فيلم "كيرة والجن".. سينما الأكشن ترتدي ملابس التاريخ!

تحفل السينما بعدد كبير من الأفلام التي تناولت فكرة مُقاومة المُحتل؛ من أبرزها عدد من الأفلام الهامة التي تناولت حكايات المقاومة الفرنسية للألمان، بعد إحتلال هتلر لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية، ورغم أن فترة الإحتلال لم تتجاوز أربع سنوات، وهو زمن قصير مقارنة بسنوات الإحتلال الإنجليزي لمصر (74 عاماً)، لكن السينما المحلية الفرنسية، والسينما العالمية وجدت في حكايات المقاومة الشعبية مادة درامية خصبة، ولم تكن مادة أفلام درامية وتاريخية فقط، بل أفلام حركة ومغامرات وجاسوسية، وأحياناً مادة أفلام كوميدية ساخرة، وقدم المخرج "تارانتينو" في فيلم Inglourious Basterds تاريخ بديل عن حكاية خيالية عن مقاومة الإحتلال الألماني لفرنسا في زمن الحرب العالمية الثانية.

"كيرة والجن"
فيلم "كيرة والجن"

البعد عن كلاشيهات أفلام الأبيض والأسود!

لا يُمكن أن نقول أن السينما المصرية لم تهتم برصد حكايات المقاومة الشعبية للإحتلال الإنجليزي، ولكن الأمر كان مستحيلاً في وجود الإحتلال نفسه؛ لذا لم ترصد السينما المصرية حكايات المقاومة بصورة جريئة وصريحة إلا بعد يوليو 1952، وكانت السينما وقتها جزء من الخطاب السياسي للجمهورية الجديدة المُطالب بجلاء القوات البريطانية عن الأراضي المصرية، وظهرت حكايات المقاومة أفلام مثل (في بيتنا رجل) و(غروب وشروق) وفي مشاهد شهيرة في فيلم (بين القصرين)، وحتى على مستوى الكوميديا في فيلم (الكيلو 99) بطولة "اسماعيل ياسين"، وغلب على هذه الأفلام رصد الخلفية الإجتماعية والدراما الرومانسية، وهى أمور دفعت بأعمال المقاومة نفسها إلى خلفية الأحداث.

اختلف فيلم "كيرة والجن" المأخوذ عن رواية وسيناريو "أحمد مراد" وإخراج "مروان حامد" عن أفلام المقاومة السابقة في عدة أمور؛ منها الإبتعاد عن التنميط في رسم ملامح شخصيات الإحتلال الإنجليزي؛ فلم تظهر شخصية الضابط الإنجليزي غبية وشريرة في المطلق، ورغم ملامح الغطرسة والغلظة التي اتسمت بها هذه الشخصيات، كانت لا تخلو من الدهاء والمكر وهى تُطارد أفراد المقاومة المصرية؛ وهذا جعل لعبة القط والفأر في الفيلم جذابة.

"كيرة والجن"
فيلم "كيرة والجن"

ليس فيلماً تاريخياً!

الفيلم يُفرد مساحة كبيرة لمشاهد الأكشن الجيدة بصرياً، وهذا ملائم لهدف العمل؛ وهو تقديم فيلم حركة تجاري له خلفية تاريخية، وهو أمر يحدث في العديد من الأفلام التاريخية التي تتناول الحروب وعمليات المُقاومة المُسلحة، وبعضها يلتزم بروايات التاريخ المُنتشرة، وبعضها يميل إلى الروايات المختلفة والأقل شهرة، وبعضها يصنع تاريخ درامي سينمائي خيالي لأغراض ترفيهية بحتة، ولهذا من العبث التعامل مع فيلم "كيرة والجن" على أنه دراما تاريخية، أو إتهامه بأنه أخفق في تقديم عمل تاريخي عميق أو ثقيل؛ فهذا ليس من أهدافه كما يتضح من مشاهدة الفيلم من بدايته وحتى مشهد النهاية.

الفيلم الذي يقترب من ثلاث ساعات يمكن تقسيمه إلى ثلاثة فصول أو أجزاء؛ أولها مرحلة تأسيس الشخصيات والمشهد الزمني التاريخي الذي يبدأ مع حادثة دونشواى التي غيرت الكثير من مشهد علاقة المصريين بالإحتلال الإنجليزي، ووضعت القوات الإنجليزية على صفيح شعبي ساخن، والمرحلة الثانية في الفيلم تتفاعل فيها الاحداث وتتصارع الشخصيات، وفيها تقوى شوكة مجموعة "كيرة" و"الجن" في مواجهة الإنجليز، وفيها تصوير للحياة المُتناقضة لشخصيات المقاومة، مع التركيز على الجانب الإنساني والعاطفي للشخصيات الرئيسية، ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهى مرحلة مرتبكة درامياً وحتى على مستوى الحرفة السينمائية؛ فمشاهد الأكشن الكثيفة لم تكن بنفس مستوى مشاهد بدايات الفيلم، ورغم أنها كانت تميل إلى المبالغة مثل باقي مشاهد الحركة في الفيلم، لكنها هناك لمحات استسهال في حبكتها، وأيضاً في مشاهد مواجهة دولت "هند صبري" مع شقيقها وأمها، وفي مشاهد مواجهة "الجن" لأهل "دولت"، وهى مشاهد كانت سريعة وعابرة رغم أهمية الحدث.

"كيرة والجن"
فيلم "كيرة والجن"

لكمات عز وكريم!

شخصية "الجن" التي يؤديها "أحمد عز" هى الأكثر ثراء وتلون على المستوى الدرامي؛ فهو الشاب الطائش الذي يبيع المخدرات ويُصاحب الراقصات، ويحدث له تحول جذري حينما يُقتل والده على يد ضابط إنجليزي أثناء المظاهرات، أما إلتزام "كيرة" الذي يُجسد شخصيته "كريم عبد العزيز" بفكرة المقاومة فهو قديم وعميق، يبدأ بمقتل والده في أحداث دنشواى، وقد إتخذ من عمله كطبيب ستار للعمل السري، وأسس الفيلم للإختلاف بين طبيعة الشخصيتين؛ فكيرة منظم وهادىء ودؤوب، في حين "الجن" حماسي وفوضوي ومستقل؛ ولهذا كان إنضمامه لجماعة "كيرة" صعباً، وإحتاج إختبار ولاءه قبل الإطمئنان لجديته وإخلاصه للقضية وزملاءه.

التركيز على شخصيتي "كيرة" و"الجن" خصم الكثير من فرص التعمق في حياة الشخصيات الأخرى، وبدا أن وجود نجمي شباك بحجم "أحمد عز" و"كريم عبد العزيز" عبء على توزيع مساحات الدراما على الشخصيات الاخرى؛ فنحن نعرف كل شيء تقريباً عن خلفيات شخصيتي "كيرة" و"الجن" وحاضرهما وعائلتيهما، والمشاهد والخيوط الدرامية مُقسمة بينهما بحرص، وحتى تبادلهما اللكمات كان مُتعادلاً، بينما نعرف القليل عن الشخصيات الاخرى التى جسدها ممثلون كان إختيارهم شرفي وتفاصيل أدوارهم عادية وأقل من ذلك؛ ومنهم "روبي" و"إياد نصار" و"أحمد كمال" و"على قاسم".

"كيرة والجن"
فيلم "كيرة والجن"

على جانب الأداء تفاوت أداء "عز" و"كريم" طوال أحداث الفيلم، ولكنهما تمكنا من منح شخصيتهما الملامح المعبرة عن طبيعة كل منهما، وتليهما "هند صبري" التي جسدت بحساسية وحرفية دور المدرسة القبطية ذات الأصول الصعيدية، والتي تتحدى جذورها المُحافظة لتنخرط في أعمال المقاومة التي يقودها رجال، وجاء أداء "سيد رجب" جيداً وكان الأقرب بملامحه وتعبيراته لشخصيات تلك الحقبة الزمنية، ورغم تغييب السيناريو لأجواء وحياة الشخصيات البريطانية لكن إستطاع الممثل "سام هزلدين" تقديم أداء جيد لشخصية الضابط هارفي الذي يقود عملية البحث عن المقاومة بعقلية رجل تحري بوليسي بارع.

شخصيات فاترة وحلول رومانسية!

مشاهدة فيلم "الكيرة والجن" تُذكرنا بوصف "سعيد صالح" سيارة والده في مسرحية (العيال كبرت): "كل حاجة سليمة بس لوحدها"؛ فنحن نتعامل مع فيلم ضخم الإنتاج، مُبهر بصرياً بكادرات "أحمد المرسي"، ملىء بالنجوم، حافل بعناصر فنية مُتميزة، مثل موسيقى "هشام نزيه"، وملابس "ناهد نصر الله"، وتنفيذ مشاهد الحركة، ولكنه يفتقد شيئاً ما، وهو تلك اللمسة السحرية للفن، والقدرة على تحويل كل ما تراه إلى واقع فني يتفاعل معه المشاهد، ولهذا توقف الفيلم عند مرحلة متابعة الأكشن والتسلية وقبول القليل من المشاعر التي حاولت تلوين الفيلم بلمسة رومانسية، وربما كان تصوير العلاقة العاطفية بين "كيرة" والفتاة البريطانية "ايميلي" من أفضل ملامح الفيلم على هذا المستوى، ومشهد السينما في كافيه ريش هو الأرق، وأيضاً علاقة "كيرة" وإبنه "فهمي"، ولكن هذه الحالة لم تمس كثير من علاقات شخصيات الفيلم الأخرى، ومنها مثلاً علاقة "كيرة" بزوجته "روبي" المُهمشة درامياً بلا مبرر.

بعيداً عن العواطف الرومانسية يتسلل البرود إلى التعاطي مع شخصيات باقي افراد مجموعة المقاومة؛ إما بقلة التفاصيل عن خلفية حياتهم، أو بعدم النجاح في صُنع التعاطف معهم، والإكتفاء بجاذبية أنهم أبطال كما يحكي الراوي، وبالمناسبة كان استخدام أسلوب الراوي مُزعجاُ في كثير من الأحيان؛ فالفيلم لم يكن يحتاج إلي رواية ما نراه بالفعل على الشاشة.

 

الصور من حساب الكاتب الروائي أحمد مراد