دكتورة إيمان الجبرين مع الراحلة صفية بن زقر -  المصدر دكتورة إيمان الجبرين

في ذكرى صفية بن زقر… ستة عقود من الريادة وتمكين المرأة في عالم الفن السعودي

مشاعل الدخيل
12 سبتمبر 2025

في هذا اليوم الخاص، الذي يوافق مرور عام على رحيل الفنانة الرائدة صفية بن زقر، تستعيد "هي" مسيرة استثنائية امتدت لستة عقود، رسمت خلالها بريشتها ملامح الفن السعودي، وكرّست أعمالها لتوثيق التراث والحياة اليومية، لتصبح ذاكرة بصرية خالدة للأجيال. لم تكن لوحاتها مجرد أعمال جمالية، بل كانت وثائق حية تحفظ الهوية وتعيد تقديمها للأجيال المقبلة.

الحضور برفقة الأمير مشعل بن عبدالعزيز خارج مدرسة دار التربية الحديثة للبنات في جدة قبيل افتتاح المعرض الأول- المصدر دارة صفية بن زقر
الحضور برفقة الأمير مشعل بن عبدالعزيز خارج مدرسة دار التربية الحديثة للبنات في جدة قبيل افتتاح المعرض الأول- المصدر دارة صفية بن زقر

وتزامناً مع عام الحرف اليدوية والتراث، يبرز إرث صفية بن زقر باعتباره نموذجاً على التلاقي بين الحرفة والفن، بين الأصالة والإبداع، وبين دور المرأة الفاعل في صياغة المشهد الثقافي. فقد جعلت من أعمالها احتفاءً بالمرأة وتجسيداً لمكانتها، وأسست برؤيتها لجيل من الفنانات السعوديات اللاتي أكملن هذا الطريق بثقة وعزيمة.

واليوم، مع اقتراب افتتاح متحف الملك سلمان الذي يُعنى بحفظ التاريخ والفن والأرشفة، نستحضر تلك اللوحة النادرة التي عادت بها صفية بن زقر إلى المشهد بعد فترة انقطاع، وأهدتها لجلالته عقب تكريمها بـ وسام الملك عبدالعزيز عام 2017. لم تكن اللوحة مجرد عودة فنية، بل رمزاً لمسيرةٍ أوسع امتدت إلى ميادين الفن والتعليم معاً، حيث تركت صفية بصمة واضحة في تمكين المرأة وإشراكها في صناعة الثقافة والمعرفة.

جمع غفير من شخصيات المجتمع في مجال الثقافة والأعمال في اقنتاح المعرض الأول من الأرشيف الشخصي للفنانة صفية بن زقر - المصدر دكتورة إيمان الجيرين
جمع غفير من شخصيات المجتمع في مجال الثقافة والأعمال في اقنتاح المعرض الأول من الأرشيف الشخصي للفنانة صفية بن زقر - المصدر دكتورة إيمان الجيرين

وفي هذا السياق، تبرز إسهامات الدكتورة إيمان الجبرين الباحثة والفنانة والقيمة التي كرّست أطروحتها للدكتوراه لمسيرة صفية بن زقر وكانت من المقربات إليها…  حيث تشاركنا اليوم، بصفتها من القائمين على المتحف ودعمها اللا محدود للثقافة والفن والفنانين، مقالاً مؤرشفاً كتبته قبل سنوات ليطل عبر صفحات هي تكريماً لصفية بن زقر. مقال يعيدنا إلى لحظة الانطلاقة الأولى، أولمعرض نسائي تاريخيوالذي فتح آفاقاً جديدة للمرأة السعودية في عالم الفن والتعليم، وأرسى نهجاً ريادياً ما زال أثره ممتداً حتى اليوم

نحن في "هي" لا نستحضر فقط ذكرى رحيلها، بل نحتفي برحلة إبداعية وإنسانية جسدت الريادة النسائية السعودية في أبهى صورها، وأكدت أن الفن كان وسيبقى أحد أجمل مسارات التمكين والتعبير.

المعرض النسائي الأول وانطلاق مسيرة الستين عام على رسم ملامح الفن في المملكة

مقال بقلم الدكتورة إيمان الجبرين

حضور الأمير مشعل بن عبدالعزيز أول معرض للفنانتين منيرة موصلي وصفية بن زقر
حضور الأمير مشعل بن عبدالعزيز أول معرض للفنانتين منيرة موصلي وصفية بن زقر

“لنخض المعركة جميعاً!” هكذا عنون الكاتب الصحفي القدير علي حافظ مقاله الذي نشره في جريدة المدينة المنورة عام 1968م احتفاءً بالمعرض الفني الأول في تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث للمرأة، وتوج المقال بإهداء “إلى الفنانتين منيرة الموصلي وصفية بن زقر وكل فتاة واعية ومثقفة”. لم يخفِ الكاتب في هذه المناسبة فرحته العارمة بهذا السبق الفني وإعجابه الكبير بما شاهده من أعمال للفنانتين كما نقل ما سمعه من انطباعات ضيوف الافتتاح من أمراء وأعيان كان أهمها التوصية بنقل المعرض إلى مدن المملكة الأخرى ليشاهده أكبر قدر ممكن من المواطنين.

المعرض الأول للفنانتين السعوديتين… لحظة فارقة في 1968

دكتورة إيمان الجبرين مع الراحلة صفية بن زقر -  المصدر دكتورة إيمان الجبرين
دكتورة إيمان الجبرين مع الراحلة صفية بن زقر -  المصدر دكتورة إيمان الجبرين

هذه الانطباعات المنشورة على الملأ والمصحوبة بتلك الفرحة العارمة لم تكن الوحيدة من نوعها، حيث اكتظت الصحف السعودية لأسابيع بانطباعات كبار الكتّاب والصحفيين السعوديين الذين سجلوا إعجابهم بهذا الحدث وتنبؤاتهم بأن يكون بداية لفصل جديد في التاريخ السعودي الحديث. ولعل العبارة التي اختارها حافظ ليستفتح بها مقاله تعكس أمراً هاماً قد نسيه البعض اليوم، وهو أن تحديات المرأة السعودية لم تكن تحدياً لها وحدها رغم كون الكثير منها نابع من توقعات المجتمع التقليدي للأدوار المنتظرة منها، بل كانت تحديات جيل كامل من الشباب الذي يحاول شق طريق جديد في الحياة، ابتعد فيه عن مهنة الأجداد واستحدث من خلاله خيارات للعيش لم تكن مألوفة أو موثوقاً في جدواها. ففي عام 1968م أقيم المعرض الأول لكلّ من الفنانة منيرة أحمد موصلي، والفنانة صفية سعيد بن زقر، والذي اعتبر أول معرض مسجل في التاريخ لامرأة سعودية.

أول معرض نسائي فني في المملكة

سمو أمير منطقة مكة المكرمة الأمير مشعل بن عبدالعزيز يوقع سجل الزوار في ليلة افتتاح المعرض الأول للفنانتين صفية بن زقر ومنيرة موصلي - المصدر دارة صفية بن زقر
سمو أمير منطقة مكة المكرمة الأمير مشعل بن عبدالعزيز يوقع سجل الزوار في ليلة افتتاح المعرض الأول للفنانتين صفية بن زقر ومنيرة موصلي - المصدر دارة صفية بن زقر

وتعود قصة المعرض إلى بداية تعارفهما في القاهرة عام 1965م تقريباً. كانت الفنانة منيرة موصلي طالبة منتظمة في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة منذ عام 1963م، في حين كانت صفية بن زقر قد أنهت دراستها في مجال السكرتارية في بريطانيا، وعملت فترة وجيزة في جدة، ثم قررت السفر إلى القاهرة رغبة في الحصول على تدريب في الفنون بمستوى التدريب الجامعي. وقد قبلت صفية بالفعل في معهد ليوناردو دافنشي العريق للفنون، إلا أن عدم استقرار الأوضاع السياسية آنذاك في مصر دفعها إلى التفكير بالحصول على دروس خصوصية مكثفة اختصاراً للوقت. وبالفعل تعرفت صفية بن زقر على الدكتور صبري عبدالغني الذي كان يعمل بالجامعة آنذاك ليقدم لها دروساً شبيهة بما يقدم في مناهج الجامعة.

فكرة المعرض وأحداث الافتتاح

صفية بن زقر عام 1971 من الأرشيف الخاص بمتحف التيت البريطاني لندن - المصدر دكتورة إيمان الجبرين
صفية بن زقر عام 1971 من الأرشيف الخاص بمتحف التيت البريطاني لندن - المصدر دكتورة إيمان الجبرين

بعد عودة الفنانتين منيرة وصفية إلى جدة إثر تخرج الأولى من كلية الفنون الجميلة عام 1967م، وانتهاء الثانية من دروسها الخصوصية، بدأ التخطيط لإقامة معرض مشترك ومنفصل في آن معاً، إذ أن غياب التجهيزات وحداثة الممارسات الفنية استلزم تضافر الجهود لينجحا بالمهمة. كانت وقتها منيرة موصلي تعمل كمعلمة للفنون في مدارس دار الحنان الشهيرة، في حين كانت صفية بن زقر تعمل في تخصصها بأعمال السكرتارية الخاصة بشركة العائلة وتمارس الاثنتان العمل الفني بجدية في أوقات الفراغ. وقع الاختيار على مدارس التربية الحديثة في جدة التي رحبت سمو الأميرة الجوهرة بنت سعود الكبير بهذه الفكرة، فقد كانت من الشخصيات التي آمنت بتعليم البنات الأساسي والعالي باكراً وسخرت كل إمكاناتها لدعمه.

افتتاح تاريخي برعاية أمير مكة ومشاركة رواد الفن والثقافة

صفية بن زقر
صفية بن زقر

تم تخصيص قاعة مستقلة لكل فنانة عرضت فيها أعمال جديدة بالإضافة إلى أعمال من مرحلة الدراسة. وتمت دعوة أمير مكة المكرمة آنذاك، سمو الأمير مشعل بن عبدالعزيز رحمه الله، لافتتاح المعرض بحضور عدد كبير من الشخصيات الثقافية والسياسية والدينية، وذلك في مساء الثلاثاء الموافق 2 أبريل 1968م. كانت ليلة الافتتاح مخصصة للرجال فقط، إذ لم يكن وقتها شائعاً حضور السيدات مع الرجال، إلا أن المعرض نال عناية خاصة من قبل العائلة والزملاء من الفنانين على الرغم من عدم تمكن الفنانتين من التواجد. رافق أفراد عائلتيهما من الذكور الضيوف منذ الخطوة الأولى، كما بادر الفنان عبدالحليم رضوي رحمه الله بشرح الأعمال لسمو الأمير. في حين اكتظت ساحة المدرسة وممراتها بالحضور، وسجلوا مشاعرهم وانطباعاتهم على صفحات سجل الزوار التذكاري، ولم تكن تلك عبارات ثناء ومجاملة فقط، بل تضمنت نقداً واقتراحات سطرها هؤلاء حرصاً منهم على تكامل الخبرة وتبادل الرأي.

كانت الأعمال متنوعة جداً من حيث الموضوع، ولم تخلُ من الجدية، حيث عرضت منيرة موصلي 35 عملاً من بينها لوحة بوسائط متعددة حملت عنوان “النكسة”، في حين عرضت صفية بن زقر 33 عملاً عبرت فيها عن فئات مختلفة من المجتمع الحجازي والنجدي والمصري بالإضافة إلى بورتريهاتها الخاصة ودراساتها الفنية الأخرى.

شرعية الفن وتمكين تعليم المرأة

صورة الغلاف لكتيب معرض الرسوم الأول للفنانة صفية بن زقر ومنيرة موصلي عام 1968 من أرشيف متحف المرأة في الفنون واشنطن - المصدر دكتورة إيمان الجبرين
صورة الغلاف لكتيب معرض الرسوم الأول للفنانة صفية بن زقر ومنيرة موصلي عام 1968 من أرشيف متحف المرأة في الفنون واشنطن - المصدر دكتورة إيمان الجبرين

يرى البعض أن تفاصيل الافتتاح لم تكن عشوائية، بل خططت بعناية لتحقيق أهداف أكبر. فقد أعطت دعوة سمو أمير مكة المكرمة لافتتاح المعرض الممارسة الفنية شرعية في أعين الناس.  كما آمنت الفنانتان بأن تلك الزيارة شرعت أيضاً تعليم المرأة وجعلته أكثر قبولاً بين الناس حين اقتادت الأعيان ليشاهدوا معرض الفنانتين كشاهد على ثمار تعليم البنات، بل ولفتت الانتباه إلى أهمية إدخال حصص التربية الفنية للمنهج الدراسي في تعليم البنات الذي كان حينها يفتقر إلى ذلك.

الفن السعودي بريشة امرأة… انطلاقة نحو العالمية

من الأعمال التي عرضت للفنانة صفية بن زقر في أول معرض فني نسائي في الرياض 1968 - المصدر دكتورة إيمان الجبرين
من الأعمال التي عرضت للفنانة صفية بن زقر في أول معرض فني نسائي في الرياض 1968 - المصدر دكتورة إيمان الجبرين

هذه الخطوة قادت الفنانتين إلى رحلة طويلة وعامرة بالنجاحات، حيث انطلقت كل منهما في طريقها الخاص وكونت لنفسها أسلوباً ميزها عن البقية. انضمت منيرة موصلي إلى جماعة أصدقاء الفن الخليجي الذين انطلقت قافلتهم لشتى أنحاء العالم فوصلت معارضهم الممولة ذاتياً إلى جزر الكاريبي، في حين استمرت صفية تسير بخطى راسخة ورصينة لتنظم عدداً من المعارض الشخصية المتجولة في العواصم الأوروبية (لندن – باريس – جنيف) ونشرت عدداً من الكتب المحملة بانطباعاتها عن التراث السعودي في محاولة لتوثيقه والتعريف به. وقد توجت مسيرتها بافتتاح متحفها الشخصي الذي يعرض كنوزها الفنية ومجموعة تراثية لا تقدر بثمن رغبة في خدمة محبي الفن والتراث.

صورة الغلاف لكتيب معرض الرسوم الأول بالعربي والانجليزي للفنانة صفية بن زقر ومنيرة موصلي عام 1968 من أرشيف متحف المرأة في الفنون واشنطن - المصدر دارة صفية بن زقر
صورة الغلاف لكتيب معرض الرسوم الأول بالعربي والانجليزي للفنانة صفية بن زقر ومنيرة موصلي عام 1968 من أرشيف متحف المرأة في الفنون واشنطن - المصدر دارة صفية بن زقر

صفيةً بن زقر وستة عقود من الريادة

واليوم، بعد ستين عاماً من انطلاق ذلك المعرض الأول، يمكن القول إن صفية بن زقر ومنيرة الموصلي لم تفتتحا مجرد حدث فني عابر، بل وضعتا معاً الأساس لمسيرة إبداعية كبرى رسمت ملامح الفن التشكيلي في المملكة. إن أثرهما لا يزال حاضراً في وجدان الأجيال الجديدة من الفنانات السعوديات اللواتي يستلهمن من شجاعتهما وإصرارهما على فتح الطريق أمام المرأة والفن في آن واحد.

إقرأ أيضًا:

"هي" تحتفي بمسيرة "أم الفن" صفية بن زقر.. رسائل خاصة من 7 فنانات سعوديات