مؤسسة منصة بسموكا لدعم الفن والفنانين بسمة السليمان

مؤسسة منصة بسموكا لدعم الفن والفنانين بسمة السليمان تكتب لـ"هي": النمو الشخصي.. مسار العمر لا محطته

مجلة هي
21 أكتوبر 2025

النموّ الشخصي ليس محطة نهائية نصل إليها، بل هو مسار ممتد يرافق الإنسان طوال حياته، ويحتاج إلى جهد متواصل ووعي دائم في اختياراته. يبدأ هذا المسار من يقين داخلي بأن التقدّم لا يُمنح من الخارج، بل يُصنع من الداخل، وأن كل خطوة إلى الأمام ثمرة قرار مدروس وفعل مقصود.

التعليم هو أول لبنة في رحلة النمو. لا أعني التعليم النظامي فقط، على الرغم من أهميته في تزويدنا بالمعرفة والأسس، بل أقصد التعلم المستمر بجميع أشكاله: القراءة، والبحث، والنقاش، بل وحتى الملاحظة اليومية للحياة، كلها أدوات تبقينا أحياء فكريا.

شخصيا، أجد نفسي في حالة تعلم مستمر. الفضول بالنسبة إلي ليس مجرد صفة، بل هو دافع أساسي يحركني. في كل يوم أتعلم كلمة جديدة، أبحث في موضوع لفت انتباهي، أو أستكشف فكرة لم تخطر لي من قبل. هذا الفضول هو ما يبقيني يقظة، ويجعل عقلي يتجدد بدل أن يشيخ بالرتابة.

النمو لا يتحقق داخل حدود الذات فقط، بل يحتاج إلى الانفتاح على الآخر. الاحتكاك بأشخاص مختلفين، والتعرف إلى ثقافات جديدة، يمنحاننا منظورا أوسع للحياة. السفر، والحوار، وحتى الصداقات العابرة يمكن أن تفتح أبوابا لم نكن نتصورها.أتذكر هنا قصة الطفلة الباكستانية "ملالا يوسفزاي" التي تحولت من طالبة تدافع عن حقها في التعليم إلى رمز عالمي. وهو ما جعل قصتها مؤثرة ليس فقط شجاعتها، بل قدرتها على أن تجعل تجربتها الشخصية قضية عالمية. مثال كهذا يوضح أن الانفتاح على الآخر قد يحوّل التجربة الفردية إلى رسالة إنسانية.

لكن الكتب وحدها لا تكفي. التجارب هي المعلم الأكبر. كل نجاح نعيشه يترك فينا أثرا، وكل عثرة نصادفها تعلمنا شيئا جديدا. التحديات قد تبدو في لحظتها عقبة، لكنها على المدى البعيد تصوغ صلابتنا.

انظروا إلى "نيلسون مانديلا"، الذي قضى 27 عاما في السجن، وخرج ليقود بلاده نحو المصالحة لا الانتقام. تحوّلت معاناته إلى مدرسة للنمو الداخلي، ومنحته حكمة لا يمكن للمدارس أو الجامعات أن تمنحها.

العادات الصغيرة هي من تشكّل شخصياتنا بمرور الزمن: التأمل، والكتابة اليومية، وممارسة الرياضة، أو حتى الجلوس مع النفس للحظة صمت.. كلها تفاصيل تصنع فرقا كبيرا على المدى الطويل.

كثيرون يظنون أن النمو يحدث عبر قرارات كبرى، بينما الحقيقة أن التحولات العميقة تأتي غالبا من التراكمات الصغيرة. تجربة بسيطة مثل تخصيص نصف ساعة يوميا للمشي، أو كتابة ثلاث جمل في دفتر شخصي كل ليلة، قد تبدو تافهة، لكنها بعد أشهر أو سنوات تصبح جزءا من هُويتنا ومن طاقتنا على المواجهة.

يبقى أن النمو الشخصي في جوهره مسؤولية فردية. قد يلهمنا الآخرون، وقد توجهنا الكتب أو المعلّمون، لكن القرار الحقيقي يبدأ من الداخل. فالانضباط، والفضول، والإصرار على المحاولة مفاتيح الطريق.

في تراثنا الإسلامي نجد الحكمة نفسها: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد". هذه العبارة لم تكن مجرد دعوة إلى التعليم، بل كانت تأكيدا أن رحلة النمو لا تتوقف، وأن الإنسان كلما تقدم في العمر ازدادت حاجته إلى المعرفة والتجربة.

النمو الشخصي ليس غاية نبلغها ثم نتوقف عندها، بل هو رفيق درب طويل. مع التعلم المستمر، والانفتاح على الآخر، والمرور بالتجارب، ورعاية العادات اليومية، نصنع أنفسنا من جديد كل يوم.

أنا أؤمن بأن الفضول هو شرارة البداية، وأن المسؤولية الفردية هي وقود الرحلة. وكلما اتسعت مساحة بحثنا واستكشافنا، صارت حياتنا أغنى بالمعنى، وأعمق في القيمة، وأصدق في الإشباع.