رحلة ما بعد الألم.. غذاء الروح والجسد بعد التعافي من سرطان الثدي
الصدمة الأولى تمَ تجاوزها بنجاح؛ ورحلة العلاج سارت كما ينبغي، وها هي تصلُ إلى محطتها الأخيرة. تترجلُ تلك السيدة المثقلة بتداعيات العلاجات الكيميائية والإشعاعية والهرمونية، وهي تحمل بين يديها كتيبًا يوازي قيمة عمرها الذي ربحته في معركةٍ شرسة مع سرطان الثدي.
في ذلك الكتيب، خريطة حياتها بعد التعافي؛ من أسس التغذية الصحيحة، إلى التوازن الهرموني، والرياضة، وصولًا إلى الدعم النفسي. جميعها أمورٌ أساسية تحتاج إليها تلك الناجية للعودة إلى الحياة الطبيعية ورسم ملامح مستقبلٍ ينتظرها مع عائلتها ومحبيها.
لم تعد التغذية الصحية خيارًا ثانويًا في حياة الناجيات من سرطان الثدي، بل تحولت إلى وسيلةٍ علاجية مُكمّلة تُسهم في تعزيز المناعة، تخفيف المضاعفات، والوقاية من عودة المرض. فمرحلة ما بعد العلاج تُشكَل نقطةً فارقة تتطلب أسلوب حياة متوازنًا يجمع بين الغذاء السليم، النشاط البدني، والدعم النفسي. هذا ما قالته لنا اختصاصية التغذية تسنيم عبيد من مستشفى فقيه الجامعي https://www.fuh.care/؛ مشيرةً إلى أن الجمعية الأمريكية للسرطان تؤكد على أن اتباع نظامٍ غذائي صحي متكامل، قد يُقلل من احتمالية الانتكاسة من جديد، ويُحسن جودة الحياة بشكلٍ عام.

العلاقة بين الوزن والهرمونات
وفقًا لعبيد، فقد أظهرت الأبحاث أن السمنة عامل خطرٍ أساسي لعودة سرطان الثدي بعد التعافي؛ إذ قد يؤدي تراكم الدهون في الجسم إلى ارتفاع مستويات الإستروجين، وهو الهرمون الذي يرتبط نموه ببعض أنواع سرطان الثدي. ولهذا فإن الوصول إلى وزنٍ صحي والمحافظة عليه بعد التعافي، يُعدّ خطوةً وقائية بامتياز.
تشمل نصائح اختصاصية التغذية تسنيم عبيد العملية في هذا الخصوص، ضرورة الإكثار من الخضراوات والفواكه الملونة الغنية بمضادات الأكسدة؛ الاعتماد على الحبوب الكاملة مثل الشوفان والكينوا؛ تقليل استهلاك السكر الأبيض والمخبوزات الجاهزة؛ واستخدام الزيوت الصحية مثل زيت الزيتون والأفوكادو.
مع التركيز على العناصر الغذائية الأساسية، والمتمثلة في:
1. الألياف الغذائية التي تُسهم في تنظيم الجهاز الهضمي، وتخفيض مستوى الإستروجين الحر. وتتوافر في البقوليات، الخضراوات الورقية، الفواكه الطازجة، والحبوب الكاملة.
2. أوميغا 3 التي تُقلّل من الالتهابات، وتدعم صحة القلب، وهي متوفرة في الأسماك الدهنية، وبذور الكتان والجوز.
3. البروتينات الخفيفة، أساسية لإصلاح الأنسجة، وتعويض الفاقد العضلي بعد العلاج. ويُفضل التركيز على البقوليات، والدواجن، والأسماك.
4. الفيتامينات والمعادن، مثل فيتامين D والكالسيوم لتعزيز صحة العظام، خصوصًا مع استخدام بعض الأدوية الهرمونية التي قد تزيد من هشاشتها. وفيتامينات C وE والسيلينيوم لمكافحة الجذور الحرة وحماية الخلايا.
أطعمة تُخفف من الآثار الجانبية لعلاجات سرطان الثدي
الكثير من الناجيات يواجهنَ أعراضًا جانبية طويلة الأمد، لذا يمكن أن تكون التغذية المدروسة الحل الأمثل هنا. وتنصح عبيد بتناول العدس والسبانخ لعلاج فقر الدم الناتج عن العلاج الكيميائي؛ البروتينات النباتية والحيوانية الخفيفة لدعم نمو الشعر والأظافر، والألبان قليلة الدسم والأسماك لتقوية العظام.
الرياضة والتغذية.. تكاملٌ لا غنى عنه
تنصح منظمة الصحة العالمية بممارسة ما لا يقل عن 150 دقيقة من النشاط البدني المعتدل أسبوعيا. وتُسهم ممارسة المشي، والسباحة أو اليوغا، إلى جانب نظام غذائي متوازن في تحسين المزاج، ضبط الوزن، وتنشيط الدورة الدموية.

الجانب النفسي والتغذية
الناجيات من السرطان هنَ الأكثر عرضةً للتوتر والقلق؛ وبعض الأطعمة مثل الشوكولاتة الداكنة والموز والمكسرات تحتوي على عناصر تُعزز إفراز هرمونات السعادة، وهو ما ينعكس إيجابًا على الصحة النفسية. كما أن تناول وجبات متوازنة ومنتظمة يقي من التقلبات المزاجية الناتجة عن انخفاض مستوى السكر في الدم.
في المقابل، ينبغي الحذر من بعض الأطعمة التي ثبت علميًا ارتباطها بخطر عودة سرطان الثدي؛ منها اللحوم المصنعة كالنقانق والمرتديلا، الوجبات السريعة الغنية بالدهون المشبعة والمتحولة، والمشروبات الكحولية.
الماء شريكٌ أساسي في التعافي
تؤكد عبيد أن شرب ما لا يقل عن 8–10 أكواب يوميًا، يساعد في التخلص من السموم المتراكمة، ويحافظ على وظائف الكلى والبشرة. ويمكن تعزيز الترطيب عبر تناول الفواكه الغنية بالماء مثل البرتقال والبطيخ.
التثقيف الغذائي.. استثمارٌ في المستقبل
المعرفة قوة، تقول عبيد؛ وتمكين المريضة من فهم خياراتها الغذائية هو أساس النجاح. وهنا يأتي دور اختصاصية التغذية لوضع خططٍ فردية تناسب كل حالة، وتُراعي العلاجات التي تلقتها المريضة، وزنها الحالي، مستوى نشاطها، وعاداتها الغذائية.
أهمية الدعم النفسي لناجيات سرطان الثدي
بدوره؛ أكدَ الدكتور منصور عساف، استشاري الطب النفسي في مستشفى فقيه الجامعي بدبيhttps://www.fuh.care/على أهمية الدعم النفسي لمريضات سرطان الثدي قبل العلاج وبعده. كيف لا، وهو طوق النجاة الذي سيُحيط بناجية سرطان الثدي لاستعادة توازنها وإقبالها على الحياة كما تحب؟

الصدمة الأولى عند معرفة التشخيص
غالبا ما يُحدِث تلقَي خبر الإصابة بسرطان الثدي ما يُشبه "الزلزال النفسي". كثيرٌ من المريضات يدخلنَ في حالةٍ من الإنكار أو الصدمة أو الخوف من الموت وفقدان الأنوثة، وهنا يبرز دور الطبيب النفسي في الاستماع والتفريغ الانفعالي، لمنح المريضة مساحةً للتعبير عن مخاوفها من دون أحكام؛ تفسير المشاعر الطبيعية، وطمأنة المريضة بأن القلق والحزن وردود الفعل المتناقضة طبيعية في هذه المرحلة، مع تقديم استراتيجيات المواجهة المبكرة مثل التنفس العميق، الكتابة العلاجية، والتفكير المرحلي عوضًا عن الغرق في "سيناريوهات كارثية".
التأثيرات النفسية أثناء العلاج
يترك العلاج الكيميائي، والإشعاعي أو الجراحي آثارًا نفسية عميقة، مثل القلق والاكتئاب، نتيجة الخوف من المضاعفات أو فشل العلاج. كما تخشى المريضة فقدان الصورة الجسدية، خصوصًا عند استئصال الثدي أو تساقط الشعر، وهو ما يُولّد لديها شعورًا بفقدان الهُوية الأنثوية. فضلًا عن التوتر الأسري، إذ قد تتأثر علاقة المريضة مع شريك الحياة والأبناء نتيجة تغيّر الأدوار والمسؤوليات.
ووفق الدكتور عساف، يتضمن الدعم النفسي في هذه المرحلة النقاط الآتية:
• العلاج المعرفي السلوكي، لتصحيح الأفكار السلبية وإعادة بناء الثقة بالنفس.
• جلسات الدعم الجُماعي، إذ تُشارك المريضة خبرتها مع أخريات يخضنَ التجربة ذاتها، وهو ما يُخفف الإحساس بالوحدة.
• العلاج الدوائي عند الحاجة، وذلك في حال ظهور أعراض اكتئابٍ حاد أو قلقٍ مزمن.
الدعم بعد العلاج.. مرحلة "الظل الطويل"

انتهاء العلاج لا يعني بالضرورة نهاية المعاناة؛ فكثيرٌ من المريضات يواجهنَ ما يُسمى "ظل السرطان الطويل"، أي القلق المستمر من عودة المرض، أو مواجهة آثاره الجانبية المزمنة. وهنا تبرز الحاجة إلى متابعةٍ نفسية دورية للتعامل مع نوبات القلق المتعلقة بالفحوص الدورية، إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي عبر برامج تُعزز العودة إلى العمل والحياة الاجتماعية، واستعادة الثقة في العلاقات الزوجية، فضلًا عن برامج العناية بالصورة الذاتية مثل جلسات العلاج بالفن أو برامج التجميل الطبي التي تساعد المريضة على تقبّل شكلها الجديد.
دور الأسرة في الدعم النفسي
الأسرة هي خط الدفاع الأول للمريضة، لكن غياب التثقيف النفسي قد يُحوّل العلاقة الأسرية إلى عبءٍ إضافي. من هنا تأتي أهمية توعية الزوج والأبناء بطرق الدعم العاطفي الصحيح، وتجنب العبارات الجارحة أو السلبية، مع توزيع الأدوار الأسرية لتخفيف الأعباء اليومية عن المريضة، واقتراح الاستشارات الأسرية في حال حدوث توترٍ شديد أو صعوبات في التكيَف.
الدعم النفسي والروحاني لناجيات السرطان
يُمثَل الجانب الروحاني مصدرًا عظيمًا للقوة لدى كثير من المريضات، إذ يمنحهنَ الإيمان والأمل بقدرة الله على الشفاء، ويُعزز الصبر والرضى. كما تُعد ممارسة التأمل واليوغا والصلوات أدواتٍ فعالة للتقليل من القلق وتحقيق السلام الداخلي.
برامج الدعم المجتمعي
تُظهر الدراسات أن المريضات اللاتي يشاركنَ في برامج دعمٍ مجتمعية، سواء عبر الجمعيات الخيرية، أو المبادرات الصحية، أو الحملات التوعوية، يتمتعنَ بصحةٍ نفسية أفضل، ونسب التزامٍ أعلى بالعلاج. وتُوفر هذه البرامج شبكات دعمٍ اجتماعي تبني روابط قوية بين الناجيات، ورش عملٍ تثقيفية حول التغذية، النشاط البدني، وإدارة الضغط النفسي، إلى جانب أنشطة ترفيهية تُعيد دمج المريضة في المجتمع، وتُخفف شعورها بالعزلة.
البعد المهني والنفسي للأطباء
على الفريق الطبي إدراك أن المريضة لا تعاني من سرطان الثدي وحده، بل من "تجربةٍ حياتية كاملة"، يقول الدكتور عساف. لذا، على الأطباء والممرضين اعتماد أسلوب تواصلٍ إنساني يدمج بين المعلومات الطبية والدعم العاطفي، تدريب الطاقم الصحي على مهارات الاستماع الفعّال والكشف المبكر عن الاضطرابات النفسية، وإحالة الحالات الصعبة إلى مختصين نفسيين دون تردد. مع ضرورة تدريب المريضات على مهارات التكيَف مثل إدارة القلق وحل المشكلات، تشجيع الناجيات على النشاط البدني باعتباره أداةً فعّالة لتحسين المزاج وتقليل التوتر، إضافةً إلى التثقيف المستمر للأسرة والمجتمع حول أهمية الدعم النفسي.
في الختام؛ فإن التعافي من سرطان الثدي هو أول مرحلة العودة للحياة الطبيعية؛ يتبعه بالتأكيد نظامٌ غذائي وحياتي صحي، يضمن عدم عودة المرض من جديد، ويُتيح للناجية استعادة نشاطها وإقبالها على الحياة. فضلًا عن أهمية الدعم النفسي خلال العلاج وبعده، لاستعادتها ثقتها بنفسها ومساعدتها على الإندماج من جديد في المجتمع.