛ فالكثير من الأشخاص لا يدركون أنهم مصابون بالسُمنة إلا بعد فحص تركيب الجسم أو ملاحظة تأثيرها على طاقاتهم اليومية. وتضيف: "من المهم أن ندرك أن مؤشر كتلة الجسم (BMI) لا يروي القصة كاملة. فدهون البطن - المعروفة بالدهون الحشوية - هي الأخطر، لأنها ترتبط مباشرةً بأمراض القلب والسكري، حتى لو كان الوزن الكلي طبيعيًا."
الميكروبيوم... الحارس الخفي لصحة الجسم
من بين المفاهيم الحديثة التي تلفت انتباه الأطباء اليوم، هو دور الميكروبيوم المعوي - أي توازن البكتيريا النافعة في الأمعاء، في التحكم بالشهية والوزن والمزاج. ومن هذا المنطلق، فإن اختلال الميكروبيوم يؤثر على كل شيء، من الهضم إلى الحالة النفسية. لذلك "نحن نُشجع على تناول الأطعمة الغنية بالألياف والخضروات والبقوليات، إضافة إلى الأغذية المُخمّرة مثل الزبادي الطبيعي والخبز البلدي، لأنها تُغذي البكتيريا النافعة وتعيد التوازن للجسم" تؤكد الدكتورة منال.
التدخل الطبي.. متى يصبح ضروريًا
تشرح الدكتورة منال أن الخطوة الأولى، تكون دائماً بتعديل نمط الحياة، من خلال الطعام الصحي، النشاط البدني المنتظم والنوم الكافي. ولكن في حال عدم فقدان الوزن بنسبة 5 إلى 10% خلال ثلاثة أشهر على الرغم من الالتزام، ومع وجود أمراضٍ مُصاحبة مثل السكري أو ارتفاع الضغط، يُنظر في خيارات العلاج الدوائي.
وتشير الدراسات إلى أن الأدوية الحديثة من فئة GLP-1 أثبتت فاعليتها في خفض الشهية، تنظيم مستوى السكر وتحسين حساسية الإنسولين. لكنها ليست بديلًا عن نمط الحياة الصحي، بل تُعدَ أداةً مساعدة ضمن خطةٍ متكاملة تُصمّم لكل مريض حسب حالته. أما الجراحة، فتأتي كخيارٍ أخير في حالات السُمنة المفرطة أو عند وجود مضاعفاتٍ صحية تُهدد الحياة.
السمنة... مسؤوليةٌ مشتركة
تختتم الدكتورة منال حديثها برسالة أمل: "عندما نُغيّر نظرتنا إلى السُمنة من كونها مشكلة مظهر إلى مرضٍ يحتاج لرعايةٍ شاملة، يصبح الطريق إلى التعافي أكثر وضوحًا. فالنجاح لا يتحقق بالحرمان، بل بالاتزان، وبالتعاون بين المريض والفريق الطبي والمجتمع."
وهكذا، تُعيد قصص التغيير التي نشهدها يوميًا في العيادات والمبادرات الصحية تأكيد حقيقةٍ واحدة: أن الصحة رحلة تبدأ بالوعي... وتستمر بالحبّ والالتزام والتوازن.
الشراكة بين القطاعين... وعيٌ يُغيّر الواقع
لأن السُمنة قضية مجتمعية وليست طبية فقط، برزت في السنوات الأخيرة أهمية الشراكة بين المؤسسات الخاصة والهيئات الحكومية في رفع مستوى الوعي وتشجيع أنماط الحياة الصحية.
فمثل هذه المبادرات المشتركة التي تجمع بين الخبرة الطبية من القطاع الخاص والدعم المؤسسي والتنظيمي من الجهات الحكومية، تُسهم في خلق بيئةٍ توعوية أكثر شمولًا واستدامة. ومن خلال حملات التثقيف، البرامج الوقائية، والفحوص الدورية المجانية، يمكن لهذه الشراكات أن تُحدث فرقًا حقيقيًا في الحدّ من انتشار الأمراض المزمنة، وعلى رأسها السُمنة.

علاج السُمنة.. فوائد اقتصادية واجتماعية
هذا ما كشف عنه تقريرٌ جديدٌ صادر عن "وايتشيلد"، شركة استشارات السياسات العامة والاقتصاد التي تعتمد على تحليلات الذكاء الاصطناعي، بتكليفٍ من شركة "ليلي"، يُفيد بأن تسريع وتيرة التدخلات لمعالجة السُمنة قد يُسهم في تمكين 3.3 ملايين شخص في المملكة العربية السعودية من التخلّص من السُمنة بحلول عام 2030. ويُبرز التقرير، الذي يحمل عنوان "الكشف عن الفوائد الاقتصادية والاجتماعية الشاملة لخسارة الوزن"، أن تحقيق هذا الهدف من شأنه أن تحقيق فوائد واسعة النطاق، تمتد إلى مجالات الصحة والاقتصاد والمجتمع والتعليم، بما ينسجم مع رؤية السعودية 2030.
وأشار التقرير إلى أن تسريع جهود التصدي للسُمنة يمكن أن يُسهم في خفض التكاليف الصحية، زيادة الناتج المحلي الإجمالي، متوسط العمر المتوقع، تعزيز الجاهزية للعمل وتحسين ترتيب المملكة في مؤشرات التعليم. وبحسب التقرير، فإن معالجة السُمنة قد تُسهم في تحقيق وفرٍ يصل إلى 1.8 مليار دولار أمريكي في تكاليف الرعاية الصحية، سواءً على مستوى الحكومة أو الأفراد؛ كما قد يؤدي تسريع التدخلات العلاجية إلى رفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة نقطة مئوية واحدة حتى عام 2030، ليصل الناتج المحلي الإجمالي الوطني إلى نحو 1.41 تريليون دولار أمريكي.
كذلك أوضح التقرير أن التصدي لظاهرة السُمنة يمكن أن يُساهم في زيادة مشاركة المواطنين السعوديين في سوق العمل، من خلال تمكين نحو 23 ألف رجل إضافي وأكثر من 53 ألف امرأة إضافية من الانضمام إلى القوى العاملة بحلول عام 2030، بما يدعم أهداف التوطين في المملكة.
وأشار التقرير إلى أن التدخل لعلاج السُمنة قد يُسهم في زيادة متوسط العمر المتوقع بمقدار 1.1 سنة لما يقارب 10 ملايين شخص ممن يتعايشون مع السُمنة في المملكة. معتبرًا أن معالجة السُمنة يمكن أن تُحفّز قطاع التعليم، مع إمكانية زيادة معدلات الالتحاق ببرامج البكالوريوس لأكثر من 10 آلاف طالب خلال الفترة ذاتها.
في الخلاصة؛ فإن السُمنة ليست مجرد مشكلة مظهر بل هي مرضٌ يحتاج رعايةً شاملة، تتضافر فيها الجهود الخاصة والحكومية لتعزيز فرص المصابين بالسُمنة في التخلص منها بشكلٍ صحيح وسريع. وتُسهم معالجة السُمنة في توفير العديد من الفوائد الاجتماعية والاقتصادية، فضلًا عن تحسين جودة الحياة وزيادة متوسط العمر للكثيرين.