
خاص "هي": وريثة الشغف نجلاء محمد السليم.. من إرث الـريــادة إلى حضورها المستقل
مع اتساع دور الفنون في صياغة الهُوية وإبراز الذاكرة، يطلّ اسم نجلاء السليم بوصفه امتدادا لإرث رائد، وصوتا معاصرا يسعى لكتابة فصله الخاص. فهي ابنة الفنان الراحل محمد السليم، من أوائل من أسس كيانا مكرسا للفن التشكيلي في المملكة، وهو صاحب فكرة مدرسة "الآفاقية". لكنها في الوقت نفسه فنانة بَنَت مسيرتها على التجربة والمعرفة والممارسة المستمرة، لتؤكد أن الإرث لا يقيّد، بل يفتح أبوابا جديدة للإبداع.
في هذا اللقاء نقترب من رحلتها التي جمعت بين ذكــريـــات البــيـــت الأول، والـــدراســــة الأكـاديــمــيــــة في الــخــارج، والتجــــارب الطويلة في المرسم، لنكشف كيف تنظر نجلاء إلى العلاقة بين الماضي والحاضر، وكيف تعيد صياغة حضورها بصفتها فنانة سعودية تحمل الذاكرة، لكنها تكتب صوتها الخاص. حين يُذكر اسم نجلاء السليم، يحضر اسم والدها الفنان الرائد محمد السليم كظلّ كثيف يسبقها. لكنها لا ترى هذا الظل عبئا بقدر ما هو شرف ومسؤولية. تقول: "لا شك أن ارتباط اسمي باسم الوالد هو فخر وشرف كبير، فهو المربي قبل أن يكون معلمي في الفن. منه تعلمت أن أكون إنسانة قبل أن أكون فنانة، وأن أرسم الحياة قبل أن أرسم على القماش".

كانت الابنة الكبرى قريبة منه بفارق خمسة وعشرين عاما فقط، تلازم خطواته في بداياته، تتابع عمله في التلفزيون السعودي حين كان يرسم المناظر والديكور، وتصطحبه إلى فلورنسا، حيث درست الابتدائية، وتشرّبت أجواء الفن الأوروبي مبكرا. منذ تلك السنوات المبكرة ترسخ في وجدانها أن الفن ليس هواية عابرة، بل هو أسلوب حياة متكامل.
مع كل ما منحها والدها من تربية فنية، جاءت لحظة حاسمة شعرت فيها نجلاء بأن عليها أن تبني مسارها الخاص. تلك اللحظة تجسدت عندما رافقت زوجها الراحل عبدالله الزيد إلى الولايات المتحدة. تقول: "كنت قد تخرجت في الكيمياء، فنصحني والدي بدراسة الفنون الجميلة هناك. حصلت على بكالوريوس ثانٍ عام 1993، وهناك أدركت أن الفنون لا تنحصر في أسلوب واحد، بل تتجدد وتتطور مع الاستمرارية والممارسة والتجريب".

تحتفظ نجلاء بذاكرة بصرية نابضة من بيت الطفولة، تضيء كل مرة تبدأ فيها لوحة جديدة تقول: "كنت في المرحلة المتوسطة أذهب صباحا إلى مرسم والدي، أتأمل لوحته الجديدة، وأستخدم بقايا الألوان على الباليتة لأرسم لوحتي الصغيرة. كان يسعد بهذا السلوك، ويشجعني، لتتحول اللحظة إلى نقاشات فنية وحوارات فلسفية حول أهمية الفن في الحياة".
بالنسبة إليها، البيت لم يكن جدرانا وأثاثا، بل كان مرسما حيا يختزن قيم الجمال والمعنى. ولو رسمته كلوحة، لكانت عناصره أيادي الأب والأم تحيط بالأبناء، تمتد فوق أفق النخيل، يظللها بياض قلوب طاهرة لا يمكن حصرها في إطار. على الرغم من أن رحلتها الأكاديمية بدأت بالكيمياء، ظل الفن حاضرا في حياتها. لم تتخلَّ عنه حتى أثناء دراستها للعلوم. تعبر: "في البداية كان الرسم هواية ومتنفسا، لكن حين التحقت بجامعة ميتشغن أدركت العلاقة الخفية بين الفن والكيمياء: التفاعلات، والمزج، والإيقاع، والشد والجذب بين العناصر. هناك وجدت صلة غير مباشرة بين الخطوط والألوان كما بين الذرات والمعادلات". هذا الوعي منحها قدرة على النظر إلى اللوحة كتجربة مخبرية معقدة، توازن بين الحسية والعقلانية.
بالنسبة لنجلاء، لوحاتها امتداد بلغة مشتركة تتنوع موضوعاتها تقول: "ليس لأنني استخدمت أسلوب والدي يعني أنني أكرر رسالته، لكل منّا رؤية مختلفة بحسب زمنه وظروفه. ما يجمعنا هو اللغة البصرية والانتماء للبيئة، لكن القضايا التي أعبّر عنها تخص جيلي وظروفي".

لم تقتصر تجربتها على اللوحة الشخصية، بل حملت إرث والدها إلى فضاء المزادات العالمية تقول: "بعد وفاة الوالد عام 1997، غاب اسمه طويلا عن الساحة. حتى عام 2016 حين أدخلت إحدى لوحاته المزاد العلني، لأنني رأيت أنها الطريق الأفضل لتسليط الضوء على والدي ومشواره وأعماله الفنية لأهميته كفنان رائد في السعودية، ومن هناك عاد اسمه لمكانته، حتى وصلت أسعار أعماله في آخر مزاد أقيم عام 2025 إلى أربعة ملايين ريال سعودي". بالنسبة لنجلاء، السوق لم يكن غاية في ذاته بقدر ما كان وسيلة لإعادة الاعتبار لاسم والدها وإبراز مكانته باعتباره أحد رواد التشكيل في المملكة. أما كونها ابنة لفنان رائد، فهي ترى أنه منحها نموذجا حيا للشغف والإصرار، وسهّل عليها بعض الخطوات التي قد تكون صعبة على فنان لا ينتمي لأسرة فنية. لكنها تؤكد أن هذا وحده لا يكفي. وتقول: "الاعتماد على الدراسة والممارسة والبحث المستمر هو ما يصنع حضور الفنان الحقيقي، ويمنحه مكانة مؤثرة في الساحة، وليس مجرد الحضور لمجرد أنني ابنة السليم".
ومع ذلك، يبقى حضور والدها في كل لوحة، توضح: "في كل مرة أدخل المرسم، أشعر بوجوده معي، برائحة الزيت والتنر والفرش. هو يشاركني في اختيار الألوان، وفي تمرير الرسائل، حتى وهو في الغياب".