
صفية بن زقر أم الفن السعودي وثروة وطن: حوار حصري مع د. إيمان الجبرين
طوال حياتي كان في داخلي فن يلح علي كحنين لا يُطال. وربما يعود ذلك إلى أن الفن في المملكة العربية السعودية قائم في جوهره على التراث. فالتمسك بالثقافة الشعبية وبالذاكرة الجمعية ليس ترفا، بل هو فعل مقاومة، وهو ما لا يجعل التوثيق الفني عندنا تمردا بقدر ما هو حفاظ على لحظة وأثر، لنقول: نحن هنا، وكنا هنا.
وفي تكريم هذا الإرث الفني العريق، تتجلى المملكة العربية السعودية بصفتها حافظة لكنز وثروة وطنية استثنائية تتمثل في الفنانة الرائدة صفية بن زقر التي نستطيع أن نلقبها بكل فخر: أم الفن السعودي.
صفية لم تكن مجرد رسّامة، بل كانت ضميرنا الجمعي. حملت تفاصيل حياتنا على أكتافها، وحاكت ذاكرة الأجداد بريشتها لتمنحها للأحفاد. كانت رسالتها أكبر من الفن، وكانت وعدا صادقا بأننا لن نُنسى.

إيمان الجبرين.. امتداد للمسيرة
قبل الخوض في تفاصيل إرث صفية، لا بد من التوقف عند الباحثة والقيّمة الفنية الدكتورة إيمان الجبرين، التي كرّست أكثر من عشرين عاما لدراسة الفن السعودي. حصلت على منحة Getty-CAA الدولية لمؤرخي الفن عام 2020، وتعاونت مع مؤسسات عالمية كبرى مثل MoMA وسوذبي وآرت دبي، إلى جانب شراكات وطنية مع الهيئة الملكية لمدينة الرياض، وهيئة تطوير بوابة الدرعية، ومؤسسة الملك سلمان. كما شاركت بصفتها قيّمة فنية في معارض بارزة، من بينها النسخة الأولى من نور الرياض، والجناح السعودي في بينالي فينيسيا. الدكتورة إيمان ليست باحثة فقط، بل هي جسر يربط الأجيال، وامتداد لمسيرة صفية التي آمنت بأن الفن ذاكرة جماعية لا تخص الفنان وحده، بل تخص الأمة بأكملها. تقول الدكتورة إيمان: "صفية لم تكن مجرد رسّامة، بل كانت ضميرنا الجمعي. حملت تفاصيل حياتنا على أكتافها، وحاكت ذاكرة الأجداد بريشتها لتمنحها للأحفاد. كانت رسالتها أكبر من الفن، كانت وعدا صادقا بأننا لن نُنسى".

البداية.. شغف مبكر ومسيرة وعي
نقلا عن الدكتورة إيمان، أحبت صفية بن زقر الرسم منذ طفولتها، وصقلت مهاراتها في finishing school، ثم عادت إلى مصر بعد دراستها الابتدائية. هناك تعزز وعيها بالفن الذي كان جزءا من الحياة اليومية، ولم يكن هواية عابرة.

المعرض الأول.. حدث استثنائي في تاريخ المرأة والفن
في عام 1968، أقامت صفية أول معرض نسائي مشترك في المملكة مع الفنانة منيرة الموصلي. كتب الصحفي علي حافظ في جريدة المدينة المنورة المانشيت بعنوان: "لنخض المعركة جميعا!"، مشيــــدا بـــــــهــذا السبق التاريـــخـــــي، وداعـــيــــــا إلى دعم المرأة السعودية في جميع المجالات. وقد سمحت لنا الدكتورة إيمان الجبرين بنشر مقال كتبته من سنـــوات، ولم ينــــــشر من قبــــل، سمـــحت لنا بنشره للمرة الأولى لما يحمله من قيمة توثيقية. كاتالوج هذا المعرض أصبح لاحقا جزءا من أرشيف متحف فنون المرأة في واشنطن، كما شاركت صفية في معارض بلندن عامي 1973 و1980، وهي مشاركات لا تزال محفوظة في أرشيف Tate Britain.

المرأة في لوحاتها.. دعوة للانطلاق
تشــــاركنــــا دكتـــورة إيمـــــان الجبرين قراءة مفصلة وعميقة عن فن صفية بن زقر، فتقول: إن جميع لوحاتها التي مثّلت فيها المرأة، كانت صفية كأنها تقول: "انطلقن"، لم تكن المرأة جسدا مرسوما، بل قوة اجتماعية وروحا حاضرة: في الأسواق، في حفلات الزواج، في الأمسيات العائلية، وفي مشاهد الحِرف اليدوية، في السعي المهني، وكأنها تعيد كتابة سيرة مجتمع بريشة أنثوية حرة.

صفية.. معلم حياة وباحثة في عمق التاريخ
تقول الدكتورة إيمان الجبرين التي عاصرتها طوال فترة كتابة رسالة الدكتوراه التي كرستها للاحتفاء بمسيرة صفية بن زقر: "والله كانت بالنسبة إلي معلم حياة. محادثاتي معها كانت مهمة جدا في فترة شعرت فيها بأنني وحيدة وضائعة. كانت تنصحني بلا قصد، وتطمئنني بأن اختياراتي صحيحة. أهم درس تعلمته منها أن تكوني انتقائية وألا تنساقي وراء الضغوط، لأن الاستمرارية تحتاج إلى صبر ووعي".
وتضيف: "علمتني صفية أن السباق مع نفسك، وأن الحواجز التي يجب أن تتجاوزيها هي تلك التي تحددينها أنتِ، لا غيرك". تروي الدكتورة إيمان أن صفية لم تكتفِ بالرسم، بل حملت على عاتقها مهمة البحث وإعادة رسم التاريخ. ارتادت مكتبات لندن، وبحثت في الوثائق والصور، ثم أعادت رسم الماضي بتفاصيل أدق. ويعد كتاب "درزة" من تأليفها مرجعا للأزياء التقليدية، وأول توثيق بصري حي يحفظ هُوية المجتمع بألوانه وزخارفه وأصالته.

صفية بن زقر.. ثروة وطن و"نورة تكتب" امتداد الإرث

في الذكرى السنوية الأولى لرحيل صفية بن زقر، نستطيع أن نختصر إرثها في عبارة واحدة: ثروة وطن. هي بحق أم الفن السعودي، واسمها محفور في وعينا الثقافي كرمز للحفاظ على الهُوية، وصوت خلد الماضي ليبقى حاضرا ومستقبلا. من بين أبرز أعمال صفية بن زقر التي نوهت بها الدكتورة إيمان، كما حرصت على منحها اهتماما كبيرا، لوحة "نورة تكتب"، والتي تعتبرها إيمان الجبرين وصية بصرية. تقول: "هذه اللوحة إعلان عن استمرارية الإرث، وليست مجرد عمل فني، بل هي مشعل تسلمه صفية للأجيال المقبلة لتواصل الكتابة عن المجتمع والحياة والتاريخ". وامتدادا لهذا الإرث نحتفي بالفن من ثلاثة أجيال مختلفة، ونحاول تصور ما تصوروه في لوحات على أرض الواقع. خيال من نبع الخيال لنعيش عزنا وأصالتنا في فترة زمنية مضت على أرض الحاضر من عيون الفن والفنانين السعوديين الذين تركوا بصمة فلسفية عميقة من خلال توجهاتهم الفنية، وكل الطرق الفنية تؤدي إلى السعودية!