
متلازمة ستوكهولم: أزمة إنسانية غربية لها أعراض نفسية وأفكار تطويرية للتعامل معها.. إليكِ أبرزها
ولدت متلازمة ستوكهولم من رحم أزمة إنسانية غريبة، وتحولت إلى مفهوم نفسي يُسلط الضوء على تعقيدات الصدمة وآليات البقاء، متحديًا التوقعات البسيطة لعلاقة "الجلاد والضحية".
وللتعرف علي علاماتها وأعراضها النفسية وكيفية التعامل مع الناجيات منها؛ سأكز خلال السطور القادمة، وعبر موقع "هي" على التطور التاريخي لهذه المتلازمة، ثم كيفية التعامل معها بناءً على توصيات رئيس قسم الطب النفسي جامعة 6 أكتوبر الدكتور طارق شلتوت من مصر.

الجذور التاريخية قبل تسمية هذه المتلازمة بهذا الاسم
أوضح دكتور طارق، أن هذه المتلازمة ارتبطت بأمثلة قديمة؛ أبرزها:
- قاتل بعض العبيد في الحرب الأهلية الأمريكيةإلى جانب الجنوبيين رغم استعبادهم، وصعوبة إقناعهم بأنهم "لم يعودوا عبيدًا".
- تمنى بعض المصريين (قصة فرعون وموسى في القرآن الكريم) انحياز السحرة لفرعون رغم ظلمه، مما يعكس تشابهًا مع المتلازمة.
- يُعتقد أن الظاهرة مرتبطة بغريزة البقاء( التفسير التطوري) في المواقف البدائية مثل" خطف النساء في القبائل القديمة".
التطور التاريخي لمصطلح متلازمة ستوكهولم
ووفقًا للدكتور طارق، في 23 أغسطس 1973، اقتحم جان إيريك أولسون (هارب من العدالة) بنك "كريديت بانكن" في ستوكهولم بالسويد، واحتجز أربعة موظفين رهائن: كريستين إنمارك، إليزابيث أولدغرين، سفين سافستروم، وبيرغيتا لوندبلاد.استمرت الأزمة 6 أيام، طالب خلالها أولسون فدية مالية (710 آلاف دولار)، وسيارة للهروب، وإطلاق سراح صديقه كلارك أولوفسون من السجن. انضم أولوفسون إليه لاحقًا.خلال الأسر، طور الرهائن علاقة تعاطف مع الخاطفين (رفضوا التعاون مع الشرطة في الإنقاذ، دافعوا عن أولسون وأولوفسون بعد الإفراج عنهم، ورفضوا الشهادة ضدهم في المحكمة، جمعوا تبرعات لتغطية نفقات دفاعهم القانوني).
الجدير بالذكر، وجود موقف صادم خلال هذه الأزمة؛ إذ ذكرت إحدى الرهائن، "كريستين إنمارك"، في مكالمة مع رئيس الوزراء السويدي: "لم يفعلا شيئًا لنا.. بل كانا لطيفين. أخشى أن تهاجمنا الشرطة فتموتوا".
أسباب صياغة المصطلح العلمي لهذه الأزمة
وتابع دكتور طارق، لاحظ "نيلز بيجيروت"الطبيب النفسي وعالم الجريمة السويدي، الذي كان مستشارًا للشرطة أثناء الأزمة، السلوك غير المنطقي للرهائن. صاغ مصطلح "متلازمة ستوكهولم" لوصف ظاهرة تطور مشاعر إيجابية بين الضحايا وجلاديهم. ما جعله يُفسر المتلازمة كآلية بقاء على النحو التالي:
- يتحول الخوف المطلق من الموت إلى امتنان عند تلقي أي لطف من المعتدي مثل (تقديم الطعام أو السماح باستخدام المرحاض).
- يجعل العزل التام عن العالم الخارجي الضحية تعتمد نفسيًا على المُعتدي.
الجدير بالذكر، أن الطبيب النفسي فرانك أوشبيرغ وسّع المفهوم في السبعينيات، وقدمه لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) وشرطة "سكوتلاند يارد" كأداة لفهم ديناميكيات احتجاز الرهائن.
حالات تاريخية ونظريات تفسيرية عززت انتشار مصطلح "متلازمة ستوكهولم"
أشار دكتور طارق، إلى وجود بعض الحالات المُتشابة التي ساهمت في انتشار هذا المصطلح، وأبرزها:
قضية باتريشيا هيرست (1974)
اختطفت باتريشيا (حفيدة مليونير أمريكي) من قبل جماعة "جيش التحرير السيمبيوني" اليسارية في كاليفورنيا.بعد شهرين من الاحتجاز والتعذيب، انضمت للجماعة وساهمت في عملية سطو مسلح على بنك. استخدم محاموها المتلازمة كدفاع قانوني، مما جعل المصطلح ينتشر عالميًا.
حادثة ليما ( 1996)
هي عكس متلازمة ستوكهولم، وتُسمى "متلازمة ليما"؛ حيث تعاطف الخاطفون مع رهائنهم وأطلقوا سراح معظمهم.
قضية إليزابيث سمارت (2002)
اختُطفت سمارت وهي مراهقة (14 عامًا)، وعاشت 9 أشهر تحت سيطرة خاطفيها. رفضت الهروب عدة مرات، أو الكشف عن هويتها للشرطة رغم تعرّضها للاغتصاب وأظهرت قلقًا على مصيرخاطفيها بعد اعتقالهم.
نظريات تفسيرية وسياقات خارج الاختطاف
- كان الارتباط بالخاطف في المجتمعات القديمة (التكيّف التطوري) يزيد فرص النجاة مثل "حالات أسر النساء في الحروب".
- الاعتماد على الجاني، نظرًا لسيطرته على احتياجات الضحية الأساسية (كالغذاء والأمان).
- تقليل التنافر المعرفي، حيث تُغيّر الضحية مشاعرها لتتناسب مع واقعها المُهدِّد، فتتبنى رأي المعتدي لتجنب الصراع الداخلي.
- رغم ارتباط المتلازمة بالرهائن، إلا أنها تمتد إلى علاقات أخرى: (العلاقات المسيئةمثل ضحايا العنف المنزلي الذين يُبررون سلوك الشريك أو يرفضون المغادرة؛ إساءة معاملة الأطفال "تعلق الطفل بوالدٍ مسيء بسبب الخوف أو الاعتماد المادي"؛ الاتجار بالبشرحيث يطور الضحايا ولاءً للمتاجرين بهم بسبب الاعتماد عليهم في البقاء؛ والعلاقات الرياضية "كالشباب الذين يدافعون عن مدرب مسيء").
التعريف الطبي لمتلازمة ستوكهولم وأعراضها

وأضاف دكتور طارق، بناءًعلى ما تم ذكره سابقًا؛ فإن متلازمة ستوكهولم هي استجابة نفسية غير منطقية تُطور فيها الضحية مثل (الرهينة أو المُختطف) مشاعر تعاطف أو ولاء أو تعاون مع مُعتديها أو خاطفيها، رغم تعرّضها للتهديد أو الإيذاء. تُعدّ آلية تكيّف للبقاء، حيث يرى الضحية أن تقاربه مع المعتدي يُقلل الخطر عليه. أما عن أعراضها الرئيسية، فهي مرتبطة ببعض السلوكيات المتناقضة؛ وأبرزها:
- مشاعر إيجابية نحو المعتدي (كالتعاطف، الحب، أو الدفاع عن أفعاله وأفكاره).
- مشاعر سلبية نحو المنقذين (كالشرطة، الأهل، أو أي جهة تحاول إنقاذ الضحية).
- تبرير إساءة المعتدي بمعنى (تفسير أفعاله بأنها "ضرورية" أو "مفهومة" بسبب ظروفه).
- مساعدته طوعًا (كالمشاركة في جرائمه مثل "سرقة بنك" أو حمايته).
- صعوبة المشاركة في التحرر بمعنى (رفض الهروب أو التعاون مع التحقيقات بعد الإفراج).
- بالإضافة إلى أعراض ما بعد الصدمة (كالكوابيس، القلق، العزلة الاجتماعية، والشعور بالذنب).
شروط أساسية لتطور المتلازمة كآلية دفاع نفسية
أكد دكتور طارق، أن متلازمة ستوكهولم تتطور كـآلية دفاع نفسية لمواجهة الخطر، عبرشروط أساسية، أبرزها:
- تصوُر الضحية لتهديد حقيقي على حياتها.
- عزلها عن آراء خارجية مضادة مثل (عائلاتها).
- عدم قدرتها على الهروب.
- إظهار المعتدي "لطفًا" عرضيًا (كإعطاء الطعام أو عدم التعذيب).
الجدل العلمي حول المتلازمة
أكد دكتور طارق، أن هذه المتلازمة ليست تشخيصًا رسميًا، ولم تُدرج في الدليل التشخيصي للأمراض النفسية (DSM-5) بسبب نقص الأبحاث الكافية وعدم وجود معايير تشخيصية واضحة وندرة الحدوث (وفقًا لدراسة أجراها الـFBI على 1,200 حادثة اختطاف، فإن 8% فقط من الضحايا أظهروا أعراض المتلازمة). من ناحية أخرى تلاحق هذه المتلازمة انتقادات أخلاقية (حيث يرى باحثون مثل "ألان ويد" أن المصطلح يُستخدم أحيانًا لإسكات الضحايا (خاصة النساء) عبر تصوير استجابتهم كـ"مرض" بدلًامن تحليل فشل المؤسسات في حمايتهم.
أفكار تطويرية للتعامل مع ناجيات متلازمة ستوكهولم
من وجهة نظر دكتور طارق، يُمكن الاعتماد على مجموعة من الأفكار التطويرية للتعامل مع ناجيات متلازمة ستوكهولم، مع التركيز على الرعاية الشاملة والتمكين؛ أبرزها:
التدخلات النفسية المتخصصة
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT) المعدل: (تفكيك التشوهات المعرفية مثل "هو يحبني بطريقته" أو "أنا أستحق هذا"، كذلك تحدي تبرير سلوك المعتدي وإعادة بناء الإدراك الواقعي للعلاقة).
- العلاج القائم على الصدمات: "تقنيات مثل (EMDR) لمعالجة ذكريات الصدمة المرتبطة بالاختطاف والإساءة؛ كذلك التركيز على إدارة أعراض القلق والكوابيس".
- العلاج النفسي الديناميكي: "استكشاف أنماط التعلق السابقة (خاصة في مرحلة الطفولة) التي قد تجعل الشخص عرضة للتعلق بالمعتدي؛ كذلك فهم الآليات الدفاعية مثل (الإنكار، التبرير)".
بناء الاستقلالية والقوة الذاتية
- تمكين اتخاذ القرار:بدءًا بقرارات بسيطة (الملابس، الطعام) لاستعادة الشعور بالسيطرة على الحياة، والتدريب على حل المشكلات ومواجهة الخيارات الصعبة.
- إعادة بناء الهوية:تمارين لاستكشاف الذات والقيم والأهداف خارج إطار علاقة الصدمة، كذلك تشجيع الأنشطة الإبداعية (الكتابة، الرسم) للتعبير عن الذات.
- التثقيف حول العلاقات الصحية:تعليم علامات العلاقات المسيئة والسامة، والتدريب على وضع الحدود والتمييز بين الحب والإساءة.
الدعم الاجتماعي والمجتمعي
- مجموعات الدعم المختصة: على سبيل المثال "مجموعات صغيرة خاصة بالناجيات من متلازمة ستوكهولم، تدار بواسطة أخصائيين نفسيين؛ كذلك تقليل الشعور بالعزلة وتطبيع المشاعر عبر تجارب الآخرين".
- دعم الأسرة والأصدقاء:توجيهات لأفراد العائلة حول كيفية تقديم الدعم من دون إلقاء اللوم أو الضغط؛ كذلك التركيز على الصبر، الاستماع من دون حكم، وتجنب انتقاد التعلق بالمعتدي.
- الحماية القانونية والاجتماعية:توفير ملاذات آمنة (بيوت إيواء) بعيدًا عن المعتدي، ودعم قانوني متخصص في قضايا العنف الأسري والتهديدات.
الرعاية الشاملة
- الرعاية الجسدية:فحوصات طبية شاملة لعلاج أي إصابات جسدية ناتجة عن الإساءة، والتركيز على التغذية والنوم والنشاط البدني لاستعادة التوازن.
- التدخلات الروحانية (حسب رغبة الناجية): دعم روحي لا يعتمد على إلقاء اللوم أو التبسيط "هذا اختبار من الله"؛ مع مراعاة التركيز على السلام الداخلي والتسامح مع الذات إن أمكن.
- برامج إعادة الدمج:تدريب مهني أو أكاديمي لاستعادة الاستقلال المالي، والمساعدة في إيجاد سكن مستقل وآمن.
على الهامش.. معلومات من الإرث الثقافي والعلمي

- جسّدت أعمال في الأدب والسينمامثل مسلسل "لا كاسا دي بابيل" (Money Heist) متلازمة ستوكهولم، أما قضية باتريشيا هيرست فقد ألهمت أفلامًا ووثائقيات.
- أحدثت الحادثة ثورة في استراتيجيات تفاوض الشرطة مع الخاطفين، حيث صار تعزيز "العلاقة الإيجابية" بين الجاني والضحية أداة لزيادة فرص نجاة الرهائن.
- صرحت كريستين إنمارك (أحد رهائن البنك) لاحقًا: "كل ما فعلته كان من أجل البقاء.. هذا ليس غريبًا". كذلك تطورت علاقة عاطفية بينها وبين أحد الخاطفين (كلارك أولوفسن) بعد سنوات من حادثة ستوكهولم، رغم نفيها وجود مشاعر رومانسية أثناء الأسر.
- تسمى متلازمة ستوكهولم أحيانًا باسم "متلازمة هلسنكي"، وهو اسم غير معترف به علميًا.
وأخيرًا، كلما تم التعرف على متلازمة ستوكهولم مبكرًا، وتم أيضًا تقديم الدعم مبكرًا، كلما زادت فرص الشفاء. علمًا أن علاج هذه المتلازمة يتطلب فريقًا متعدد التخصصات (نفسي، طبي، قانوني، اجتماعي) يعمل بتنسيق لضمان حماية الناجية وتمكينها على جميع المستويات.