غادة المهنا رائدة أعمال وشخصية مؤثرة في عالم الموضة

عدسة تجتاز الزمن.. التصوير الأرشيفي وصون التراث السعودي

مجلة هي
28 سبتمبر 2023

في قلب شبه الجزيرة العربية تقع المملكة العربية السعودية، عاكسة مزيجا منسجما من الحكايات القديمة والتطلّعات المعاصرة. وفيما تتراقص أرضنا بين إطار زمني وآخر، لم يعد التصوير الفوتوغرافي مجرّد شكل من أشكال الفن، بل صار جسرا مهمّا يضمن للفسيفساء المعقّدة الجامعة بين ماضي وطننا وحاضره أن تبقى حية وحيوية في المستقبل.

الأرشيف ليس مجرّد مخزن، بل هو تجسيد لذاكرة جماعية؛ ولكونه نبض ذكريات مجتمع بأكمله، يبقى كنزا لا غنى عنه. الأرشيفات تسجّل أحداثا مهمّة ولحظات حميمية وتحوّلات محورية في حضاراتها، فتنسج خيوط قصّة متماسكة تتشابك فيها الحِقَب الماضية والحاضرة والآتية، وتمنح المجتمعات بذلك فرصة فريدة للسفر عبر الزمن. فيما تغوص المخطوطات والسجلّات المكتوبة عميقا، وتعطينا المزيد من المعرفة، وتحدّد سياق الوقائع، إن التصوير الفوتوغرافي الأرشيفي هو الريشة التي ترسم لنا التاريخ بضربات الواقع.

التصوير الأرشيفي في السعودية يتخطّى عملية التقاط الصورة، بل يمسك بالجوهر الحقيقي للّحظة العابرة، لروح العصر. من السحر الأثيري الذي تنبض به التشكيلات الصخرية في العلا، إلى الاحتفالات الفرحة في عسير، مرورا بعمارة الدرعية الصامدة في وجه الزمن، تروي كل لقطة حكاية ملحمية. عبر هذا الوسيط المرئي، تصير الحكايات التجريدية الآتية من السجلات التاريخية، حاليّة ومحسوسة في الوقت عينه. فتصبح صورة واحدة لاحتفالية في الرياض القديمة أو للروتين اليومي لسكّانها، بمنزلة بوّابة تقود المشاهدين مباشرة إلى قلب تلك الحقبة الماضية.

تهدينا هذه الرحلات الفوتوغرافية لمحات معمّقة عن المسار التطوري الذي عاشته أرضنا. حين تكون إلى جانب الطرقات السريعة الحديثة في الرياض، تخبرنا صور قوافل الإبل قصص نمو وتحوّل. أما صور الثوابت مثل رفع الأذان أو جلسات القهوة الجماعية، فتلقي الضوء على تقاليد لم تتغيّر. فيكون لنا هذا النسيج المرئي الملوّن تأمّلا يعكس روح المملكة العربية السعودية التي تعبر الزمن بصلابتها حتى في ظل تغيّر ملامح الأرض.

للأجيال اللاحقة، تصبح هذه السجلّات المرئية أكثر من بقايا تحنّ إلى ما مضى، فتنشئ روابط ملموسة مع جذورهم. مع تغيّر العادات وتوسّع آفاق الحياة العصرية، يجد الشباب السعودي أصوله منعكسة من هذه اللحظات التي تخلّدها الصور. ينظر إليها أبناء الأجيال التالية، فلا يرون لقطات فوتوغرافية فقط، بل يعيشون من جديد إرثهم، ويفككون رموز حمضهم النووي الثقافي، ويحتضنون تاريخ أسلافهم.

سواء كان التقاطها متعمّدا أم بالصدفة، تسهم كل صورة في تأريخ عصرها، إذ تلخّص التقاليد السائدة والقيم والاحتفالات ونبضات إيقاع الحياة اليومية. إضافة إلى حكاياتها المنظورة، تدفعنا الصور إلى التأمّل الداخلي، وتحضّنا على التفكير في قراراتنا ومساراتنا والتراث الذي نتوق إلى توريثه. بالمعنى الواسع للوجود، قد تبدو اللحظات الفريدة عابرة، لكنها معا تكتب ملحمة الحضارة الإنسانية.

في دوّامة الزمن التي لا تعرف الوقوف، وحيث يبقى التغيير هو الثابت الوحيد، تمثّل الصور الأرشيفية أضواء لا تنطفئ. تخبّئ قصصا وأحاسيس وتدعونا إلى وقفة تأمّلية وسط تعاقب لحظات حياتنا المتسارعة. تثبّت أقدامنا على أراضينا، وتمدّ جسورا بين عصور ماضية وأخرى حالية، محافظة على جوهر حضارتنا لكل الأجيال الآتية بعدنا.

فيما تخطو المملكة العربية السعودية إلى الأمام، دامجة التقليد بالحداثة، تؤدّي أرشيفاتها المزدانة بالصور المعبّرة، دور الدليل والمنارة. ولا تشير فقط إلى الاتّجاه الذي تم تصوّره لمسار المملكة، لكنها تضيء أيضا رحلتها عبر تكريم إرثها التاريخي. في زمن تهيمن عليه الذكريات الرقمية الزائلة، تشدّد هذه الكنوز الملموسة على ضرورة صون روح الوطن والحفاظ عليها، حتى نضمن إعادة اتصال العصور اللاحقة بالتراث، من خلال عدسة تجتاز الزمن.

باختصار، للأرشيفات، وخصوصا منها التصوير الأرشيفي، أهمّية بالغة. تملك الصور التوثيقية قدرة على ترسيخ فهم الإنسان لتاريخه، فتربطه بجذوره وتوجّهه في الوقت نفسه نحو ما يلوح في الآفاق التالية. في كل حركة من حركاته، يتخطّى مصراع الكاميرا عملية التصوير اللحظية، حتى يصير شهادة على صون تاريخ، وتخليد إرث، وترديد صدى نبض حضارة بأكملها.

الأرشيفات المؤسسية السعودية تلقي ضوءها على رحلة وطننا العظيمة، ويملك كل سعودي وسعودية قصّة تستحق الصون. كل ألبوم عائلي، وكل لقطة عفوية، وكل لحظة مصوّرة تشكّل أحجار الأساس للإرث الشخصي، وتسرد قصصا عن الحب والفقدان والانتصار والنمو.

في هذا العصر الرقمي، شهدت عملية التوثيق تحوّلات كبيرة. بينما نستفيد من السهولة والراحة اللتين توفّرهما لنا التكنولوجيا الحديثة، فلنفهم أيضا أهمية الحفاظ على قصصنا المرئية للأجيال الآتية. فيما يلي بعض الخطوات التي تضمنين من خلالها أن تصمد صورك في وجه اختبار الزمن:

النسخ الاحتياطية الرقمية: انسخي صورك، واحفظيها بانتظام في أجهزة متعددة ومساحات "سحابية" مختلفة. وهكذا، إذا حصلت مشكلة في جهاز معيّن، فستتأكدين من أن ذكرياتك محفوظة وسليمة في مكان آخر.

النسخ المطبوعة: للإمساك بصورة مادّية ملموسة، سحر غريب. بطباعة الصور وتخزينها في ألبومات خالية من الأحماض، نحميها من الانحلال والزوال والتقادم التكنولوجي.

البيانات الوصفية الرقمية: أضيفي كلمات تصف الصور، وتواريخ، ومواقع إلى صورك. هذا السياق الذي ترسمينه لا يقدّر بثمن، وسيكون قيّما للغاية بالنسبة إلى الأجيال المستقبلية التي ستحاول جمع خيوط كل حكاية.

الصيانة المنتظمة: قد تتعرض الملفات الرقمية للتلف، والصور المادّية للانحلال. تحققي من صحّة صورك المؤرشفة بانتظام، وحدّثيها، وأصلحيها إذا لزم الأمر.

المشاركة والتثقيف: انقلي أهمية صون الصور إلى الأجيال الصاعدة. شاركي قصصك، وسياق كل صورة، والوسائل التي تستخدمينها لحمايتها والحفاظ عليها.

الانفتاح على التقنيات الحديثة: فكّري في الاستفادة من التقدمات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي، من أجل ترميم صور قديمة وتحسين نوعيتها، أو حتى تحويل الصور المادّية تحويلا رقميا.

يجب أن نذكّر أنفسنا بأن التصوير الأرشيفي ليس حكرا على الدول أو المؤسسات الكبرى، بل هو أداة متاحة للجميع، ووسيلة نستطيع من خلالها تخليد تاريخنا الشخصي ومشاركته مع المستقبل. عبر اتخاذ خطوات تحمي مجموعاتنا الخاصة وتصونها، نضمن بقاء قصصنا الفردية والجماعية حيّة، على غرار حكايات المملكة العربية السعودية، فتوقظ مشاعر، وتحيي ذكريات لسنوات طويلة آتية.

كل صورة تلتقطينها وتحافظين عليها تصبح جزءا من فسيفساء أكبر، وشهادة شخصية على الزمن الذي عشت فيه، وهدية تذكارية لمن سيأتي من بعدك.

Credits

    غادة المهنا

    رائدة أعمال وشخصية مؤثرة في عالم الموضة