
خاص "هي": أصوات تشكّل الخريطة الصوتية.. سعوديات يعدن تعريف الفن المنفرد
في مشهد موسيقي سعودي يشهد تحولا غير مسبوق، تبرز ثلاث فنانات سعوديات منفردات: ريماز عقبي، بشرى الحمود، وأمجاد أيمن، حيث يقفن على منصات الأداء، لا مجرد مؤديات، بل هن أصوات مستقلة تعيد رسم الخريطة الصوتية للمملكة نغمة نغمة. خلفياتهن متباينة، من أكاديميات فنون في كاليفورنيا، إلى زفّات الأفراح، ومسارات دراسية ومهنية لا تمتّ للموسيقى بصلة. لكن ما يجمعهن هو هذا الإيمان بأن الصوت يمكن أن يكون أداة حياة، وتعبيرا عن الذات، ووسيلة للشفاء.

بدأت ريماز عقبي رحلتها مع الموسيقى في سن السابعة، أثناء نشأتها في ولاية كاليفورنيا. كان دخولها لغرفة الكورال المدرسية لحظة فارقة، حيث شعرت بأن التناغمات تحتضنها كأنها جلد ثانٍ. لم يكن قرارا واضحا أو لحظة مفصلية، بل كانت سلسلة من الهمسات تحولت إلى يقين.
في سن الثامنة، اختارت آلة الفلوت لجمال صوتها الذي يشبه الرياح والحرية، وسرعان ما أصبح وسيلتها للتعبير عن عالمها الداخلي. وإلى جانب الكلاسيكي، تنقّلت ريماز بين المسرح الغنائي، والمارياتشي، والجاز، والـR&B، وكانت ترى في كل تجربة درسا جديدا في الإصغاء.
التحاقها بالأوركسترا الوطنية السعودية كان منعطفا مهما، ووسيلة لإعادة تموضع الفن الكلاسيكي ضمن المشهد الثقافي المحلي. تعتز بعلاقتها القوية مع بشرى وأمجاد. وتقول: "إن ما أفعله اليوم ليس فقط لنفسي، بل لأجل كل من يؤمن بالصوت كقوة تغيير".
في المقابل، كانت بشرى الحمود تكتشف صوتها في حفلات الزفاف، حينما وجدت في الزفات أول مساحة تفاعلت فيها مع الجمهور، ولامست فيها أثر الصوت على الذاكرة. تصف تلك الفترة بأنها ولادة لصوتها العاطفي الذي لا يحتاج إلى الكثير من الكلمات، بل فقط إلى صدق الإحساس.

ومع الوقت، نشرت أغاني cover عبر "يوتيوب"، حيث كانت وسيلتها لمواجهة الخوف من النقد وبناء الثقة. تدريجيا بدأت تكتب وتلحن، وقدّمت أغنيتين بالفصحى هما "آه على فؤادي" و"عند اللقاء"، وهو ما شكّل لحظة فارقة لاكتشاف قدرتها على تحويل الإحساس إلى فكرة وصوت ورسالة.
في عام 2014 مرّت بتجربة صحية صعبة، لكن الغناء كان ملاذها النفسي الذي أنقذها من الصمت، ولحظة شفائها شكّلت انطلاقة جديدة. لحظة وقوفها تغني لنفسها للمرة الأولى، بعيدا عن الجمهور والتقييم، كانت لحظة نجاة. لاحقا حصلت على شهادة مدربة صوت، ودربت لمدة عامين قبل أن تختار التفرغ الكامل لصوتها. وتوضح: "كان القرار بين الأمان والصدق، واخترت الصدق ولو كان الطريق ضبابيا".
أما أمجاد أيمن، فقد تشكل وعيها الفني في تقاطعات غير متوقعة: الرسم، وتصميم الجرافيك، وتخصص هندسة نظم معلومات. وبين مشروع تسويق وآخر، كانت تجد نفسها تدندن أو تكتشف لحنا جديدا. برامج التسجيل والمكساج كانت نقطة التحول، حيث اكتشفت طبقات صوتها بمعزل عن الجمهور، وبدأت رحلة استكشاف واعية.

التحاقها بكورال الشرقية مثّل أول محطة أدائية، تلتها مشاركتها في الأوركسترا الوطنية، حيث تعلمت الانضباط الجماعي، لكنها أدركت أيضا أن لصوتها هوية فردية تحتاج لمساحة. تقول: "إن التحدي الأكبر أمام المغنية السعودية اليوم هو الموازنة بين التعبير الذاتي والتوقعات المجتمعية الثقيلة". وترى أمجاد أن كل صوت يملك حقه في الوجود، وأن التفاصيل الدقيقة من النَفَس إلى الصمت بين الجمل، هي التي تبث الروح في الأغنية.
أما بشرى، فتتــمـايــــل بين الغــنــــاء العـــاطــفـــي والهادئ، لأنه الأقرب لشخصيتها، وتؤمن بأن البساطة الصادقة تترك أثرا أعمق من الأداء الصاخب، بينما تجد أمجاد أن كل فنانة أثرت فيها تركت أثرا مختلفا، فابتسام لطفي علمتها الأصالة، و"ويتني هيوستن" أبـهـــرتـــهــــا بالتــــوازن، ورشا رزق ألهمـتــهـــــا بالصدق الطفولي في الأداء. ترى أن هذه التأثيرات لا تتراكم بل تذوب في صوتها، لتصبح جزءا من أسلوبها.
بينما ترى ريماز أن الغناء لم يكن يوما وسيلة أداء فقط، بل مساحة للتمثيل، والتـــأثيــــر، وإعادة صيــــاغـــــة الحــــضـــور. لحـــظــــة حصـــولـــهــــا علـى جـــائـــــزة BraVo للموسيقى الكلاسيكية لم تكن مجرّد تكريم فردي، بل لحظة شعرت فيها بأنها تنقل صوت فتاة سعودية لم تجد نفسها سابقا في هذا المشهد. تلك اللحظة كانت بمنزلة تحول داخلي، جعلتها ترى نفسها صانعة تغيير، لا فنانة فقط.

وتؤمن ريماز بأن إيصال الموسيقى الكلاسيكية للجمهور لا يجب أن يمر عبر بوابات النخبوية، بل من خلال الحوار والانفتاح. وهذا ما حاولت تجسيده من خلال برنامج Octave، الذي لم يكن مجرد منبر ثقافي، بل تجربة تشاركية قدّمت فيها الكلاسيكي بصفته جزءا حيا من الوعي الجمعي، لا فنا معزولا عن الناس.
وعنــــدمـــــا تُسأل الفنــــانــــات الثلاث عن التوازن بين الــهــويـــــات المحـــليــــة والمــمــارســـــات الكــــلاسيــــكـــيــــــــة العالمية، لا يتحدثن عن تنازلات. توضح ريماز أن الأمر لا يتعلق بالمفاضلة بين الأصالة والتطور، بل بخلق صوت سعودي مميز داخل هذا الإطار، يحمل المقامات، والإيقاعات، والسرد الشعري في داخله. توازيها أمجاد التي ترى أن كل ما تفعله اليوم يهدف إلى صنع مساحة فنية لا تضطر فيها الأجيال المقبلة للاختيار بين التقنية والهُوية.
في النهاية، لكل واحدة من هؤلاء الفنانات الثلاث صوتها الخاص، وتجربتها الفريدة، ورحلتها التي لا تُشبه سواها. ومع أن طرقهن تباينت، إلا أن الغناء أصبح لدى كل منهن أكثر من مجرد أداء؛ بل مساحة للصدق، ومتنفسا للشفاء، ومنصة للتمثيل.