الشيف إيونيل كاتو ل "هي": لطفولتي بالغ الأثر في علاقتي بالطعام.. ومكتبة النكهات من الإنجازات التي أفتخرُ بها
يبرعُ المرء عادةً في تحضير الأطعمة المحلية، التي نشأ عليها وتربَى على رائحتها وطرق تحضيرها؛ لكن هذا لا يمنع أن يُتقن أحدنا الطهو من مطابخ أخرى ذات هوية مشابهة، أو تحمل شغفًا جديدًا يحلو سبره.
أنا مثلًا، بجانب المطبخ اللبناني الذي تربيَت عليه، أحبُ طهي الأطعمة الإيطالية والمكسيكية والصينية. فيما يُتقن الشيف إيونيل كاتو إعداد الطعام الإماراتي الذي يعشقهُ ويجد فيه مساحةً كبيرة للتعبير والابتكار.
من مطعم "قربوا" المحلي في دبي، وعبر خبرةٍ متنامية في إعداد الطعام؛ نجح الشيف كاتو في ترك بصمةٍ مميزة لدى جميع رواد المطعم وكل من تذوق طعامه؛ ولتقريب قارئات "هي" إلى أسرار وأخبار هذا الشيف الشاب، كان لنا معه هذا اللقاء الممتع..
حدّثنا عن بداياتكَ، ومسيرتكَ التعليمية...
أنا من مدينة كونستانتا، وهي أكبر مدينة ساحلية في رومانيا. كنتُ محظوظًا بقضاء عطلات الصيف في الريف، ما أتاح لي التمتّع بأفضل ما يُقدّمه هذان العالمان.
الحياة في المزرعة أنشأت رابطًا مميّزًا بيني وبين الحيوانات، ومنحتني تجارب محفورة في ذاكرتي مثل قطف الفاكهة، والنيران الدافئة في نهاية كل موسم. ومن أجمل ذكرياتي رائحة السفرجل، ومتعة قطف المشمش من شجرة زرعناها أمام منزلنا، وخبز الحلويات مع والدتي. أمّا في المدينة، فكنتُ أستمتع بمناظر البحر الأسود ونهر الدانوب والأسواق المحلية النابضة بالحياة، وكلها عوامل أثّرت إلى حدّ كبير على علاقتي بالطعام.

متى أدركتَ أنّكَ تريدُ أن تمتهنَ الطهي؟
بدأتُ العمل أولًا في قسم خدمة الضيوف، لكن بعد بضعة أسابيع فقط، وجدتُ نفسي مأخوذًا تمامًا بعالم المطبخ. ذلك الضجيج، والروائح، والطاقة التي تملأ المكان – أسرت تلك التجربة حواسي الخمس. ووسط كل ذلك الجنون، شعرتُ بحسّ من الانتماء، وأيقنتُ حينها أن هذا هو الطريق الذي أريد أن أسلكه.
هلّا حدّثتنا أكثر عن دورك كطاهٍ تنفيذي في مطعم "قربوا".
يُشرّفني أنّني كنتُ جزءًا من رحلة "قربوا" منذ بدايته، وساهمتُ في رسم ملامح المطعم كما نعرفهُ اليوم. عملتُ جنبًا إلى جنب مع الفريق على تنظيم الفعاليات الخاصة، أندية العشاء، ومفاهيم الوجبات الجاهزة، بالإضافة إلى تجارب تذوّق الطعام.
أمّا اليوم، فدوري متنوّع ومتطوّر باستمرار، من ابتكار الأطباق وتدريب الطهاة، إلى قيادة الخدمة أثناء أوقات الذروة، وإدارة العلاقات مع المورّدين، والتفاعل مع الضيوف، والتعامل مع مختلف المهام من التسويق وصولاً إلى إعداد التقارير.
ما هي الخطط والطموحات التي حملتها معك إلى "قربوا"؟
عندما أوكلني المطعم بمهمّة قيادة المطبخ، كنتُ عازمًا على تطبيق أفضل التقنيات والأساليب التي تعلّمتها خلال مسيرتي، وتوظّيفها في تحضير الأطباق الإماراتية مع مراعاة الخصوصيّات المحلية والمكوّنات؛ كما حرصتُ على خلق بيئةٍ داعمة للفريق تتيح له فرص التعلّم والنمو.
ومن بين المبادرات التي أفتخرُ بها، إنشاء "مكتبة النكهات"، وهي مساحة تعليمية حيّة تتضمّن مجموعة متنامية من الكتب من أكثر من 40 دولة، بالإضافة إلى تشكيلة واسعة من التوابل من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب مشاريعنا الخاصة في مجال التخليل والتخمير. هذه المكتبة ليست فقط مصدر إلهام، بل فسحة للفريق ليُجرّب، يتعلّم، ويُضيف بصمته.
ما الذي جذبكَ إلى المطبخ الإماراتي؟ وكيف ترى المطابخ الخليجية عمومًا؟
نشأتُ في مدينة كونستانتا الرومانية، حيث كنت محاطًا بمتحدّثين بالتركية والعربية؛ لذا عندما انتقلتُ إلى دولة الإمارات، شعرتُ وكأنّني لم أغادر وطني؛ هذا الإحساس بالألفة مهّد الطريق لشغف أعمق. خلال فترة جائحة كوفيد، بدأتُ أُبحر في عالم البهارات الإماراتية، التقاليد، والقصص التي تُحيط بالمطبخ المحلي، فازداد انجذابي لهذا الإرث الثقافي الغني. ما بدأ كحلم، أصبح اليوم واقعًا أعيشه، ولا يمرّ يوم دون أن أشعر بالامتنان لفرصة التعلّم المستمرة في هذا المجال.
أمّا مطابخ الخليج عمومًا، فأراها اليوم تحظى بتقدير عالمي متزايد، وهذا يُسعدني ويُشرّفني. وآمل أن أُساهم بدوري في هذا المسار، من خلال كوني سفيرًا حقيقيًا للمطبخ الإماراتي والثقافة المحلية.
ما الأساليب التي تتّبعها أثناء تحضير الأطباق في "قربوا"؟ وكيف تُعدّون قوائم الطعام عادةً؟
نَغرفُ دائمًا من الذكريات، سواء كانت رائحة ما، أم تقليد مُعيّن، أم لحظة عابرة؛ ثمّ نُحوّلها إلى أطباقٍ تحمل إحساسًا ودفئًا. في "قربوا"، نُوفّق بين التقنيات العالمية والنكهات المحلية، ونستخدم أدواتٍ تتراوح من التنّور والمشواة على الفحم، إلى الفرن الخارجي لتحضير الخبز. إلى جانب هذه الأساليب التقليدية، نعتمد أيضًا على تجهيزاتٍ حديثة تمنحنا دقّة في التنفيذ واستمرارية في الجودة، ولكنها في الوقت نفسه تُحمّلنا مسؤولية احترام المكوّنات.

الإمارات بلدٌ متنوّع ثقافيًا؛ كيف تلبّون متطلّبات مختلف الجنسيات؟ وكيف تُشجّعونهم على تذوّق المأكولات الإماراتية؟
دبي بالفعل بوتقةٌ تنصهرُ فيها الثقافات، ونحتضنُ هذا التنوّع في "قربوا". نحن محظوظون بفريق يتمتّع بمهارات عالية، ونسعى من خلاله إلى ابتكار تجارب تُلامس مختلف الأذواق؛ في الوقت نفسه نُعرّف الضيوف على الأطباق الإماراتية المحبوبة. من أبرز محطّات مسيرتي المهنيّة كانت عندما أخذنا تجربة "قربوا" خارج البلاد، ورأينا التفاعل الإيجابي من مختلف الثقافات. كانت لحظةً مفصليّة أكّدت لي أنّ المطبخ الإماراتي وتقاليده تُلاقي استحسانًا عالميًا.
كون أصولكَ رومانية، أخبرنا ما الذي يُميّز المطبخ الروماني برأيك؟
يتميّزُ المطبخ الروماني باعتماده الكبير على الدهنيات والحوامض، إذ تُشكّل هذه العناصر جزءًا أساسيًا في معظم الأطباق. كما أنّ التأثيرات القادمة من الدول المجاورة تُثري وصفاتنا، في حين تُساهم الموارد الطبيعية الوفيرة، من جبالٍ وأنهار وبحار وغابات، في تنوّع المكوّنات وتكامل النكهات.
أساليب الطهي التي نعتمدها تقليدية وغالبًا ما تتّسم بالعفوية والبساطة، فنستخدمُ التوابل باعتدال، ونُركّز أكثر على النكهات الغنيّة والدافئة. لكن ما يجمع بين المطبخَين الروماني والإماراتي هو روح المجتمع، حيث لا تكتملُ المائدة إلا بوجود الأحبّاء.
سبق أن عملتَ في عدد من المطاعم الحائزة على نجمة ميشلان؛ كيف أثّر ذلك في تطوّرك المهني وخبرتك في الطهي؟
كل مطعم عملتُ فيه ترك بصمته الخاصة وساهم في تشكيل هويتي المهنية. كنت أحرصُ دائمًا على اختيار فرصٍ تُمكّنني من التخصّص، سواء في مجال الأسماك أو اللحوم أو المعجّنات أو الصلصات.
ومن بين التجارب الأبرز، كانت فترة عملي كـ saucier (طاهٍ مختص بالصلصات)؛ إذ اكتسبتُ من خلالها انضباطًا عاليًا ودقّة في التفاصيل، وهما عنصران أصبحا من السمات الأساسية التي تميّز أسلوبي في الطهي اليوم.
ما هي اللمسات أو التقنيات الخاصة التي تُميّز أطباق الشيف إيونيل كاتاو ويُمكن التعرّف عليها بسهولة؟
أعتقد أنّ هناك عنصرين أساسيين يُميّزان أطباقي، ألا وهما الصلصات، وسرد القصص الإماراتية.
في مطعم "قربوا"، نحرصُ على أن يُعبّر كل طبق عن حكاية ما، وغالبًا ما تكون الصلصات هي القاعدة التي تنطلق منها النكهات والحكايات في آنٍ معًا.
ما هي طموحاتكَ في السنوات المقبلة؟
أسعى للتطوّر أكثر كمرشد لفريقي، وتأدية دور سفيرٍ حقيقي للمطبخ الإماراتي.
تتمثل رؤيتي المستقبلية في الاستمرار بقيادة مطعمٍ نابض بالحياة والنجاح، وفي الوقت نفسه، دعم وتدريب الجيل الجديد من الطهاة.
كيف تصف أسلوبكَ العام في الطهي؟
هو ببساطة طعام تحبين أن تأكليه، أي أطباق تُشعركِ بالحنين، وتدفعكِ لتذوّقها مرارًا وتكرارًا.
إلى جانب المطبخين الروماني والإماراتي، ما هو نوع الطعام أو المطبخ الذي تحبُ تجربته أو تحضيره؟
أميلُ بشكل خاص إلى المطابخ التي تتمحور حول التوابل، إلى جانب شغفي بالصلصات. أستوحي كثيرًا من مطابخ جنوب شرق آسيا، أميركا الجنوبية، وغرب أفريقيا.
ما هي الأدوات الأساسية التي يحتاجُها أي شيف ناجح؟
رؤية واضحة، فريق سعيد ومتحفّز، سكين حادّة، وشخص واحد يؤمن بك.
ما الشيء الوحيد الذي لا يمكنكَ الاستغناء عنه في المطبخ؟
الملح من دون شكّ.
كيف تتعامل مع التنافس أو الخلافات بين أعضاء فريق المطبخ؟
نُشجّع المنافسة الصحية داخل الفريق، لإيماني أنها تدفع الجميع نحو التميّز. أمّا الخلافات، فنُعالجها بعيدًا عن الأضواء، مع الأطراف المعنية مباشرة، ونعمل على حلّها بسرعة وبأسلوب بنّاء.
أصبحت التكنولوجيا عنصرًا أساسيًا في كل المجالات اليوم. برأيك، هل تؤثّر على الطهي بشكل إيجابي أم سلبي؟
الأساسيات الكلاسيكية تُوازي الأدوات الحديثة من ناحية الأهمية. يجب على كل شيف أن يُتقن القواعد الجوهرية، مثل تحميص البط بشكل صحيح أو تحضير الصلصات من الصفر. ولكن حين نستخدم التقنيات الحديثة بحكمة، فإنها تُصبح أدواتٍ مهمّة تمنحنا دقة أعلى، واتساقًا في النكهة، وكفاءة أكبر في التنفيذ.
أخيرًا، ما هي النصيحة التي تودّ أن تُسديها للطهاة الشباب عبر موقع "هي"؟
لا تستعجلوا الأمور؛ تعلّموا خطوة بخطوة، تحلّوا بالتواضع، وحافظوا على حبّ الاستطلاع والاستكشاف، ولا تتردّدوا في طرح الأسئلة قدر الإمكان. أتقِنوا كل قسم تعملون فيه، احترموا مهنتكم، واصغوا دائمًا إلى المكوّن، فهو سيُخبركم بما يحتاجُ إليه.