
خاص "هي": جمعية حرفة حكاية التراث وحديث ملهم مع الدكتورة دليل بنت مطلق القحطاني
منذ لحظة تأسيسها على يد صاحبة السمو الأميرة نورة بنت محمد آل سعود شكّلت جمعية حرفة محطة فارقة في مسيرة الحرف السعودية، فكانت جسرا يربط بين ذاكرة الأجداد وابتكارات الحاضر. حملت على عاتقها مهمة تمكين الحِرفيين والحِرفيات، وفتحت أمامهم مسارات جديدة، حتى تحولت إلى مرجع وطني في المجال، وحازت اعترافا دوليا باعتمادها جهة استشارية لدى اليونسكو.
اليوم، وبعد أكثر من خمسة عشر عاما من العمل المتواصل، نستعيد قصة هذه الجمعية من خلال حديث الدكتورة دليل بنت مطلق القحطاني الأكاديمية والباحثة في مجال الآثار والمتاحف وعضو مجلس الإدارة، التي كانت شاهدة ومشاركة في رحلة "حرفة" منذ بداياتها الأولى حتى وصولها إلى موقعها الحالي باعتبارها أحد أبرز الكيانات الثقافية في المملكة.
حين نعود إلى عام 2008، نجد أن جمعية حرفة كانت خطوة تأسيسية فتحت آفاقا جديدة للحرفيين والحرفيات في المملكة. تصف الدكتورة دليل تلك اللحظة الأولى بقولها: "بدأت قصة جمعية حرفة بفكرة ملهمة ورؤية واضحة من أميرة ملهمة، صاحبة السمو الأميرة نورة بنت محمد آل سعود رئيسة مجلس الإدارة، حيث كانت من أوائل المهتمين بصون التراث الوطني، وحفظ الحِرف التقليدية".
وتكمل الحديث: "بدأت الفكرة بلجنة صغيرة تسمى (لجنة الحِرف اليدوية)، ثم تطورت إلى إنشاء جمعية حِرفة التعاونية في منطقة القصيم عام 2008، لتكون أول جمعية تعاونية حِرَفية على مستوى المملكة والخليج العربي تحمل رسالة التراث السعودي، وتمكين الحِرفيات، وتشجيع الأسر المنتجة وتطوير الحرف اليدوية".
وتضيف: "بالنسبة لي كباحثة، وجدت في الجمعية مرجعا أساسيا ساعدني خلال بحث الدكتوراه حول حرفة السدو، فقد وفرت لي البيئة المناسبة للتوثيق الميداني ودعم الباحثين، وهو ما أسهم لاحقا في إدراج السدو ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي".
لم يكن تخصص الدكتورة دليل في الآثار والمتاحف بعيدا عن مسيرة الجمعية، بل شكّل رافعة أساسية لرسالتها. وتوضح ذلك بقولها: "تخصصي الدقيق في الحرف والصناعات التقليدية انعكس مباشرة على عمل الجمعية، حيث ركزنا على التوثيق المنهجي للمعارف المتوارثة، وربطنا التراث بالبُعد التنموي والاجتماعي. كما جعلنا البحث العلمي أداة أساسية لدعم استدامة الحرف وتمكين الحِرفيين".
وسط تعدد المبادرات والأنظمة لحماية التراث، تبرز "حرفة" ككيان له خصوصيته وتميزه. وتصف الدكتورة دليل سر هذا التميز بقولها: "ما يجعل جمعية حرفة مختلفة هو اعتمادها جهة استشارية لدى منظمة اليونسكو العالمية لحفظ التراث الثقافي غير المادي في السعودية. لقد تصدرت الجمعية المبادرات في صون التراث الحِرفي من خلال تمكين الحِرفيين، وإنشاء خطوط إنتاج متكاملة، وتوفير مصانع ومراكز تدريب، إضافة إلى مشاركات دولية أبرزت الحِرف السعودية على الساحة العالمية".
مع إطلاق رؤية 2023، أصبحت الحرف عنصرا من عناصر الاقتصاد الإبداعي، وهنا برز دور الجمعية. تصف ذلك الدكتورة دليل بقولها: "مهمة جمعية حرفة تنسجم بعمق مع رؤية المملكة ٢٠٣٠، فهي تركز على تمكين الحرفيين وصقل مهاراتهم، وتحسين المستوى المعيشي لهم من خلال دعم مشروعاتهم، وتنمية قدراتهم الإبداعية عبر ورش تدريبية متخصصة. كما نعمل على تمكين المرأة والشباب وتعزيز استدامة الحِرف بدمج التقنيات الحديثة مع الطابع التراثي المحلي".
لا تقف إنجازات الجمعية عند الحدود الداخلية، بل امتدت إلى محافل دولية، وتوضح ذلك الدكتورة القحطاني، فتقول: "أعتبر أن الاستمرارية في التدريب والتأهيل هي أعظم إنجازات "حرفة". فقد نفذنا ما يقارب 377 دورة تدريبية، و53 ورشة عمل حتى عام 2024، واستفاد منها أكثر من 11399 متدربا. نجاح هذه البرامج لم يقتصر على نقل المعرفة، بل وصل إلى صناعة كوادر جديدة، حيث تحوّل نحو 40 في المئة من المتدربين إلى مدربين مؤهلين".
لكن الطريق لم يكن سهلا، حيث تتوقف الدكتورة دليل عند أهم التحديات موضحة: "في البدايات كان من الصعب إقناع المجتمع بأهمية الحرف التراثية كرافد اقتصادي واجتماعي، فضلا عن صعوبة توفير التمويل والدعم المؤسسي. كان علينا تغيير الصور النمطية عن الحِرفيين، ومع الوقت تحولت تلك التحديات إلى فرص عززت مكانة الجمعية".
ومع توسع أعمال الجمعية، كان السؤال الملح: كيف نحافظ على الجذور، ونلبي متطلبات العصر؟ وتجيب الدكتورة دليل: "اعتمدنا على مسارين متكاملين: الأول هو صون التراث عبر التوثيق الدقيق وتشجيع الالتزام بالأصالة. والثاني هو التطوير والابتكار عبر إدخال تصاميم حديثة وأساليب تسويق عصرية. بهذه الطريقة حافظنا على روح الحِرفة وأدخلناها إلى أسواق جديدة".
بعد مرور أكثر من 15 عاما، تقيّم الدكتورة دليل مسيرة الجمعية بقولها: "رحلة الجمعية كانت غنية بالإنجازات والتحديات. نجحنا في ترسيخ حضورنا بصفتنا منصة رائدة، وبناء شراكات استراتيجية محلية ودولية، وحصدنا جوائز متعددة. وعلى الرغم من ذلك، ما زلنا ننظر للمستقبل بروح متجددة نهدف فيها إلى تعزيز الاستدامة وتوسيع نطاق التأثير، بما يتماشى مع طموحات المملكة".
وتختم حديثها برسائل واضحة للشباب الحرفيين: "تمسكوا بالأصالة، وطوّروا أنفسكم باستمرار، واستخدموا الأدوات الرقمية للتسويق، وكونوا واعين لأهمية الاستدامة البيئية في عملكم. اجعلوا منتجاتكم تعكس الهُوية والقصص، فهذا ما يمنحها قيمتها في السوق المحلي والعالمي".