رحلة المهندسة غادة العمودي لتصميم مجموعة الخِمار

خاص بـ "هي": بين التراث والابتكار.. رحلة المهندسة غادة العمودي لتصميم مجموعة "الخِمار" كحوار بين الماضي والحاضر

شروق هشام
15 ديسمبر 2025

في مساحةٍ يلتقي فيها التراث بالابتكار، تأخذنا المهندسة السعودية غادة العمودي في رحلة تصميمية استثنائية عبر "مجموعة الخِمار"، حيث يتحوّل التصميم إلى حوارٍ حيّ بين الماضي والحاضر، وهي المجموعة التي انبثقت من رغبة عميقة في إحياء حِرفة التصديف الإسلامية المهددة بالاندثار، عبر إعادة تقديمها بروحٍ معاصرة تحمل احترام الماضي وتطلّع المستقبل، خاصة وأن تلك الحرفة المتجذّرة في هويتنا وثقافتنا المحلية قد نجحت في حصاد عدة جوائز دولية، مؤكدة حضورها كعمل إبداعي ابتكاري يُبرز الحِرفة الإسلامية والسعودية في أبهى صورها على الساحة العالمية.. لنتعرف على تفاصيل وأسرار هذه الرحلة من خلال هذا الحوار الخاص مع المهندسة غادة العمودي:

أعادت المهندسة غادة العمودي تقديم حرفة التصديف الاسلامية بروحٍ معاصرة
أعادت المهندسة غادة العمودي تقديم حرفة التصديف الاسلامية بروحٍ معاصرة

عرفينا بنفسك.. وحدثينا عن مسيرتكِ في عالم التصميم؟

أنا مهندسة معمارية ومصممة أثاث وباحثة من مدينة جدة، بدأت رحلتي من شغفٍ عميق بكيفية تأثير المساحات والأشياء على المشاعر الإنسانية. بعد حصولي على درجة البكالوريوس في العمارة الداخلية من جامعة دار الحكمة، عملت لعدة سنوات في تصميم مشاريع فندقية وتجارية متنوعة في أنحاء المملكة، وهي تجربة صقلت إحساسي بالتوازن والجمال، وعلّمتني أن التصميم الحقيقي يبدأ من الوظيفة ويحمل في تفاصيله قصةً تُروى.

وفي عام 2024، أكملت دراستي للماجستير في تصميم الأثاث في جامعة سنترال سانت مارتنز في لندن، حيث انصب تركيزي على إعادة إحياء الحِرَف التراثية بروحٍ معاصرة ومنظورٍ حديث.. أؤمن بأن التصميم لغة حية تصل الماضي بالحاضر، وتسمح للقصص والخامات والتجارب الإنسانية بالاستمرار والتطور مع مرور الزمن.

حدثينا عن الفكرة الأساسية وراء مجموعة "الخِمار"(Khimar Collection)  وما الذي ألهمكِ لتصميمها؟

حصلت المجموعة منذ إطلاقها على عدة جوائز دولية
حصلت المجموعة منذ إطلاقها على عدة جوائز دولية

انبثقت مجموعة "الخِمار" من رغبةٍ عميقة في إحياء حِرفة التصديف الإسلامية المهددة بالاندثار، وإعادة تقديمها بروحٍ معاصرة تحمل احترام الماضي وتطلّع المستقبل.. فهي في جوهرها رسالة وفاءٍ للإرث، وخطوة نحو التجديد في الوقت ذاته. ترمز كلمة "الخِمار" إلى الحياء والهوية والفخر، وهي معانٍ تلامسني شخصيًا وتعبّر عمّا أؤمن به من قيم في التصميم. ومن هذا الرمز انطلقت الفكرة لتتّسع إلى قصةٍ أعمق؛ إذ استلهمتُ من ممارسة "الهودج" التاريخية، حين كانت النساء الثريات أثناء رحلاتهن على طريق الحرير يلففن مقتنياتهن الثمينة داخل أقمشةٍ فاخرة قابلةٍ للفكّ والتركيب.. تلك الصورة ألهمتني استكشاف مفهوم الوحدات القابلة للتحوّل.. قطعٌ يمكن أن تُخفي وتُظهر، وتغيّر شكلها تمامًا كما تفعل الهوية نفسها.

شارك في مجموعة الخِمار أكثر من أربعين حرفيًا لإحياء حِرفة التصديف الإسلامية
شارك في مجموعة الخِمار أكثر من أربعين حرفيًا لإحياء حِرفة التصديف الإسلامية

تحتفي المجموعة بما هو خفيّ لا يُرى للوهلة الأولى؛ بالجمال الكامن، وبمهارة الصنعة، وبالقوة الهادئة للتقاليد حين تُعاد صياغتها لتتجدد وتنبض بالحياة من جديد.

جاءت المجموعة لتستكشف العلاقة بين التراث والحداثة.. كيف ترجمتي هذا المفهوم في التصاميم؟

لا أرى التراث والحداثة نقيضين، بل نغمتين من لحنٍ واحدٍ يتردّد عبر الزمن.. أتعامل مع التراث كنظامٍ حيّ يتنفّس في الحاضر، لا كذِكرى جامدةٍ من الماضي.. فعندما يُعاد تأمّله بعينٍ معاصرة، يتحوّل من همسٍ خافت إلى حوارٍ نابض بين الأصالة والتجديد.

تجسّد قطع مجموعة "الخِمار" هذا المفهوم من خلال تحويل منطق الحِرف القديمة إلى تراكيب من أجزاءٍ ومنحوتاتٍ هندسية يمكن فكّها وإعادة تركيبها ونقلها، كما كانت الحِرف تسافر مع أصحابها وتحمل حكاياتهم عبر التاريخ.

قدمت المهندسة غادة العمودي حرفة التصديف بروحٍ معاصرة تحمل احترام الماضي وتطلّع المستقبل
قدمت المهندسة غادة العمودي حرفة التصديف بروحٍ معاصرة تحمل احترام الماضي وتطلّع المستقبل

أما الحداثة فتتجلّى في هندسة التصميم وابتكاره، بينما تبقى الروح في جوهرها يدوية وصادقة.. كل قطعة من عرق اللؤلؤ، وكل نقشٍ محفورٍ على الخشب، هو صدى لأيدٍ ماهرةٍ تناقلت هذه الحِرفة جيلاً بعد جيل.. وكأنها تُوقظ في الخشب ذاكرته القديمة وتُعيد للحِرفة رونقها الأصيل.

والنتيجة عملٌ معاصر في مظهره، متجذّر في الوجدان، يجمع بين ما كنّا عليه وما نصبو إليه.. تأكيد على أن التراث لا يشيخ، بل يتجدّد متى ما وجد من يؤمن به.

ما أبرز التحديات التي واجهتكِ أثناء تصميم المجموعة، وكيف تغلبتِ عليها؟

كان التحدّي الأكبر أن أُترجم روح الحِرفة اليدوية إلى لغةٍ معاصرة دون أن أفقدها صدقها الإنساني أو دفءَ اليد التي صنعتها.. فحِرفة التصديف، رغم إبداعها، حُوصرت مع الوقت داخل أشكالٍ موروثة، تُمارَس للزخرفة أكثر مما تُروى كحكاية.

مثلت المجموعة مساحة يلتقي فيها التراث بالابتكار
مثلت المجموعة مساحة يلتقي فيها التراث بالابتكار

كنت أؤمن أن في داخل هذه الحِرفة ذاكرةً تنبض، وأنها قادرة على أن تتجدّد من دون أن تتنازل عن أصالتها، لذلك حاولت أن أفتح أمام الحرفيين أفقًا جديدًا يرون من خلاله أن التراث يمكن أن يتطوّر، وأن الجمال لا يفقد أصالته حين يعبّر بلغةٍ مختلفة.

كانت الرحلة طويلة، مليئة بالصبر والحوار والثقة، لكننا مع الوقت استطعنا أن نمنح هذه الحِرفة حياةً جديدة.. نحافظ على جوهرها، ونحرّرها من حدودها القديمة.

أما التحدّي الأعمق فكان داخليًا: كيف أوازن بين احترام قُدسيّة التراث والرغبة في أن يتطوّر؟ ما قادني في النهاية هو إيماني بأن الحِرفة حين تلتقي بالخيال، تستعيد روحها وتولد من جديد.

حصلت المجموعة منذ إطلاقها على عدة جوائز دولية، ما أبرز هذه الجوائز؟ وكيف أثّر هذا التقدير الدولي على مسيرتكِ الإبداعية؟

كان الفوز بالتقدير الدولي تجربة مفعمة بالتواضع والامتنان، خاصةً وأن هذه المجموعة تنطلق من حِرفةٍ متجذّرة في هويتنا وثقافتنا المحلية، فلقد نالت "مجموعة الخِمار" ثلاث جوائز بلاتينية في جوائز العمارة والتصميم (Architecture & Design Collection Awards)، إلى جانب جوائز فضية من كلٍّ من جوائز لندن للتصميم، وجوائز ميوز (MUSE Design Awards)، وجوائز نيويورك لتصميم المنتجات (New York Product Design Awards)، كما حصلت المجموعة مؤخرا على تنويه خاص من جوائز IDA للتصميم لعام 2025، وهو ما أكّد لي أن السرد الثقافي يمتلك لغةً عالمية يفهمها الجميع.

مجموعة الخِمار حيث يتحوّل التصميم إلى حوارٍ حيّ بين الماضي والحاضر
مجموعة الخِمار حيث يتحوّل التصميم إلى حوارٍ حيّ بين الماضي والحاضر

هذه الجوائز لم تكن مجرّد إنجازات شخصية، بل دليلٌ على أن العالم يُصغي حين نتحدث بصدقٍ من خلال تراثنا.. وقد عزّزت فيَّ إيمانًا داخليًا بأهمية الاستمرار في ابتكار أعمالٍ تربط بين الثقافات وتُبرز الحِرفة الإسلامية والسعودية في أبهى صورها على الساحة العالمية.

برأيكِ، كيف يمكن للتصميم أن يجمع بين الوظيفة والسرد الثقافي؟

أرى أن التصميم يبلغ ذروته حين يجمع بين المنطق والشعور؛ فالوظيفة تمنحه الحياة، أما القصة فهي التي تمنحه الروح.. بالنسبة لي، لا يمكن فصل الجمال عن المعنى، ولا الشكل عن الذاكرة التي تسكنه.

في "مجموعة الخِمار" استخدمتُ البنية كرمزٍ بصري؛ تتحوّل فيها المفاصل إلى لغة، والخامات إلى ذاكرة.. كل تفصيلٍ في القطعة يؤدي وظيفةً تقنية تُحافظ على تماسكها، لكنه في الوقت ذاته يحمل دلالة رمزية تربطنا بجذورنا الأولى.

وحين يتّحد المنطق مع الإرث، يتجاوز التصميم مفهوم الوظيفة ليصبح وعاءً للهوية والذاكرة والمعنى.. وكأنه حالةٌ شعورية؛ مرآةٌ لهويّتنا، وامتدادٌ لذاكرتنا، وتجسيدٌ لما نؤمن به.

من تصاميم مجموعة الخِمار Khimar Collection من المهندسة غادة العمودي
من تصاميم مجموعة الخِمار Khimar Collection من المهندسة غادة العمودي

تلعب الحِرفة التقليدية دورًا محوريًا في أعمالكِ.. كيف تتعاملين في تعاونكِ مع الحرفيين، وما الذي تعلّمتِه من هذه التجارب؟

الحِرفة بالنسبة لي ليست تفصيلًا في العمل، بل جوهره.. ففي "مجموعة الخِمار" شارك أكثر من أربعين حرفيًا في إحياء حِرفة التصديف الإسلامية المهدَّدة بالاندثار.. قدّمت الرؤية والمفهوم، ومعًا صغنا التفاصيل، نسجنا داخلها طبقاتٍ من الرموز والحكايات.. تحوّلت حِرفتهم إلى لغتي، واستخدمتُ حروفها لكتابة شعري.

العمل إلى جانبهم غيّر مفهوم التصميم لديّ؛ فقد أدركت أن التصميم لا يقوم فقط على الشكل، بل على الصبر، والتواضع، واحترام العملية نفسها، هؤلاء الحرفيون ليسوا منفّذين لأفكاري، بل شركاء في الإبداع.. يترك كلٌّ منهم أثرًا من قصته داخل العمل.. معًا، حوّلنا التراث إلى كيانٍ يتنفّس من جديد، نحافظ به على الحِرفة لا كذكرى من الماضي، بل كلغةٍ حيّة للجمال.

رحلة المهندسة غادة العمودي لتصميم مجموعة الخِمار  - الصورة الرئيسية
رحلة المهندسة غادة العمودي لتصميم مجموعة الخِمار 

كيف تُقيّمين المشهد الحالي للتصميم والإبداع في السعودية؟

يشهد قطاع التصميم والإبداع في السعودية تحوّلًا استثنائيًا - تحوّلًا يجمع بين الجذور العميقة والبدايات المتجددة-، هناك وعيٌ متنامٍ بقيمة الحِرفة والسرد والهوية في التصميم، والأجمل أن المبدعين السعوديين لم يعودوا يبحثون عن الإلهام في الخارج، بل اتجهوا إلى الداخل، يكتشفون في تراثهم مصدرًا للابتكار والفخر.

نحن اليوم أمام جيلٍ لا يُقلّد، بل يُبدع من مكانٍ صادقٍ ومنتمٍ؛ جيلٍ يكتب قصته بلغته الخاصة، ومع توسّع المبادرات والمؤسسات الداعمة، أصبح للمواهب المحلية منصّات تعبّر من خلالها، فيما تشهد الحِرف التقليدية عودةً معاصرة تُعيد إليها قيمتها ومكانتها.

إنه زمنٌ مفعمٌ بالأمل.. زمنٌ يحتفي بالماضي، ويصوغ المستقبل بصوتٍ سعوديٍّ يحمل ذاكرة الأمس ونبض الغد.

ما خططكِ المستقبلية في استكشاف التراث والثقافة السعودية من خلال التصميم؟

في مجموعة "الخِمار"، تعمّقتُ في أفكارٍ متعدّدة الجوانب: الهوية والانطباع، الصورة النمطية للمرأة، إحياء الحِرف المهدَّدة بالاندثار، والتوازن بين التراث والحداثة من خلال تصاميم تُبقي الذاكرة حيّة، وتُعيد للمواد لغتها الأولى، وتمنح التراث روحًا جديدة تتنفس عبر الزمن.

أسعى في المرحلة القادمة إلى توسيع هذه الرؤية لتشمل حِرفًا وحواراتٍ أوسع - بحيث يستكشف كل مشروعٍ بُعدًا مختلفًا من الجمال والهوية، سواء كان اجتماعيًا أو ثقافيًا أو بيئيًا -، كما أعمل على بناء جسور تعاونٍ بين الحرفيين السعوديين والمنصّات العالمية، ليجدوا من خلالها فضاءاتٍ جديدة تُبرز مهاراتهم الأصيلة وتُقدّمها للعالم بروحٍ معاصرة تعكس فكرنا المتجدّد ورؤيتنا للمستقبل.

أؤمن أن التصميم الحقيقي هو ما يتجاوز المادّة، ويُصبح مرآةً لفكر الإنسان وروحه.. عملٌ يحمل في طيّاته تساؤلًا صامتًا عن الجمال، والهوية، والزمن الذي نعيش فيه.

انبثقت المجموعة من رغبة عميقة في إحياء حِرفة التصديف الإسلامية المهددة بالاندثار
انبثقت المجموعة من رغبة عميقة في إحياء حِرفة التصديف الإسلامية المهددة بالاندثار

كلمة أخيرة..

بالنسبة لي، التصميم ليس مجرّد شكلٍ أو وظيفة، بل حالةُ بوحٍ صامتة أعبّر من خلالها عمّا تعجز عنه الكلمات.. هو طريقتي للاحتفاء بما ورثناه، والتعبير عمّا نحلم بأن نتركه من أثر.. كل قطعةٍ أبتكرها تحمل شيئًا من ذاتي.. من ثقافتي، ومبادئي، ومن ذلك الإعجاب الهادئ بما يكمُن خلف السطح.

لطالما آمنت أن الجمال لا يُقاس بما نُظهره، بل بما نحمله في أعماقنا.. ولهذا أصبح عملي مرآةً لهويّتي، لا بصورتي، بل بروحي التي تنعكس في الشكل والمشاعر والحكاية.

وإن كانت "مجموعة الخِمار" قد علّمتني شيئًا، فهو أن الحقيقة الأجمل كثيرًا ما تسكن ما لا يُرى.. في الصمت، في التفاصيل، وفي المعنى الذي نمنحه لما يبقى خفيًّا عن العيون.

حساب الانستجرام

الصور تم استلامها.