فيلم ”Poor Things“

خاص "هي" رسالة مهرجان فينيسيا 2023 ـ فيلم "Poor Things" المرأة التي عاشت مرتين

أندرو محسن
4 سبتمبر 2023

كل فيلم جديد للمخرج يورغوس لانثيموس هو حدث يستحق الانتظار، المخرج اليوناني الذي يميل إلى يصنع عوالم خاصة من الواقعية السحرية، بينها ما يخلقه بالكامل، مثلما قدم في "The Lobster" (سرطان البحر) (2015)، أو ما يستوحيه من أساطير قديمة مثل "Killing of a Sacred Deer" (قتل الغزال المقدس) (2017)، وفي فيلمه الأحدث "Poor Things" (أمور بائسة) يقدم معالجة لرواية بنفس الاسم للكاتب ألاسدير غراي. كتب سيناريو الفيلم توني مكنامارا، والذي يعيد التعاون مع لانثيموس بعد فيلمهما الناجح "The Favourite" (المفضلة).

فرانكنشتاين من جديد

يذكرنا الفيلم في بعض مواضعه براوية ماري شيلي الخالدة "فرانكنشتاين"، فلدينا عالِم تشريح غريب الأطوار وغريب التجارب أيضًا "غودوين باكستر" (ولم دافو) يقدم على تجربة لزرع مخ طفلة في جسم إنسانة بالغة أقدمت على الإنتحار، يُطلق عليها بلّا (إما ستون)، ليشاهد كيف تكون النتيجة، وبينما تبدو بلّا امرأة -جسمانيًا- جميلة ورقيقة فإن تصرفاتها هي تصرفات طفلة تكتشف الحياة تدريجيًا من خلال عدة أمور أبرزها العلاقة الحميمة.

فرانكنشتاين من جديد
فرانكنشتاين من جديد

قدمت "فرانكنشتاين" نظرة قاتمة على التطور العلمي والثورة الصناعية في وقت كتابة الرواية، مشيرة إلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في طموحه وتجاربه، ولا يختلف الدافع الرئيسي لغودوين عن فرانكنشتاين كثيرًا، ولكن مسار الوحش الذي نتج عن تجربة الأخير بالتأكيد يختلف عن الحياة الجديدة التي عاشتها بلًا. تجدر الإشارة إلى أن ملامح وجه غودوين في الفيلم تشبه تلك التي اعتدنا مشاهدتها لوحش فرانكنشتاين في الأفلام القديمة في مفارقة لطيفة، ويقدم لنا لانثيموس هذا العالِم بشكل معقد، ليجعل مشاعرنا غير محددة نحوه، فمن ناحية هو من ألقى بهذه الإنسانة التَعسة في تجربة مخيفة لا يعلم أحد تبعاتها، ولكنه لاحقًا يشعر بالأبوة نحوها، ويتركها تستكشف العالم حتى ولو ابتعدت عنه. ربما تكون هذه الشخصية هي الأقرب إلى شكل الشخصيات التي يفضل لانثيموس تقديمها.

لا نتحدث هنا عن تجربة علمية خارقة فقط، بل عالَم كامل يختلف عن عالمنا، ويشبهه في الآن ذاته، كما يحدث عادة في الأعمال التي تنتمي للواقعية السحرية. حتى تتعرف بلّا على العالم، وعلى نفسها أيضًا يصطحبها المحامي دنكان (مارك روفالو) في رحلة طويلة للكثير من البلدان، لشبونة والإسكندرية وباريس، ومع كل مدينة جديدة تزورها، تتحول حياتها تدريجيًا وتصبح أكثر نضجًا من جهة، وأكثر حساسية من جهة أخرى. المميز هنا هو أن هذه المدن نظريًا هي المدن التي نعرفها، لكن الفيلم يضيف لمسات مختلفة من الديكورات والألوان لكل منها لتبدو كأنما تقع في عالم موازي.

عالم كامل يقدم من خلال  تجربة علمية خارقة في ”Poor Things“
عالم كامل يقدم من خلال  تجربة علمية خارقة في ”Poor Things“

بنجامين بوتن من جديد

بطبيعة الحال يستدعي الفيلم أيضًا فيلم "The Curious Case of Benjamin Button" (الحالة الغريبة لبنجامين بوتن) من إخراج ديفد فينشر (2008)، والمأخوذ عن قصة قصيرة لفرانسيس سكوت فيتزجيرالد. بطل فيلم فينشر وُلد بملامح رجل عجوز، ولكن بعقل يماثل سنه الطبيعي، وكلما تقدم به العمر،  ازداد شبابًا شكلًا. تأتي بلّا في صورة الطفلة (عقليًا) والمرأة الناضجة شكليًا، مما يجعلها مطمعًا لعدد من الرجال حولها. بينما كانت أزمة بنجامين بوتن هي الزمن بشكل أساسي، نرى أن بطلة فيلم "Poor Things" تجيد التكيف مع الزمن بل وتتكيف معه لتكتسب نضجًا في شخصيتها يتماثل مع عمرها الجسدي. غالبًا ما كانت العلاقة الحميمة هي الوسيلة الأبرز لديها للتعرف على البشر بشكل أكبر واكتساب النضج أيضًا، ويستخدم لانثيموس اتلك المشاهد في الفيلم بطريقة شديدة الذكاء وغارقة في الكوميديا أيضًا بشكل ربما يندر أن نشاهده في مشاهد مماثلة، وهذا إنما يضيف للطابع الغرائبي للفيلم.

بنجامين بوتن من جديد
بنجامين بوتن من جديد

لكن بوتن كان يحيا حياته ويحاول أن يصل لتوافق مع طبيعته الخاصة، بينما نجد بلّا توافق على أن تحيا حياة جديدة مختلفة تمامًا عن حياتها الأولى، وهنا نجد أن لانثيموس يضعنا مجددًا أمام تساؤل عجيب، هل حياة واحدة تكفي؟ هل يجب أن يحصل الإنسان على فرصة ثانية؟ وهل تتاح لكل شخص هذه الفرصة الجديدة؟

فيلم ”Poor Things“
فيلم ”Poor Things“

مما تميز فيه سيناريو هذا الفيلم، هو أنه لا يطرح هذه الأسئلة الفلسفية فقط، بل يمنحنا أكثر من نموذج للإجابة، لا يحدد شعورًا واحدًا أو يفرض فكرة واحدة، بل الكثير من الأفكار التي تنساب بسلاسة أمام المُشاهد مع كل شخصية جديدة تظهر ومع كل فصل جديد من الفيلم، وبهذا يستمر المخرج اليوناني في صناع عوالمه الخاصة بإجادة بالغة، ويضيف إليها هذا العالم الملون وهذه الأداءات المميزة جدًا خلال هذا الفيلم.