
الفنانة السعودية شذى السعيدان لـ"هي": أرى في الفن طريقاً للشفاء وإعادة بناء الذات
في عالم تتسارع فيه الإيقاعات وتتكدّس فيه الصور، اختارت شذى السعيدان أن تمشي عكس التيار. أن تُنصت بدل أن تملأ الفراغ، وأن تُبطئ كي ترى ما لا يُرى. لم تأتِ إلى الفن من المسارات التقليدية، بل من الممرات الطويلة في المستشفيات، من لحظات الصمت مع المرضى، ومن انشغال حقيقي بالإنسان، لا كمفهوم نظري، بل ككائن هشّ يتشكّل عبر الألم والعلاقة والذاكرة.
شذى السعيدان فنانة سعودية متعددة الوسائط، تحمل خلفية علمية في التأهيل الطبي وإدارة الفنون، وتحوّل المواد الطبيعية—كالسُكر، الطين، والألياف—إلى مساحات للتأمل والشفاء.
في هذا الحوار ترافق "هي" شذى خلال مراحل التحوّل التي مرّت بها، ونغوص في فلسفتها الفنية التي ترى في الفن أكثر من مجرد ممارسة جمالية؛ بل ممارسة وجودية، تُعيد للذات صلتها بالعالم، وللإنسان صلته بالآخر.

التحوّل ليس قفزة... بل امتداد داخلي
بعد أكثر من عقد في مجالي التأهيل الطبي والتعليم، وخمس سنوات في موقع استراتيجي في التحول الصحي، كانت قد كوّنت نظرة عميقة للوجود الإنساني من زوايا متعددة.
تقول شذى: "لم يكن قراري للتفرغ للفن في عام 2024 انفصالًا عن مساري السابق في القطاع الصحي، بل امتدادًا داخليًا لمسار ظل يتشكّل بصمت عبر سنوات من العمل والتجربة. لقد تركت تلك التجارب أثرًا عميقًا في حياتي الشخصية، وعلّمتني أن رؤيتي للإنسان واحدة، سواء تمظهرت في رعاية الجسد أو في ملامسة الروح عبر الفن."
هذا التحوّل يتطلّب، كما تصفه، "قدرًا كبيرًا من الوضوح الداخلي والصدق مع الذات"، مشيرة إلى أن الفن أصبح في هذه المرحلة الوسيط الأصدق للتعبير عن العمق، "عن أفكار تتجاوز الكلمات، ومشاعر لا يليق بها إلا أن تتجسّد… كعمل فني".
الذاكرة الحسية في مواجهة الجسد
في خلفية شذى المهنية خصوصية نادرة، توضح: "خلفيتي في التأهيل الطبي وتفاعلي السابق على مدار عشرة أعوام مع المرضى بشكل يومي، منحاني نافذة نادرة للتأمل في النفس البشرية، لا بوصفها كيانًا منفصلًا، بل ككائن متحوّل يتشكّل باستمرار بفعل التجربة والعلاقة والذاكرة. هناك، في تفاصيل الألم والشفاء، أدركت أن الإنسان لا يتشكل بمعزل عن الآخر، بل من خلاله."
ولذا، أصبح جوهر أعمالها محاولة لتجسيد تلك اللحظات الدقيقة والهشة التي تُبنى فيها الهوية الإنسانية ورفاهيتها.

حين تختار المادة الفنانة
لا تتعامل شذى مع المواد بوصفها أدوات، بل كيانات تملك طاقتها الخاصة وذاكرتها الكامنة، تقول: "أيقنت أن اختيار الخامة لا يكون عشوائيًا، بل هو امتداد طبيعي لفكرة المشروع وسياقه. فالمادة تحمل في داخلها لغة خاصة، وذاكرة تُسهم في تشكيل المعنى."
وتكمل الحديث قائلة: "علاقتي بالمادة علاقة حسية قبل أن تكون فكرية؛ أستكشفها بحواسي، أتحسّس ملمسها، أراقب تحوّلاتها الخفية، وأترك لها المجال أن تتغير وتتشكّل بحرّيتها. وفي الوقت نفسه، تُمكّنني خلفيتي العلمية من التعامل مع المادة بمنهج بحثي تجريبي واعٍ."
من يختار من؟ الفكرة أم الوسيط؟
ترى شذى أن الفكرة دائمًا تأتي أولًا، وهي من توجّه الوسيط، لكنها لا تستبعد أن تبادر المادة أحيانًا وتفرض نفسها توضح ذلك قائلة: "الفكرة دائمًا تأتي أولًا. هي البذرة التي يبدأ منها كل شيء. وبعد ذلك، أبدأ في الغوص داخلها، أبحث، وأغمر نفسي في تجارب قريبة منها شعوريًا أو مفهوميًا... أحيانًا أشعر أن المادة تختارني بقدر ما أختارها."
وتضرب مثالًا باستخدام لحاء شجرة الجوز في أحد أعمالها، لاستحضار أدوات الزينة القديمة والروابط النسائية العابرة للأجيال: "أصبحت المادة نفسها حاملة للمعنى، وامتدادًا لزمن مضى ينعكس على الحاضر، ويعيد إحياء الروابط الإنسانية التي تتجاوز الزمان والمكان."

الفن كأداة شفاء... وكتجربة وجودية
في نظرتها للفن، لا تفصله شذى عن مكوّناته العلاجية، لكنها في الوقت ذاته ترفض حصره في إطار الفن العلاجي، توضح ذلك قائلة: "الفن بالنسبة لي هو بوابة لعبور أعمق نحو الذات، نحو فهم النفس والتواصل معها بصدق... لا أرى الفن محصورًا في نطاق علاجي ضيق، بل كمساحة تُنصت فيها الروح لما هو أعمق من الكلمات، وتعيد اكتشاف العالم بشفافية الداخل لا صخبه."
من العمل إلى الجمهور: متى يدخل المتلقي؟
لا تضع شذى الجمهور في الواجهة عند بدايات مشروعها الفني. بل يبدأ كل شيء من فكرة داخلية تتعلق بمفهوم جودة الحياة تقول: "في هذه المرحلة، لا يكون الجمهور في مركز تفكيري، بل تكون الأولوية لصدق الفكرة وكيفية تمثيلها بعمق وأصالة. ومع تطوّر المشروع، يبدأ وعي المتلقي في التشكل؛ فأفكر في كيفية خلق مساحة تتيح له التفاعل، لا كمراقب، بل كعنصر حي داخل التجربة."
جوهر الرؤية في جملة واحدة
عند سؤالها عن الجملة التي تختصر مشروعها الفني، تجيب شذى بتكثيف بالغ يلخّص تجربتها الفنية والإنسانية: "أسعى من خلال فني إلى كشف الطبقات الخفية للعلاقات الإنسانية، بوصفها تجربة عميقة من الارتباط بالآخر، نختبر من خلالها ذواتنا ونرى انعكاسنا في ملامحه، فتكتشف هشاشتنا وقوتنا معًا؛ هناك، حيث تلتقي المادة بالمعنى، والهشاشة بالقوة، والذات بالآخر."