
أنيسة الشريف لـ "هي": التحدي الحقيقي للأم في زمن الشاشات هو غياب التواصل الآمن مع الأطفال!
في ظل التقدم التكنولوجي الهائل الذي نشهده، ومع تزايد الانفتاح على الانترنت، تقف الأمهات العربيات حائرات في قلب تحديات جمة تتراوح بين ضغوط الحياة اليومية وثورة الانترنت، الأمر الذي تزيد معه الحاجة إلى صوت خبير يحمل رؤية شاملة، إنسانية، وواقعية توجه الأمهات بشكل سليم نحو تربية أفضل لأطفالهم.
من أجل ذلك، ولأهمية هذا الموضوع، نلتقي اليوم مع خبيرة تجمع بين التخطيط المجتمعي العميق، وتجربة الأمومة القريبة من تفاصيل كل أسرة. لترجمة واقع كثير من الأمهات الحائرات اليوم، وفي محاولة لتقنين اعتماد الأبناء على مواقع الانترنت المتاحة لهم في كل الأوقات تقريبًا، وصولًا إلى المهارات الجوهرية التي تحتاجها الأم اليوم لتنشئة جيل أكثر وعيًا واتزانًا من خلال تعزيز استفادته من التكنولوجيا، وتجنب سلبياتها، تُرى من هي؟
ضيفتنا اليوم، هي "أنيسة الشريف" مربية متخصصة في التنشئة الواعية، ورائدة أعمال اجتماعية، كما أنها مدربة مهارات حياتية وخبيرة في السياسات الاجتماعية.تتمتع بخبرة تمتد لأكثر من 20 عامًا في العمل المجتمعي والتربوي. شغوفة بدعم رفاه الأسرة، وإحداث التغيير الاجتماعي، والإسهام في الإصلاح التعليمي، وقد كرست مسيرتها المهنية لتمكين الأفراد والمجتمعات من بناء مستقبل أكثر وعيًا وتوازنًا. تؤمن بقوة المعرفة والتواصل الإنساني في إحداث الأثر، وتدعو من خلال أعمالها إلى الانفتاح على أفكار جديدة والمشاركة في صناعة التغيير الإيجابي داخل الأسرة والمجتمع.
والآن مع اللقاء الذي أتمنى أن يكون بمثابة مرجعًا مفيدًا لكل أم حائرة في تريد حماية أطفالها من خطر الشاشات، ومتاهة عالم الانترنت المجمهول.

كيف ساعدك العمل في السياسات المجتمعية والتعليمية على فهم احتياجات الأسرة العربية؟
عملي في مجال السياسات الاجتماعية والتخطيط المجتمعي أتاح لي رؤية المشهد من منظور شمولي، حيث تتقاطع منظومات التعليم، والصحة، والعمل، والأسرة. أما الأمومة، فقد وضعتني في عمق التفاصيل اليومية، حيث تنشأ احتياجات الطفل والعائلة في أبسط صورها وأكثرها تأثيرًا.
هذا التنوع في التجربة، بين الرؤية الاستراتيجية والمعايشة التربوية، جعلني ألاحظ أهمية أن تُبنى الخطط والسياسات من خلال فهم أعمق لديناميكيات الأسرة، لا كمستفيدة من الخدمات فقط، بل كعامل رئيسي في بناء الإنسان. فالوالدية ليست مسؤولية فردية، بل مهمة اجتماعية جذرية، لأنها الدور الذي نبني من خلاله الإنسان، الذي هو محور المجتمع وأساسه.
سواء من ناحية الترفيه أو التربية، كيف ترين دور المنصات الترفيهية في دعم العلاقة بين الأهل والأطفال؟
المنصات الترفيهية مثل نتفليكس اليوم أصبحت جزءًا من النسيج اليومي للأسرة، شئنا أم أبينا. لكن الفارق الجوهري ليس في وجودها، بل في كيفية استخدامها.
حين يحضر الأهل كطرف في التجربة الترفيهية، يتشاركون في المشاهدة، ويسألون، ويعلّقون، يصبح الترفيه مساحة لتعميق العلاقة بدل أن يكون وسيلة للانفصال.
وقد بدأت بعض المنصات تدرك هذا البعد وتُنتج محتوى يفتح بابًا لحوار حقيقي داخل الأسرة، وهو توجّه نحتاج إلى رعايته وتفعيله، لأنه يعيد للترفيه دوره كجزء من التربية، لا نقيضًا لها.
مع تزايد استخدام الشاشات لدى الأطفال، برأيك ما التحديات الكبرى التي تواجه الأمهات العربيات اليوم؟
التحدي الحقيقي لا يكمن في الشاشات، بل في ما غاب قبلها: التواصل الآمن!
كثير من المربين اليوم يجدون صعوبة في تلبية احتياجات أطفالهم للتفاعل العاطفي والحضور الحقيقي، لا بسبب إهمال، بل بسبب غياب المهارات التي لم يكتسبوها من الأساس.
أغلب الجيل الحالي من المربين ورثوا أنماط تواصل هشة، وضعفًا في التنظيم الانفعالي، لأسباب نفسية واجتماعية وثقافية متراكمة.
وحين تتراكم الضغوط على المربي دون دعم حقيقي، يصبح اللجوء للشاشة حلًا اضطراريًا، لا ترفًا.
الشاشة هنا لا تُستخدم كوسيلة تعليم أو تسلية، بل كبديل مؤقت عن المربي، أو كوسيلة للتهدئة، لأن الأم مُرهقة، أو مُشتتة، أو محاطة بأشخاص يفتقرون هم أيضًا لأدوات التعامل الواعي مع الطفل.
لهذا لا ينبغي لنا أن نركّز على العَرَض الثانوي المتمثل في تقليل وقت الشاشة، بل علينا أن نركّز على جذر المشكلة، وهو بناء مهارات المربين وتوفير البيئة التي تجعل حضورهم مع أطفالهم ممكنًا وحيًّا وفاعلًا. عندها سيختفي العَرَض تلقائيًا.
كيف يمكن للأهل استخدام منصات الترفيه لخلق علاقات صحية داخل الأسرة؟
وفقًا لفهمنا لنماء الجهاز العصبي والتعلق الآمن، فإن الطفل لا يحتاج فقط إلى ما يشاهده، بل إلى من يشاركه ما يشاهده. حين تحضر الأم كمشاهدة، وكمفسرة، وكشخص يسأل: "ماذا شعرت؟ ما رأيك؟"، يبدأ الطفل في بناء بوصلة داخلية تحميه من التيه وسط انفتاح المحتوى.
في السنوات الأخيرة، لاحظنا توجهًا متناميًا لدى بعض المنصات نحو إنتاج محتوى أكثر مراعاة للبعد الثقافي والعاطفي – مثل منصة نتفليكس على سبيل المثال، مما يفتح فرصة لاستخدام هذا المحتوى كمدخل لحوار مشترك داخل الأسرة، لا كوسيلة للتهدئة أو التسلية فحسب.
ما الفرق بين النموذج التربوي الذي تقدمينه والنماذج السائدة؟
الكثير من النماذج التربوية السائدة في مجتمعاتنا تستند إلى ما يُعرف بالمدرسة السلوكية، وهي مدرسة تركّز على مراقبة السلوك الظاهري للطفل، ثم تعديله باستخدام نظام من المكافآت والعقوبات.
هذا النموذج يتعامل مع السلوك بوصفه "المشكلة"، ومع الطاعة بوصفها "الهدف".
أما الطرح الذي أقدّمه، فهو نموذج قائم على نظرية التعلّق، وفهم التجربة الشعورية والجهاز العصبي للطفل. نحن لا نرى السلوك كمشكلة، بل كمعلومة.
حين ينفعل الطفل، لا نسأل: "كيف نُهدّئه؟"، بل نحاول أن نستشف: "ما الرسالة التي يحملها هذا السلوك؟"، "وكيف يعبّر عمّا يحدث في عالمه الداخلي؟"، و"ما المهارات التي ما زال بحاجة إلى دعم في سبيل تطويرها؟"
نحن نُمكن المربين من امتلاك أدوات حقيقية لبناء مهارات التنظيم الانفعالي، والتواصل، ونقل القيم من خلال العلاقة، لا من خلال التهديد أو التوجيه الأحادي الاتجاه.
ما هي أكثر مشكلة واجهتها الأمهات العصريات ونجحتِ في التعامل معها؟
من أبرز التحديات التي أراها اليوم أن الأمهات أصبحن غارقات في وفرة من المعلومات، دون وجود إطار مرجعي يساعدهن على الفلترة والتمييز.
وهو ما يجعل الكثير منهن في حالة تجريب دائم: تحاول هذه التقنية، ثم تنتقل إلى أسلوب آخر، ثم تتبع رأيًا مختلفًا، مما يُرهقها ويُربك الطفل، ويضع العلاقة في حالة من التوتر المستمر.
هذه ليست مشكلة في توفر الموارد، بل في غياب البناء الفكري الذي يستند إليه المربي عند اختياره لأي استراتيجية تربوية.
حين تكون الفلسفة المتبعة مبهمة، هل أؤمن بأن السلوك نتيجة أم غاية؟ هل أرى الطفل شريكًا أم متلقيًا؟ تصبح المعلومات المتاحة عبئًا لا نعمة.
نحن لا نحتاج إلى مزيد من النصائح، بقدر ما نحتاج إلى استيعاب الخلفية العلمية التي نختار من خلالها، ووعي يُمكّننا من فلترة ما يُعرض علينا دون أن نتبع كل موجة.
وما إن تبدأ الأم ببناء هذا الإطار، يتغير كل شيء: يتضح الطريق، ويهدأ القلق، وتبدأ العلاقة مع الطفل تتنفس من جديد.
ما هي المهارات التربوية التي تحتاجها الأم اليوم؟
أهم المهارات اليوم ليست تقنية، بل إنسانية إذ يجب على الأم أن تكون قادرة على:
- التعرف على مشاعرها، واحتواء انفعالاتها.
- الإصغاء بدقة دون أن الاندفاع للحل.
- بناء حدود واضحة دون تهديد.
- رؤية الطفل من خلال تجربته وليس من خلال سلوكه.
- إدراك أن كل مرحلة من مراحل الأمومة تتطلب أدوات مختلفة.
هذه المهارات ليست فطرية، بل مكتسبة، وهي ما نعمل على بنائه مع الأمهات من خلال التدريب والمرافقة، والرؤية المتكاملة التي تعيد للوالدية معناها الحقيقي.
ما هي رسالتك لكل أم عربية اليوم؟
إلى كل أم عربية "لستِ مطالبة بالكمال، لكنك تستحقين الدعم. ما تفعلينه ليس تفصيلًا في حياة أسرتك، بل هو الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء. الوالدية ليست هواية، إنها مهنة من أشرف المهن، ولها مواسم، وتمر بلحظات صعبة وأخرى مبهجة وسلسة. اسمحي لنفسك بأن تتعلمي، بأن تتعثري، بأن تستريحي، فالرحلة لا تُقاس بنجاح يوم، بل بأثر عميق يدوم.
تذكري: كل خطوة تنمين بها ذاتك، تفتحين بها بابًا جديدًا لأطفالك.
مع تمنياتي لكل أم عربية بالنجاح في تحقيق تواصل آمن ومثمر مع أطفالها،،،