دعوة لتنفَس الحياة بشكلٍ صحيح.. بمناسبة شهر التوعية بالانسداد الرئوي المزمن
التنفس ضروريٌ للبقاء على قيد الحياة؛ لأنه يمدَ الجسم بالأكسجين الضروري لوظائف الخلايا ويُخلَص الجسم من ثاني أكسيد الكربون الناتج عن هذه العمليات. كما أن له فوائد صحية هامة، منها تقليل التوتر، تحسين الصحة النفسية والجسدية من خلال تحسين المزاج، تقوية التركيز وخفض ضغط الدم.
تلعب الرئتان دورًا كبيرًا ومحوريًا في عملية التنفس اليومية التي يقوم بها الجسم تلقائيًا (وفق الأرقام، يتنفس الإنسان البالغ بين 17,280 و28,800 نفسًا في اليوم الواحد، حسب معدل تنفسه في الدقيقة)؛ لذا فالحفاظ على صحتها وسلامتها مسألةٌ في غاية الأهمية، في حال أردنا المحافظة على نسق واتساق هذه الأنفاس اليومية التي تمنحنا الحياة.
لكن وللأسف؛ تتعرض الرئتان للعديد من المشكلات الصحية، في حال عدم العناية بها، منها الانسداد الرئوي المزمن COPD الذي يحتفي العالم خلال شهر نوفمبر الحالي، بشهر التوعية منه. ويُعدَ الانسداد الرئوي المزمن أحد أكثر الأمراض التنفسية المزمنة شيوعًا وخطورة على مستوى العالم. وهذه المناسبة ليست مجرد حملةٍ طبية، تقول الدكتورة رنا الزعبي، استشارية الأمراض الصدرية في مستشفى الريم أبوظبي ؛ بل دعوة مفتوحة للتفكير في أبسط ما يملكه الإنسان: نَفَسهُ. فالتنفس الذي نعتبرهُ أمرًا بديهيًا، يمكن أن يتحول إلى تحدٍّ يومي لمن يعانون من هذا المرض الصامت، الذي يتسلل تدريجيًا دون أن يشعر به المريض إلا بعد فوات الأوان.

في إطار سعينا الدائم لدعم وتوعية قارئات "هي" العزيزات حول كافة الأمور الصحية التي تمسَ حياتهنَ ورفاههنَ؛ تحدثنا إلى الدكتورة الزعبي التي شرحت لنا ماهية هذا المرض وكيفية الوقاية منه.
ما هو الانسداد الرئوي المزمن؟
الانسداد الرئوي المزمن هو مرضٌ تقدّمي يصيب الرئتين، ويؤدي إلى صعوباتٍ في إخراج الهواء أثناء الزفير، مما يُسبَب احتباس الهواء داخل الرئتين وضيقًا في التنفس.
ويشمل هذا المرض حالتين أساسيتين:
1. التهاب الشُعب الهوائية المزمن: ويتميز بسعالٍ متكرر مع إفرازاتٍ مخاطية مستمرة.
2. النفاخ الرئوي (Emphysema): ينتج عن تدمير جدران الحويصلات الهوائية، مما يُقلَل من كفاءة تبادل الغازات داخل الرئتين.
ويؤدي كلا الحالتين إلى تدهورٍ تدريجي في وظائف الرئة، يجعل من عملية التنفس البسيطة تتحول لمجهودٍ كبير.
ما هي الأسباب وعوامل الخطورة؟
بحسب الدكتورة الزعبي؛ يُعدَ التدخين السبب الرئيسي لأكثر من 85% من حالات الانسداد الرئوي المزمن، إذ تحتوي السجائر على آلاف المواد الكيميائية السامة التي تُدمّر أنسجة الرئة تدريجيًا.
لكن التدخين ليس العامل الوحيد، فهناك عوامل أخرى مهمة قد تُسهم في هذا المرض، منها:
• التعرض الطويل لمُلوثات الهواء والغبار الصناعي في بيئة العمل.
• التدخين السلبي، خصوصًا لدى الأطفال والنساء.
• العوامل الوراثية مثل نقص إنزيم ألفا-1 أنتي تريبسين.
• التهابات الجهاز التنفسي المتكررة في الطفولة.
• تلوث الهواء داخل المنازل، الناتج عن استخدام الفحم أو الحطب للطهي.
وتشير الإحصاءات إلى أن الانسداد الرئوي المزمن، يُعتبر ثالث سبب رئيسي للوفاة عالميًا، وأن معدلات الإصابة به في العالم العربي تتزايد مع انتشار التدخين والشيشة خاصةً بين فئة الشباب والمراهقين.
ما الأعراض التحذيرية لمرض الانسداد الرئوي المزمن؟
تبدأ الأعراض، والتي غالبًا ما تُهمَل في البداية، تدريجيًا؛ من أبرزها:
1. سعالٌ مزمن ومستمر مع إفراز بلغم.
2. ضيق في التنفس يزداد مع النشاط.
3. صفير أو أزيز في الصدر.
4. تعب عام أو ضعف في القدرة على ممارسة النشاطات اليومية.
5. التهابات صدرية متكررة.
6. ازرقاق في الشفاه أو أطراف الأصابع في المراحل المتقدمة.
وتقول الدكتورة الزعبي: "كثيرٌ من المرضى يظنون أن هذه الأعراض مرتبطة بالعمر أو قلة اللياقة، مما يؤخر التشخيص ويزيد من تدهور الحالة."
لذا فالتشخيص المبكر يُساعد في تمكين الجسم الطبي من تقديم العلاجات المناسبة، حسب حالة كل مريض والدرجة التي وصل إليها المرض.
ما هي طرق تشخيص الانسداد الرئوي المزمن؟
تشير استشارية الأمراض الصدرية في مستشفى الريم أبوظبي الدكتورة رنا الزعبي، إلى اعتماد الأطباء على عدة فحوصات لتأكيد الإصابة، أبرزها:
• اختبار وظائف الرئة (Spirometry): لقياس كمية الهواء التي يمكن إخراجها.
• الأشعة المقطعية أو السينية للصدر: لتحديد مدى الضرر في الرئتين.
• تحليل الغازات في الدم: لتقييم مستوى الأكسجين وثاني أكسيد الكربون.
• الفحص السريري ومتابعة التاريخ المرضي بدقة.
مضيفةً أن الكشف المبكر هو المفتاح لتحسين نوعية الحياة وتجنّب المضاعفات الحادة.

كيف نعالج هذا المرض ونسيطر عليه؟
حتى اليوم؛ لا يوجد علاج نهائي للانسداد الرئوي المزمن، تجيب الدكتورة الزعبي، لكن بالإمكان السيطرة على الأعراض وتقليل تفاقم المرض من خلال خطةٍ علاجية شاملة تشمل الخطوات الآتية:
1. الإقلاع عن التدخين فورًا، وهي أهم خطوة لوقف تطور المرض.
2. الأدوية الاستنشاقية مثل مُوسعات الشُعب الهوائية والكورتيكوستيرويدات، لتقليل الالتهاب وتحسين التنفس.
3. العلاج بالأكسجين في الحالات المتقدمة.
4. إعادة التأهيل الرئوي (Pulmonary Rehabilitation) الذي يجمع بين التمارين والعلاج التنفسي والدعم النفسي.
5. التدخل الجراحي أو زراعة الرئة في الحالات الحرجة جدًا.
كما يُوصى بتلقي لقاحات الإنفلونزا والالتهاب الرئوي لتقليل خطر العدوى.
لماذا الوقاية خيرٌ من العلاج؟
لأنها بكل بساطة، تتمحور حول الابتعاد عن كل ما يضر الرئتين، تؤكد الدكتورة الزعبي. مشيرةً إلى أن الوقاية تبدأ من مصدر المشكلة، أي التوقف عن التدخين بكافة أشكاله، خاصةً السلبي منه.
كما تُوصينا الزعبي بوجوب الابتعاد عن الأماكن الملوثة بالدخان أو الغبار؛ ممارسة الرياضة بانتظام لتحسين كفاءة الجهاز التنفسي؛ تهوئة المنازل جيدًا وتجنّب الأبخرة الكيميائية؛ تناول غذاء صحي غني بمضادات الأكسدة، وإجراء فحصٍ دوري للرئتين، خصوصًا للمدخنين والعاملين في المصانع أو الورش.
ما هي التطورات الطبية الحديثة بخصوص هذا المرض؟
وفقًا للدكتورة الزعبي، فقد شهدت السنوات الأخيرة تقدمًا لافتًا في علاج الانسداد الرئوي المزمن، من خلال ابتكار أجهزة استنشاقٍ ذكية تُراقب الاستخدام بدقة، وأدوية جديدة طويلة المفعول تُقلَل عدد النوبات الحادة.
كما يجري حاليًا تطوير علاجاتٍ خلوية وتجديدية، تهدف إلى إصلاح أنسجة الرئة المتضررة، وهو ما يمنح الأمل في مستقبلٍ أكثر صحة للمرضى.
فيما يخص الأثر النفسي والاجتماعي؛ لا يقتصر تأثير المرض على الجسد فقط، بل يمتد إلى الحالة النفسية والاجتماعية للمريض. فالكثير من المصابين به يشعرون بالعزلة أو الإحباط، بسبب الاعتماد على أجهزة الأكسجين أو فقدان القدرة على الحركة بحرية. وهنا يبرز دور الأسرة والمجتمع في دعم المرضى نفسيًا ومساعدتهم على التعايش بإيجابية مع المرض.
كما أن المشاركة في برامج التوعية والمجموعات العلاجية، تمنحهم شعورًا بالانتماء والأمل.
خاتمة القول؛ الانسداد الرئوي المزمن ليس حكمًا نهائيًا على حياة المريض، بل هو جرس إنذار يدعو لتغيير السلوك والعودة إلى نمط حياةٍ صحي. وفي شهر التوعية بهذا المرض، لنتذكر أن كل نفس نأخذهُ هو نعمةُ عظيمة تستحق أن نُحافظ عليها.
لنُقلع عن التدخين، ولننشر الوعي في مجتمعاتنا؛ فالرئتان هما عنوان الحياة، والعناية بهما مسؤولية كل إنسان.