الفنانة اللبنانية الفرنسية تانيا قسيس

الفنانة اللبنانية الفرنسية تانيا قسيس تكتب لـ"هي": ما وراء الإيقاع.. الموسيقى كجسر بين الثقافات

مجلة هي

وُلدت في لبنان، ونشأت بين الشرق والغرب، حيث كان صوت الأذان يتناغم مع أجراس الكنائس، وتتمايل الأغاني الفرنسية مع الألحان العربية في خلفية حياتنا اليومية. هذا النسيج الثقافي الغني هو الذي شكّل جذوري، ليس فقط باعتباري امرأة لبنانية - فرنسية، بل باعتباري فنانة تؤمن بشغف عميق بأن الموسيقى قادرة على توحيد الناس.

أقف اليوم بصفتي فنانة عربية عند نقطة تحوّل مشوّقة. لم نعد نُعرَّف فقط من خلال نظرة الآخرين، بل أصبحنا نُعرّف أنفسنا، ونروي قصصنا، ونعيد تشكيل ما تبدو عليه الهوية العربية الحديثة في الموسيقى. نحن نمزج بين التراث والابتكار، وبين الأصالة والتأثير العالمي. وهذه موجة أفتخر بأن أكون جزءا منها، وأؤمن بأنها ستستمر في التوسع.

هُويتي الموسيقية لم تكن يوما محصورة في قالب واحد. منذ صغري، شعرت بالحاجة إلى التعبير عن غنى خلفيتي الثقافية، ووجدت أن أفضل وسيلة لذلك كانت من خلال المزج. ومع مرور الوقت، طورت أسلوبا موسيقيا يمزج بين إيقاع الموسيقى اللاتينية وجمال الألحان الشرقية وكلمات الأغاني العربية. هذا المزج ليس مجرد خيار فني، بل هو رسالة. رسالة تعكس التعايش، والتواصل، والفكرة القائلة بأن الجمال كثيرا ما ينبع من الاختلاف.

عندما أؤدي على المسرح، سواء في الشرق الأوسط، أو في أوروبا، أو في أي مكان آخر، أرى كيف يمكن للموسيقى أن تهدم الجدران التي تبنيها اللغة والسياسة. اللحن لا يحتاج إلى ترجمة. والإيقاع لا يحتاج إلى تفسير. عندما يُغمض الناس أعينهم ويشعرون بالإيقاع، لا يعودون غرباء، بل يصبحون جزءا من القصة الإنسانية نفسها.

تشرفت بالتعاون مع فنانين من ثقافات مختلفة. من بين المشاريع الأقرب إلى قلبي دويتو Ave Maria مع الأذان، صلاة موسيقية من أجل السلام، يندمج فيها عالمان يُنظر إليهما تقليديا كمتباعدين، في تناغم فني وإنساني. وقد أكدت تفاعلات الجماهير من حول العالم ما كنت مؤمنة به دائما: عندما نجرؤ على كسر الحواجز فنيا، فإننا نفتح القلوب والعقول.

الفنانة اللبنانية الفرنسية تانيا قسيس

هذه، بالنسبة لي هي قوّة الموسيقى. فهي تتجاوز الإيقاع.

لهذا السبب بدأت في دمج هذه الفلسفة في طريقتي بالتفاعل مع جمهوري ومع طلاب أكاديميتي الموسيقيّة. سواء من خلال ورش العمل الجماعية أو التدريب الصوتي الذي يقدمه فريقنا من المتخصصين، أحرص دائما على أن تكون الأولوية للتواصل قبل الكمال. لا تحتاج لأن تكون مغنيا محترفا لتستفيد من قوة الموسيقى. كل ما تحتاجه هو أن تشعر.

في السنوات الأخيرة، أصبحت أكثر وعيا بالتأثير العميق الذي تتركه الموسيقى على صحتنا النفسية. كثيرا ما نتحدث عن الموسيقى كوسيلة ترفيه أو مهنة، لكن ماذا عن الموسيقى بصفتها علاجا، أو أداة لمعالجة المشاعر التي نعجز عن التعبير عنها بالكلمات؟

مثل الكثير من الفنانين، مررت بلحظات شخصية مليئة بالشك والخوف أو الحزن. وفي تلك اللحظات، كانت الموسيقى دائما ملجئي. أحيانا تكون صوتا يعكس حزننا، وأحيانا ترفعنا، تذكرنا بقوتنا، أو ببساطة تمنحنا مساحة لنلتقط أنفاسنا. أنا أؤمن بأن للموسيقى قدرة على الشفاء، ليس فقط على المستوى العاطفي، بل على المستويين العقلي والروحي أيضا.

في عالم سريع الإيقاع، كثيرا ما ننسى أن نصغي لأنفسنا. تمنحنا الموسيقى لحظة توقف، لحظة إصغاء، لحظة شعور. إنها تعيد ربطنا بمشاعرنا، وببعضنا البعض. وفي منطقتنا، بتاريخها العريق، ومجتمعاتها المتنوعة، وتحدياتها المستمرة، هذا الاتصال أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.

أما بالنسبة للجيل المقبل، فآمل أن نواصل بناء عالم يُحتفى فيه بالموسيقى ليس فقط لجمالها، بل أيضا لدورها في التعليم، وفي الشفاء، وفي إحداث التغيير الاجتماعي، عالم تدرك فيه المدارس والمجتمعات والمؤسسات العامة أهمية التعبير الموسيقي في تعزيز الصحة النفسية والنمو العاطفي، عالم تصبح فيه تنوعاتنا الثقافية مصدر إلهام لا عائقا.

في نهاية المطاف تذكرنا الموسيقى بأمر جوهري، وهو أننا لسنا وحدنا. أفراحنا، أحزاننا، آمالنا، كلها تتردد في صوت شخص آخر، في نغمة، في أغنية.

وهذا، بالنسبة لي هو ما يكمن وراء الإيقاع.