
رياضةٌ غير مكلفة وفوائدها لا حصر لها: تعرفي على التأثير الصحي للمشي السريع اليومي
لعل فريدريك نيتشه، عندما قال: "كل الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي" كتب هذه العبارة من وحي تجربةٍ خاصة؛ وجان جاك روسو الكاتب المعروف بروحه التواقة للحرية، أكدَ هذا الأمر في قوله: "عندما أمشي، أتحررُ من قيود المجتمع، وأصبحُ أكثر قربًا". أما شاعرنا وكاتبنا وفيلسوفنا العبقري اللبناني الجميل جبران خليل جبران، فكان يتخذ من المشي وسيلةً لممارسة حبه الأكبر للتأمل، ويقول: "في المشي تأمل، وفي التأمل حياة".
ما كل هذه العبارات والجُمل الخالدة، التي سطَرها لنا فلاسفةٌ وكتَاب ومفكرون على مر الزمن، إلا تأكيدٌ جديد على أهمية المشي كنوعٍ من الحركة الدائمة، عوضًا عن الخمول والكسل. لكننا اليوم سنتحدث عن نوعٍ آخر من المشي، ليس العادي والهادف للتأمل والتفكير، وإنما المشي السريع الذي يُعزَز الصحة بشكلٍ عام، إنما بصورةٍ واعية أيضًا.
يُحدَثنا كلٌ من الدكتور ديباك مولاسيري رافيندران، أخصائي العلاج الطبيعي الأول في مركز ميدكير للعلاج الطبيعي وإعادة التأهيل؛ والدكتورة كريمة عرود، ممارسة طب وظيفي من عيادة ويلث دبي عن أهمية المشي السريع وكيف يمكننا تطبيقه ضمن حياتنا اليومية، الصاخبة والمزدحمة، حتى خلال الصيف.
المشي: التمرين الذي يختبأ أمام أعيننا
عندما يفكرُ معظم الناس في الرياضة، يتخيلون صالاتٍ رياضية مليئة بالأوزان، أو تمارين عالية الكثافة، أو جريًا طويلًا تحت أشعة الشمس. لكن أحد أكثر مُعزَزات الصحة فعاليةً لا يتطلبُ عضويةً أو معداتٍ أو تقنياتٍ معقدة؛ إنه شيء تعلَمناه جميعًا قبل عيد ميلادنا الأول: المشي.
وليس أي مشي - أنه مشيٌ سريع وهادف؛ تخيَليه "مشيًا بوعي". هذا النشاط البسيط يمكن أن يُغيَر طريقة تقدَمنا في السن، وطريقة مكافحتنا للأمراض، وحتى شعورنا كل يوم. المشي السريع أشبه بحبوب الصحة اليومية - بدون آثار جانبية، يؤكد الدكتور رافيندران.

لماذا يُحدث المشي "السريع" فرقًا؟
المشي الهادئ مريح، إنما لتحقيق مكاسب صحية حقيقية؛ عليكِ رفع معدل ضربات قلبكِ، وتسريع تنفسكِ قليلًا، والشعور بخطواتكِ تطول. وهنا يأتي السحر. فالمشي السريع لمدة 20-30 دقيقة يوميًا يُحسّن صحة القلب والرئة. كما:
• يُساعد على حرق السعرات الحرارية والتحكم في الوزن.
• يُخفّض نسبة السكر في الدم ويُقلّل من خطر الإصابة بالسكري.
• يُحافظ على ترطيب المفاصل وقوة العظام.
• يُخفّف التوتر، ويُحسّن المزاج والنوم.
• يُمكنكِ أيضًا تحسين مؤشرات الصحة، مثل ضغط الدم، ومستويات السكر، وحتى المزاج، في غضون أسابيع من اتبَاع المشي السريع كروتين يومي.
فوائد المشي السريع لجميع الأعمار والمراحل
وفقًا للدكتور رافيندران، فالمشي السريع يمكن أن يكون مفيدًا للجميع وفي كافة المراحل العمرية. ويُسهب في شرح تلك الفوائد على الشكل التالي:
1. الأطفال والمراهقون: يساعد المشي السريع على نمو العظام، ويُعزَز التركيز، كما يحافظ على صحة وضعية الجسم في عصرٍ يُهيمن فيه استخدام الشاشات. وغالبًا ما ترى العائلات التي تُكثر من المشي في المساء أو في عطلات نهاية الأسبوع، أطفالها أكثر نشاطًا وقدرة على التركيز في المدرسة.
2. كبار السن: يُقوَي المشي العضلات، ويُحسّن التوازن، ويُقلَل من خطر السقوط. حتى الروتين اليومي البسيط يُمكن أن يُخَفف من تصلَب المفاصل ويُؤخر تدهور الحالة الصحية المرتبط بالعمر. ولا يقل الجانب الاجتماعي أهميةً عن ذلك، فالمشي مع الأصدقاء يُمثل تمرينًا ورفقةً. "المشي هو المُعادل الأمثل للتمرين - يُمكن للجميع مُمارسته، في أي مكان."
3. الحوامل: يُعدَ المشي من أكثر الأنشطة أمانًا أثناء الحمل؛ فهو يُساعد على التحكم في الوزن، ويُقلَل من آلام الظهر، ويُحسّن الدورة الدموية، ويُهيئ الجسم للولادة. ويُعدَ المشي القصير والمتكرر مع ارتداء أحذيةٍ داعمة وشرب كمياتٍ كافية من الماء، فعالًا للحوامل بشكلٍ خاص.
4. الرياضيون وممارسو التمارين الرياضية بانتظام: حتى الرياضيون المحترفون يستفيدون. بالنسبة لهم، يُعدَ المشي السريع وسيلةً فعالةً للتعافي - فهو يُعزَز الدورة الدموية دون إجهاد المفاصل. يساعد المشي على تخفيف آلام العضلات، ويمنع الإرهاق، ويحافظ على القدرة على التحمل. ويستخدم العديد من العدَائين ولاعبي كرة القدم المشي على المنحدرات لبناء القدرة على التحمل بين أيام التدريب.
أهمية المشي السريع في الإمارات
إن أسلوب حياتنا في دولة الإمارات يجعل المشي أكثر من مجرد خيار، بل ضرورة، يقول الدكتور رافيندران. فهذه الرياضة مهمةٌ للحالات التالية:
• داء السكري والسُمنة: إذ يُعاني ما يقرب من واحد من كل خمسة بالغين من داء السكري. ويُعدَ المشي من أبسط الطرق للمساعدة في التحكم بنسبة السكر في الدم.
• أيام العمل المستقرة: إن ساعات العمل الطويلة وازدحام المرور كل يوم تقريبًا، تجعل الكثيرين متيَبسين ومتعبين؛ لذا فالمشي السريع يُعيد تأهيل الجسم ويُنعش العقل.
• تحدي المناخ: الصيف حار، لكن البدائل مثل المشي في المراكز التجارية، والصالات الرياضية، والمسارات الداخلية تجعل الاستمرار في هذه الرياضة مُمكنًا على مدار السنة. في مدينة السيارات وناطحات السحاب، لا يزال المشي أفضل طريقةٍ لتحريك جسمك للأمام.
كيف تمشين "بسرعة كافية"؟
كيف تعرفين ما إذا كانت سرعتكِ مناسبة؟ استخدمي "اختبار التحدث"، يجيب أخصائي العلاج الطبيعي الأول في مركز ميدكير للعلاج الطبيعي وإعادة التأهيل. فإذا كنتِ تستطيعين إجراء محادثةٍ ولكنكِ لا يمكنكِ الغناء بشكلٍ مريح، فأنتِ في المكان المناسب.
بالنسبة لمعظم البالغين، يعني هذا حوالي 100 خطوة في الدقيقة أو سرعة 5-6 كم/ساعة. ستشعرين بارتفاع نبضات قلبكِ، لكن يجب أن يظل المشي ممتعًا - وليس مرهقًا.
1. اجعليه أسلوب حياة، لا مهمة روتينية: هنا يتفوق المشي على معظم أشكال التمارين الأخرى؛ فهو يندمج بسهولة في حياتكِ اليومية.
2. قسّمي المشي إلى فتراتٍ زمنية أصغر: ثلاث جولات مشي سريعة لمدة 10 دقائق فعّالة مثل جلسةٍ واحدة لمدة 30 دقيقة.
3. حوّلي مهامكِ اليومية إلى فرصٍ للمشي: اصعدي الدرج، أو اركني سيارتكِ بعيدًا، أو امشِ أثناء المكالمات الهاتفية.
4. استكشفي مساراتٍ جديدة: تُضفي المتنزهات على الواجهة البحرية، أو الحدائق العامة، أو الشوارع المظللة لمسةً منعشة للمشي.
5. سجّلي خطواتكِ: سواء كانت 6000 أو 10000 خطوة يوميًا، فإن الأرقام تُبقيك متحفزةً.
قريبًا، سيتوقف المشي عن كونه مجرد "تمرين" ليصبح ببساطةٍ، جزءًا من شخصيتكِ.
فوائد خفية للمشي السريع على الصحة النفسية
كثيرًا ما نتحدث عن فوائد المشي للقلب والخصر، لكن فوائده للدماغ لا تقل إثارةً للإعجاب. فالمشي السريع يُحسّن المزاج، ويُحسّن التفكير، ويُخفّف التوتر. وعلى عكس التمارين عالية الكثافة، نادرًا ما يُرهقكِ، بل يُهيئكِ للمزيد.
يقول الدكتور رافيندران: "المشي ليس مفيدًا لجسمكِ فحسب، بل هو بمثابة زر إعادة ضبط لعقلكِ." ويقدم لكِ هذه الوصفة العالمية:
• لعلّ أبرز ما يُميَز المشي السريع هو أنه حقٌ للجميع.
• يكتسب الأطفال أجسامًا أقوى وعقولًا أكثر حدة من خلال المشي.
• يُحسّن البالغون من إدارة التوتر ومخاطر الأمراض المزمنة.
• يُحافظ كبار السن على استقلاليتهم وحيويتهم.
• تجد النساء الحوامل راحةً طبيعية وآمنة في المشي.
• يحمي الرياضيون أنفسهم من إصابات الإفراط في التمرين.
إنها حقًا وصفة عالمية، مجانية وفعالة ومتوفرة دائمًا. وفي عالم تزداد فيه الرعاية الصحية تعقيدًا وتعتمد على التكنولوجيا، من السهل نسيان أبسط الأدوات؛ والمشي السريع يوميًا هو أحدها.
ويختم الدكتور رافيندران بالقول: "لو أن كل بيتٍ تبنَى المشي السريع عادةً يومية، لكانت آثاره على الصحة والسعادة تمتد عبر الأجيال. لذا، اربطي حذائكِ، واخرجي (أو توجهي إلى المركز التجاري في الأيام الحارة)، واسترجعي متعة الحركة - مشيٌ سريع تلو الآخر.

لماذا المشي السريع فعال؟
سؤالٌ طرحناه على الدكتورة عرود، وتجيب عليه بالآتي:
تُبقينا الحياة العصرية ملتصقين بالشاشات ومُقيّدين خلف المكاتب. ولكن هناك حلٌ بسيط في متناول الجميع - المشي السريع. لا حاجة لصالاتٍ رياضية فاخرة أو معداتٍ باهظة الثمن؛ فقط بعض الأحذية المريحة والرغبة في تسريع وتيرة المشي.
بالنسبة لممارسة الطب الوظيفي في عيادة ويلث:
• يُعدَ المشي من أقدم أشكال التمارين وأكثرها سهولةً.
• يكفي المشي السريع (4-6 كم/ساعة) لرفع معدل ضربات القلب وتحقيق فوائد صحية حقيقية.
• يُقلَل المشي السريع المُنتظم من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، وداء السكري من النوع الثاني، وحتى الوفاة المبكرة.
• يميل المُشاة الأسرع إلى العيش لفترةٍ أطول والحفاظ على حركةٍ أفضل.
الفوائد الجسدية للمشي السريع
حتى لو كان الوقت أو الدافع أو الموارد محدودةً، فإن المشي السريع يُحقق نتائج ملموسة يمكن تلخيصها بالتالي:
• يحرق ما يقرب من 150-200 سعر حراري في جلسةٍ مدتها 30 دقيقة (يختلف ذلك باختلاف وزن الجسم والوتيرة).
• يُساعد على التحكم في الوزن وفقدان الدهون مع مرور الوقت.
• انخفاض خطر الإصابة مقارنةً بالتمارين عالية الكثافة، مما يُسهّل المواظبة عليها.
• يُحسّن حساسية الأنسولين ويساعد على التحكم في مستويات السكر بالدم.
• يُشجّع الجسم على استخدام الدهون كوقود، خاصةً بعد الوجبات أو أثناء الصيام.
فوائد المشي السريع على الصحة النفسية والعاطفية
بحسب الدكتور عرود، لا تقتصر فوائد المشي السريع على الجانب الجسدي فحسب، بل له أيضًا فوائد نفسية كبيرة؛ فالمشي:
1. يُحفّز إفراز الإندورفين، مما يُقلّل التوتر ويُحسّن المزاج.
2. يزيد تدفق الدم إلى الدماغ، ما يدعم التركيز والذاكرة.
3. يرتبط المشي المنتظم بانخفاض معدلات القلق والاكتئاب.
4. يُعزّز المشي في الهواء الطلق هذه التأثيرات من خلال التعرض للضوء الطبيعي والمساحات الخضراء.
الاستدامة والنتائج طويلة المدى للمشي السريع
ليس الإتقان شرطًا أساسيًا، تؤكد الدكتورة عرود؛ ولكن المواظبة هي الأساس في المشي السريع. تتراكم أنواع المشي القصيرة والمتكررة (حتى لو كانت 10 دقائق بعد الوجبات) مع مرور الوقت؛ في حين أن المشي السريع مستدام، ويسهل دمجه في الحياة اليومية، ويدعم الأهداف الصحية طويلة المدى.
نصائح عملية لبناء هذه العادة
• ابدأي بالوقت: خصَصي 20-30 دقيقة يوميًا للمشي، ثم زيدي سرعتكِ تدريجيًا.
• اجعلي المشي هادفًا: استخدميه للتنقل، أو قضاء المهمات، أو لكسر وقت الشاشة.
• استمتعي بعملية المشي: استمعي إلى الموسيقى، أو الكتب الصوتية، أو ببساطة انغمسي في محيطكِ أثناء المشي.
• تابعي تقدمكِ: من خلال استخدام عداد الخطوات، أو الساعة الذكية، أو تطبيق الهاتف المحمول لمراقبة خطواتكِ وسرعتكِ.
• امشِ في ضوء النهار: المشي صباحًا أو بعد الظهر يمنحكِ دفعةً من الطاقة ويساعد على تنظيم أنماط النوم.
• يُعدَ المشي السريع استراتيجيةً عملية ومنخفضة التكلفة لتحسين صحتكِ، وإدارة وزنكِ، وتعزيز صفاء ذهنكِ.
تختم الدكتورة عرود بالقول أنه وبفضل سهولة الوصول إليه واستدامته؛ يُعدَ المشي السريع من أكثر العادات فعاليةً التي يمكن لأي شخص اكتسابها لصحته على المدى الطويل.
في الخلاصة؛ فإن المشي السريع قد يكون أفضل نوعٍ حركي أو بدني يقوم به الإنسان في مختلف مراحله العمرية وحالته الصحية. فهو يدعم الصحة ويقي من الأمراض ويُعزَز الصحة النفسية والعقلية. لذا لا تتوقفي عزيزتي عن المشي، حتى داخل المنزل أو في المكتب أو بعد انقضاء اليوم الطويل في العمل والدراسة، لأن هذه الرياضة الخفيفة وغير المُكلفة تعود عليكِ بالكثير من المنافع.