
خاص "هي": مُدن السعودية عبر عيون بناتها.. حكايات تُروى بحب
لا نحتفي فقط بتاريخٍ عريق في السعودية ، بل نروي فصول حاضر نابض ومستقبل يتشكل بحلم ووعي. السعودية ليست قصة واحدة تُحكى، بل فسيفساء من الحكايات، تُكتب في أزقتها القديمة كما تُرسم على ناطحات سحابها الحديثة، وتُروى بصوت أبنائها الذين يبنونها ويضيئون ملامحها للعالم.
في هذه الرحلة، ندخل قلب مدن ومناطق سعودية من خلال عيون نساء سعوديات بارزات؛ يعكسن نبض المملكة، ويكشفن لنا أسرارها بين إرث خالد وحداثة متجددة. من الأزقة التي تحمل عبق الماضي، إلى مشاهد الإبداع والفن والأزياء والطهو التي تشكّل ملامح اليوم، تنبض كل مدينة ومنطقة بحكاية تُجسّد هُوية وطن يعيش نهضة غير مسبوقة. تحتفي "هي" في هذا العدد بالسعودية عبر بناتها الفنانة شرقية، الفنانة التشكيلية حصة نايف، صانعة محتوى رقمي وأسلوب حياة سجى، والفنانة البصرية والمخرجة الإبداعية بيان محمد ياسين،، حيث يتجلى الإبداع جسرا بين الأصالة والتجديد، وتتحول المدن إلى مرايا تعكس روح السعودية المتنوعة والمتجددة. إنها ليست مجرد رحلة عبر الجغرافيا، بل لوحة حيّة لهُوية وطنية تُبنى بالحلم والابتكار، وتُروى بصدق وانتماء.
شرقية – فنانة
"هي من الشرقية". نعم، أنا ابنة المنطقة الشرقية، وأفتخر بذلك. هو اسم أتشرّف بحمله، اسم يربطني بالبحر، بلآلئ أجدادي، وذكريات طفولتي. أنا من مدينة صغيرة تدعى سيهات، لكن انتمائي يمتدّ إلى كل أنحاء المنطقة الشرقية. في الخُبَر أمضيت معظم أيام طفولتي، وعاشت عائلتي. وعلى الرغم من أنني تنقّلت كثيرا خلال سنوات نشأتي، شعرت دائما بأن هُويتي تعود إلى موطنها ومنزلها ومسقط رأسها كلما عدت إلى الشرق.

سيهات مكان أشعر بأنه عميق الجذور، ومتماسك الأجزاء، ومألوف، ومحمّل بالقصص التي يتناقلها أبناء عائلتي، جيلا بعد جيل. أجد راحة معيّنة في أن جميع أهلها يعرفون بعضهم بعضا، وأن جمعاتها ولقاءاتها تمتدّ وتنتشر في الشوارع والبيوت.
أما الخبر، فقد أعطتني شيئا مختلفا، لأنها مكان أتى إليه ناس من كل حدب وصوب ليعيشوا ويبنوا ويؤسسوا، وقد أثّر هذا التنوّع فيّ بالقدر نفسه.

وجودي هناك علّمني كيف أتواصل مع أشخاص لا يشاركونني الخلفية نفسها، وأجد أرضية مشتركة، وأشعر بالانتماء في الاختلاف.

من أكثر ما أحبّه في المنطقة الشرقية، هدوؤها. فتبدو الحياة أبطأ وأسهل بطريقة ما، بعيدا عن الاستعجال الذي لمسته في أماكن أخرى. والناس يعكسون هذا السكون؛ فنراهم دائما منفتحين ومرحّبين ولا يتعجّلون يوما في إغلاق أبوابهم. ومجتمعك هنا لا يتوقف عند حدود عائلتك المباشرة، بل يصبح الجيران والأصدقاء وحتى الغرباء امتدادا لها. ذلك الإحساس بالانتماء لعب دورا كبيرا في رسم ملامح شخصيتي، وما زال يؤثر في نظرتي إلى العالم.

البحر أيضا جزء من هُويتنا. أجدادي بنوا حياتهم حوله، وأشعر بأكبر قدر من الاستقرار حين أكون قريبة منه. وأحيانا أتساءل إن كان هذا الارتباط وراثيا.

المنطقة الشرقية هي أشياء كثيرة. هي مألوفة وغنية بتنوّعها، بسيطة ومتعددة الطبقات. هي وطني، وستبقى دائما المكان الذي تبدأ فيه حكايتي.
حصة نايف - فنانة تشكيلية
حين أتكلم عن المنطقة الجنوبية أشعر كأنني أتكلم عن مرآة داخلية عكست لي أبعادا جديدة من هُويتي. أنا لست من الجنوب في الأصل، فقد قضيت سنوات طويلة خارج المملكة، لكن حين عدت إلى وطني، وجدت في الجنوب مساحة دهشة وإلهام لم أجدها في أي مكان آخر.

الجنوب ألهمني كفنانة تشكيلية لأنه ليس مجرد مكان، بل قصة حيّة تتنفس في الجبال، وتترسخ في القرى الحجرية، وتغني في أصوات الفولكلور وألوان الأزياء.

هناك، يطل طائر العقعق العسيري المهدد بالانقراض، وكأنه يختصر معنى الانتماء والتشبث بالأرض. لم يكن هذا الطائر بالنسبة إلي مجرد رمز بيئي، بل هو صورة وجدتها قريبة من ذاتي؛ يعيش بين الندرة والتحدي، تماما كما عشت أنا بين الترحال والبحث عن الجذور. ولهذا وثّقت قصته في أعمالي الفنية، لأجعل منه رمزا بصريا يحكي عن الاستمرارية والانتماء. ومن بين الجبال، يبرز مبنى رجال ألمع الذي تجاوز عمره تسعمئة عام، كقصيدة حجرية تروي حكاية المكان.

حين أقف أمامه أشعر بأنني أمام عمل فني ضخم، حيث يتحول الحجر إلى ذاكرة، والنقوش إلى لغة تتجاوز الزمن. ولم يكن حبّي للجنوب استثناء، فقد سبقني إليه الأمير خالد الفيصل حين كان أميرا لعسير، واشتهر بعشقه العميق لها، حتى غدت قصائده مرآة صادقة لروحها. أجد نفسي أشبهه في هذا الحب، خصوصا حين أستحضر كلماته:
عادني صدق المشاعر في عسير
في شموخ جبالها ورجالها
يشهد اللي حط منزلهم كبير
في خفوقي للرجال أبطالها

ما يجعل الجنوب مميزا في عيني ليس جمال طبيعته فقط، بل طاقته الإنسانية؛ دفء أهله، وكرمهم، وبساطتهم، وحبهم للحياة، فهو منطقة تجتمع فيها الأصالة والروح، وتدعوك لتشعر بأن الوطن ليس جغرافيا فحسب، بل هو تجربة وجدانية تتقاسمها القلوب. بالنسبة إلي، الجنوب هو قصيدة مفتوحة، أستمد منها ألوانا وأفكارا وقصصا أرويها للعالم عبر فني. علّمني أن الانتماء لا يقتصر على النسب أو الجغرافيا، بل يمكن أن يولد من الإلهام، من طائر نادر وثّقت حكايته، من مبنى صامد منذ قرون، ومن قصيدة تُنشد في حب الأرض والإنسان.

وهكذا صار الجنوب جزءا من حكايتي، وجزءا من صورة السعودية التي أفتخر أن أكون ابنة لها.
سجى – صانعة محتوى رقمي وأسلوب حياة
للمكان الذي ينشأ فيه الإنسان قوة تأثير فيه في جميع جوانب حياته الشخصية والثقافية والاجتماعية، فكيف إذا كانت نشأتك في مدينة ذات حضور استثنائي مثل مدينتي الرياض مركز التقاء القارات، وقلب العالم الإسلامي النابض، ومركز تجارة الشرق الأوسط، ووجهة الاستثمار العالمي.

المدينة التي أعادت صياغة قواعد اللعبة العالمية في وقت تتسارع فيه العواصم لتكون الوجهة الأولى للعالم.
مدينتي مدينة كل الأزمنة، يفهم كلماتي كل من عاش على أرضها، وكبر من خيرها، وكتب حكاياته في أروقتها.

مدينتي مدينة العالم، التي جمعت في قلبها دول العالم في منطقة أجزم بأنها كانت وما زالت جزءا لا يتجزأ من ذكريات وحاضر أهل الرياض. فيها تعلمنا حوار الثقافات، ومنها انطلقنا لإدارة الحوارات واتخاذ القرارات وقيادة المبادرات التي أشادت بها القارات.

مدينتي مدينة أجمل الذكريات، قضيت فيها أجمل سنوات الدراسة بدءا من الروضة في جنبات جامعة الملك سعود العريقة، وانتهاء بتخرجي في أحد أبرز صروحها التعليمية.

مدينتي مدينة المستقبل، المحتفظة بأصالتها والمحافظة على هُويتها في قمة حضارتها، هذا ما يميّز الرياض. لم تنسَ من هي، فهي الواحة القابعة في قلب الصحراء، والتي وضعت على عاتقها أن تلامس عنان السماء.

مدينتي التي لا تشبهها مدينة، مختلفة في كل تفاصيلها في إحساسها وفي ناسها، وحتى في حماسها الذي ترى انعكاسه في كل شخص يسعى على أرضها، هي موطن الطموحات، فشوارعها تحكي قصص تفاني أبنائها وبناتها، وأبنيتها شاهدة على تاريخ عطاء عريق وهمة لقمّة قريبة ومستقبل واعد!
مدينتي مدينة الأحلام..

حفظك الله يا مدينتي البهية القوية، وأدامك المولى يا مدينة القرار في استقرار وأمن دائم وأمان.
بيان محمد ياسين - فنانة بصرية معاصرة ومخرجة إبداعية

جدة بالنسبة إلي ليست مجرد مدينة، بل هي ملتقى القلوب والمشاعر. فخورة بأنني وُلدت على أرضها، تلك الأرض التي علمتني أن التنوع قوة، وأن الانتماء يتشكل من الحكايات الصغيرة التي نصنعها يوما بعد يوم.
ترجع جذوري إلى الجنوب، إلى أمي وأبي اللذين قدما من هناك ليستقرا في جدة. أمي كانت تخيط "الكُرتة" لأهل المدينة، لكنها حملت اعتزازا عميقا بثقافتها الجنوبية، وغرست في داخلي حب الأصالة والهُوية. كبرتُ في بيت ملامحه حجازية، لكن روحه جنوبية، وهذا المزيج بين الروح والمكان شكّل وجداني الفني والإنساني.

جدة علّمتني أن تكون الأرض حضنا واسعا. هي ليست فقط مدينة، بل بيت جمع العوائل من كل مكان، ونسج بينها قصص ألفة وانتماء. طفولتي كانت مليئة بضحكات لا تُنسى في ملاهي العيدروس، وجري بين أزقة جدة التاريخية، حيث الحجر العتيق يروي حكايات قرون مضت. "البلد" بالنسبة إلي ليست مجرد منطقة، بل ذاكرة حيّة، تحمل في قلبها رائحة البهارات، وأصوات الباعة، ولمعة العيون التي تحلم دائما بالمستقبل.
اليوم، وأنا أمارس دوري بصفتي فنانة بصرية ومخرجة إبداعية، أجد أن كل خطوة في مسيرتي تحمل أثر جدة. فهي المدينة التي علمتني أن أرى الجمال في التفاصيل، وأن أحتفي بالاختلاف والتنوع، وأن أترجم المشاعر الإنسانية إلى فن. جدة هي البحر الذي يفتح أبوابه لكل الموجات، وهي المدينة التي تمنح كل من يسكنها فرصة ليعيد اكتشاف نفسه.

متـجـــري المــفــضـــل هو رافـــعـــة، حيـــث يسلّــط الضـــوء علـى المــنـتـجـــــات والمشاريع المحلية التي تعكس تراثنا وقيمنا كسعوديين. يقدم تصاميم عبايات عملية وعصرية تناسب أجواء العمل والسهرات أيضًا. ما يميزها اعتمادها على خامات تتماشى مع مناخ المملكة والخليج بشكل عام، إضافةً إلى التطريز اليدوي الذي يمنح كل قطعة قيمة خاصة ولمسة جمالية فريدة.
من هنا، من جدة، أحمل صوتي كجزء من قصة السعودية الجديدة. قصة لا تُروى بصوت واحد، بل بأصوات متعددة، تماما كما احتضنتني هذه المدينة وأنا ابنة الجنوب التي وجدت في الحجاز بيتا ثانيا. جدة بالنسبة لي ليست ماضيا فقط، بل هي حاضر نابض ومستقبل ممتلئ بالوعد.
