
"هي" تحاور ريم بن كرم: من التراث إلى العالمية.. هكذا نصنع لغة تصميم إماراتية معاصرة
تشهد الحِرف التقليدية والمعاصرة في دولة الإمارات العربية المتحدة نهضة لافتة، حيث تبرز الحِرف اليدوية بوصفها لغة ثقافية واقتصادية تحفظ الخصوصية وتُعبر عن هوية الشعوب، وتتحوّل شيئاً فشيئاً إلى رافد أساسي من روافد الاقتصاد الإبداعي، وذلك بفضل مبادرات نوعية تُعزز دور المرأة وتُعيد إحياء التراث بروح المستقبل.
انطلاقاً من هذه الرؤية، كان لنا هذا الحوار مع "ريم بن كرم" المديرة العامة لمجلس إرثي للحرف المعاصرة، للحديث عن تجربتها، ورؤيتها لمستقبل الحرف الإماراتية، وقصص النجاح التي تثبت أن الإبداع حين يُمنح الثقة، يصنع تحولاً لا يُنسى.

في البداية، دعيني أرحب بكِ عبر "هي"، وأسعد بإجراء هذا الحوار الملهم معكِ. ولمن لا يعرفك عن قرب، من هي ريم بن كرم؟ وما المحطات التي شكلت هويتك المهنية والإنسانية؟
أنا ابنة إمارة الشارقة ودولة الإمارات العربية المتحدة، نشأت في رحاب ثقافة العمل والعطاء والإبداع التي رسختها قيادتنا في وعينا منذ الطفولة، وتجسيداً لهذه الثقافة اخترت أن يكون مساري المهني مزيجاً من العمل التنموي والثقافي، إيماناً مني بأن الإنسان لا يكتمل دون جذور، ولا يتطور دون رؤية. درست التصميم الداخلي في الجامعة الأمريكية في الشارقة، وهو تخصص جمع بين الجمال والبعد الثقافي، وساعدني منذ البداية على رؤية الأشياء بتكامل بين الشكل والمضمون.
بعد التخرج، بدأت رحلتي في مجال التصميم ضمن مؤسسات مختلفة، منها هيئة دبي للطيران المدني، ثم التحقت بالقطاع العائلي في مجموعة كرم. لكنني كنت أبحث دائماً عن المساحات التي يمكنني فيها التأثير في الإنسان والمجتمع لا فقط في المنتج أو الشكل. ومن هنا، جاءت التحولات الأهم في مسيرتي: عندما نلت ثقة قرينة صاحب السمو حاكم الشارقة، سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، رئيسة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة، حيث تشرفت منذ العام 2010، بعضوية مجلس إدارة مؤسسة الشارقة لبناء القدرات، حيث أعمل على تمكين الشباب ودعم ريادة الأعمال والمبادرات المجتمعية. كما كُلفتت بإدارة مراكز الأطفال في الشارقة بتوجيه من سمو الشيخة جواهر القاسمي، لتطوير برامج تنموية لأكثر من 14 مركزاً في مختلف مدن الإمارة..
اليوم، أجد نفسي في موقع مسؤولية لا يقل عن كونه رسالة، دوري في مجلس إرثي للحرف المعاصرة هو امتداد لما آمنت به دوماً: أن المرأة حين تُمنح الأدوات والدعم، قادرة على إعادة تشكيل مجتمعها، والمساهمة في صياغة مستقبلنا المشترك.
كيف بدأ مجلس إرثي؟ وما هي رؤيته الأساسية؟
بدأ مجلس إرثي للحرف المعاصرة في العام 2016، تجسيداً لرؤية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وتوجيهات ورعاية قرينة سموه، سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي، رئيسة مؤسسة نماء للارتقاء بالمرأة، التي آمنت بأن تمكين المرأة يبدأ من الاعتراف بقدراتها، ومنحها منصات تعبر فيها عن ذاتها. المجلس لم ينشأ كمؤسسة لتعليم الحرف فحسب، بل كمنظومة متكاملة لإحياء الحرف التقليدية، وتحويلها إلى مسار للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فقد انطلقت الفكرة من سؤال بسيط وعميق، كيف يمكن لحرفة قديمة أن تصبح مصدر دخل، وهوية، وفن معاصر؟
تتمثل رؤية المجلس في إعادة الاعتبار للحرفة، ليس كأداة إنتاج فقط، بل كوسيلة لتمكين النساء وخلق حوار مع المجتمع والعالم، فنحن نؤمن أن الحرف هي امتداد لسردياتنا الجماعية، وأن المرأة التي تمسك بالخيط والإبرة، أو بسعف النخيل، إنما تعيد حياكة الذاكرة الجماعية.
ما هو دور المجلس في دعم وتعزيز النساء العاملات بالحرف التقليدية والمعاصرة؟
يعمل المجلس على التمكين المهني أو الاقتصادي والاجتماعي للمرأة، فهو يتولى مهمة إعادة تشكيل علاقة المرأة بذاتها ودورها وبيئتها من خلال الحرفة، كما يعمل على تدعيمها لتصبح فاعلة في مجتمعها، مستقلة في قراراتها، ومتمكنة من أدواتها من خلال صنع مسارات تعليمية، وثقافية، واقتصادية، فضلًا عن تعزيز مشاركتها سلاسل الإنتاج من الألف إلى الياء. هذا يساعدها في فهم القيمة التجارية لأعمالها، وعلى تطوير الذائقة الفنية، وربط منتجاتهن بالأسواق المحلية والدولية.
كيف تساهم الحرف المعاصرة في الحفاظ على التراث الثقافي الإماراتي؟
الحرف المعاصرة، حين تُمارس بروح أصيلة، تتحول إلى وسيلة حية للحفاظ على التراث، عبر إعادة اكتشافه وتقديمه بصورة معاصرة تُحاكي جمالية العصر دون أن تفقد جوهرها، نحن نعيش في زمن يتغير بسرعة، وتحدي الحفاظ على التراث لا يكون بالحفاظ عليه كما هو دون تغيير، بل من خلال الإحياء، مثلاً، حين تُعيد فنانة شابة توظيف "السدو" في تصميم حديث، أو تُدخل "التلي" في منتج معاصر، فهي تخلق جسراً بين الماضي والحاضر، وتُعزز حضور التراث في الحياة اليومية.
ما هو التحدي الأكبر في التوازن بين التراث والإبداع؟ وكيف توجّهون النساء لتحقيقه؟
أحد أكبر التحديات التي نواجهها هو الحفاظ على جوهر الحرفة وأن نطورها في الوقت ذاته، وكيف نطور التصاميم دون أن نفقد روح الموروث؟ هذا التوازن هو رحلة مستمرة، نعمل فيها مع النساء على فهم العمق الرمزي للحرفة، وأن الحرفة ليست مجرد تقنية، بل فلسفة تنبع من السياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه.
كيف يعمل مجلس إرثي على تمكين النساء؟ وهل هناك مبادرات خاصة لدعمهن؟
في إرثي، نرى التمكين بمثابة رحلة تبدأ من الوعي وتنتهي بالتميز. نعمل على بناء قدرات النساء من خلال برامج شاملة تجمع بين التدريب الفني، والدعم الاجتماعي، وبناء الشخصية الريادية. لا نركز فقط على إنتاج الحرفة، بل على خلق نظام دعم متكامل يُرافق المرأة من لحظة اكتشافها لموهبتها وحتى مشاركتها في السوق، كما نحرص على أن تكون لكل امرأة خطة تنمية شخصية تراعي احتياجاتها وظروفها وقدراتها.
هل هناك قصص نجاح نسائية ملهمة داخل المجلس؟
نعم، لدينا نماذج عديدة نفتخر بها، لكن من بين الأسماء والقصص التي استحضرها دائماً بإعجاب وتقدير، إحدى هذه القصص عندما زارت سمو الشيخة جواهر القاسمي المنطقة الشرقية في إمارة الشارقة للتعرف على نسائها والاطلاع على أوضاعهن. وهنا اقتربت "أم أحمد" من سموها وأهدتها حقيبة بسيطة مطرزة بجدائل التلي الملونة والمذهبة وهنا بدأ المشوار إذ وجهت سموها بإطلاق برنامج "بدوة" للتنمية الاجتماعية الذي تأسس قبل المجلس ليتيح المجال لكل امرأة مبدعة فرصة التعلم وتطوير مهاراتها بمصدر رزق مستدام.
ومن بين الأسماء البارزة، لدينا شيخة النقبي وموزة حسن، هما ليستا مجرد حرفيتين أتقنتا مهاراتهن، بل رائدتان حقيقيتان في مجال الحرف الإماراتية. بعد انضمامهما إلى برامج إرثي التدريبية، لم تتوقفا عند حدود التعلم، بل واصلتا التطور حتى حصلتا على شهادة "مدرب معتمد"، الأمر الذي أهلهما للقيام بدور فعّال في تدريب وتوجيه جيل جديد من الحرفيات.
لكن ما يميز قصتهما أكثر، هو أثرهما المجتمعي. شاركتا في ورش ومعارض داخل الدولة وخارجها، وأسهمتا في إثراء المشهد الثقافي المحلي عبر نقل الحرفة من حيزها التقليدي إلى فضاء أكثر حيوية واتصالاً بالعصر. قصتهما تُجسد ما نؤمن به في إرثي: أن النجاح لا يقاس فقط بما تحققه المرأة لنفسها، بل بما تقدمه لمجتمعها. شيخة وموزة مثالان حيّان على أن المرأة الإماراتية، حين تُمنح المساحة والدعم، تتحول إلى مصدر إلهام وتغيير.

ما هو أكثر شيء تفتخرين به في دورك كمديرة لمجلس إرثي؟
ما أفتخر به حقاً هو هذا التحول الذي نراه كل يوم في حياة النساء اللواتي نعمل معهن. حين أشاهد سيدة تتحول إلى حرفية متمكنة، ثم إلى مدربة، ثم إلى مصدر إلهام لجيل كامل من النساء، أدرك أن ما نقوم به في إرثي يقع في جوهر التنمية وبناء الإنسان والمجتمعات، ويسهم تنمية الكفاءات والمهارات الشبابية الإماراتية وتمكينهم من هذا المجال الذي يعزز فيهم الإبداع والهوية وروح الانتماء.
ما هي رؤيتك الشخصية حول مستقبل الحرف المعاصرة في الإمارات؟
أرى في الحرف المعاصرة في الإمارات مجالاً كبيراً قابلاً للنمو، وضرورة ثقافية واقتصادية. نحن في زمن يحتاج إلى أن نتمسك بجذورنا بذكاء، لا بعاطفة فقط، إلى جانب أن الحرف اليوم يمكن أن تُشكل جزءاً من الاقتصاد الإبداعي، ومن الصناعات الثقافية التي تُسهم في الناتج المحلي، وتبني صورة الدولة على المستوى العالمي.
أتطلع أن تتحول الحرف إلى لغة تصميم إماراتية خاصة، تتحدث بها منتجاتنا في العالم، تماماً كما نرى في الكثير من الدول، حيث تُصبح الحرفة هوية وطنية مندمجة في تفاصيل الحياة اليومية، وهذا ما نعمل عليه في إرثي؛ تحويل الحرف من نشاط محدود إلى صناعة واعية، حية، ومتجددة.
إلى أي مدى يصل إبداع المرأة الإماراتية في الحرف المعاصرة؟ وكيف يمكن دمج الابتكار بالتقاليد؟
المرأة الإماراتية أثبتت أنها قادرة على تحويل الحرفة إلى لغة تعبير راقية، تجمع بين الأصالة والجرأة في الابتكار. وقد رأينا ذلك مراراً في مشاريعنا داخل إرثي، حيث تنجح الحرفيات في إدخال لمسات معاصرة على خامات تقليدية دون أن يفقد العمل هويته.
لقد أطلق مجلس إرثي للحرف المعاصرة برنامج "أزيامي" لتأهيل مصممات إماراتيات في مجال الأزياء والمجوهرات، حيث تم تخريج دفعتين من المصممات اللاتي قدّمن مجموعات فنية جديدة على منصة المجلس. يهدف البرنامج إلى تمكين المصممات من تطوير مهاراتهن وابتكار تصاميم معاصرة مستوحاة من التراث الإماراتي، مما يعزز حضورهن في المشهد الإبداعي المحلي والعالمي.
ما هي نصيحتك للمرأة؟ وكيف يمكن لها تطوير ذاتها في هذا المجال؟
نصيحتي الأولى لكل امرأة هي: لا تستهيني بما بين يديكِ. أحياناً تكون المهارة التي ترينها بسيطة، أو مألوفة، هي بداية طريق غير متوقع. الحرفة ليست فقط وسيلة لإنتاج شيء جميل، ومساحة لاكتشاف الذات، والتعبير عنها.
طريق التطوير يبدأ بالفضول، بالبحث، بالاستماع للتجارب، ثم بالإصرار على التعلم والتجريب، لا تخافي من أن تخطئي، فكل منتج غير مكتمل هو خطوة نحو منتج متفرد، وهناك اليوم منظومات داعمة مثل مجلس إرثي، تقدم التدريب والتوجيه، وتمنح النساء منصات للتعبير والانطلاق. ابدئي بما لديكِ، وامنحي نفسكِ الثقة، فالمجال أوسع مما تتصورين.