الرئيسة التنفيذية لجمعية الأزياء المهنية لولوة الشقحاء

الرئيسة التنفيذية لجمعية الأزياء المهنية لولوة الشقحاء تكتب لـ"هي": الخياطة في السعودية خيط متواصل يحمل ذاكرة البيوت

مجلة هي
29 سبتمبر 2025

في بيتي تقف ماكينتان قديمتان ورثتهما عن جدّتيّ، كلما سألت إحداهما عن تلك الأيام، أضاء وجهها بالابتسامة، وانطلق لسانها يروي كيف كانت تفصل فساتين الفتيات، وتعد جهاز العروس عند خطبتها، وكيف يتحوّل البيت عند جلوسها على الماكينة إلى ورشة فرح تملؤها أصوات الخيط والإبرة.

هذه الحكاية الشخصية مألوفة لدى الكثير من البيوت السعودية؛ ففي الأحياء كان ثمة خياط يعرفه الناس جميعا، تُؤخذ عنده المقاسات وتُنتظر لمساته التي تُميز عمله، وفي البيوت كانت الجدّات والأمهات يعلّمن الصغيرات كيف يُمسك الخيط وتُضبط الغرزة. بمرور الزمن تراكمت هذه المشاهد الصغيرة لتصنع ذاكرة وطنية.

وعندما أُعلن عن عام 2024 عاما للحرف، بدا كأن الوطن كله يفتح الباب لهذه الذكريات. الخياطة على وجه الخصوص بدت ممارسة أصيلة جديرة بأن تُقدَّم كقيمة وطنية، لأنها فن متجدد قادر على صنع المستقبل. لقد غيّرت الأزياء السريعة نظرة الناس إلى الثوب والقطعة؛ خفّضت من قيمة الخياطة حتى صار أغلبهم لا يعرف أن وراء كل قطعة إنسانا حقيقيا. هذا الوعي كان غائبا عن كثير من الناس، وأدركت مؤخّرا أن مسؤوليتنا في الجمعية أن نعيد لهذا الفن مكانته في الوجدان.

ولأجل ذلك جمعنا الحرفيين في جلسة مغلقة. استمعنا إليهم ، بعضهم تحدّث عن الساعات الطويلة التي يقضيها في الورشة، وبعضهم عن صعوبة التسويق وضآلة العائد، وكلهم عن التعب الذي تحمله اليدان وهما تصنعان الجمال. شعرت آنذاك بأنّ كل غرزة تخفي حياة كاملة، وأن أي مبادرة لا تكتمل ما لم تبدأ من صوت الحرفي نفسه.

وعلى هذا الطريق، يبرز أمامنا من أبناء الوطن: المصمّم السعودي محمد آشي، الذي حفر اسمه بين بيوت الأزياء في باريس، استطاع أن يوظف الحرفة في بناء جمالي معاصر. يكفي أن نتأمل تصميمه لزيّ مضيفي خطوط طيران الرياض، حيث حول الزيّ إلى رسالة بصرية عن قدرة الحرفة السعودية.

وحين نلتفت إلى تجارب عالمية، في الهند مثلا، شقت علامة Kartik Research طريقها، لتصبح ضمن جدول أسبوع باريس للموضة. اعتمد مؤسسها على إعادة إدخال البُعد الإنساني إلى الأزياء من خلال الحرف اليدوية التقليدية، ومع كل مجموعة كان يبرهن أن مستقبل الموضة لا ينفصل عن أصابع الحرفيين، بل يقوم عليها.

هذا المعنى هو بالضبط ما نسعى إليه في جمعية الأزياء. ففي بداية شهر أغسطس وقّعنا اتفاقية تعاون مع مؤسسة "فنون التراث" لنطلق مبادرات مشتركة تُعيد الاعتبار للحرف المحلية. هدفنا أن نمكّن الإبداع المحلي، وأن نصنع فضاء تلتقي فيه الأزياء المعاصرة بالحرف التقليدية.

وعلى مستوى الهُوية الوطنية الجمعية، يكفي أن نتأمل رمزية الخياطة في يوم الوطن. العرضة التي تهزّ القلوب لا تكتمل من دون الجوخ الأحمر على كتف الفارس، ولا من دون الزبون الذي يضفي الهيبة، ولا من دون زينة الطبول التي تُكسب الإيقاع لمعانه.

الخياطة في السعودية تظل خيطا متواصلا يحمل ذاكرة البيوت، ويصغي لأصوات الحرفيين، ويزهو في رموز الوطن يوم احتفاله، ثم يمتد نحو مستقبل تُصاغ ملامحه بمبادرات تفتح أمامها آفاقا جديدة.