
متحف تيم لاب بلا حدود.. عام من الإبداع الرقمي في قلب جدة التاريخية
في قلب جدة التاريخية، حيث تتناغم الأزقة القديمة مع عبق الماضي، ينبثق فضاء مستقبلي يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والفن. إنه متحف "تيم لاب بلا حدود"، أول متحف دائم للفنون الرقمية في المملكة العربية السعودية، والذي يحتفي اليوم بمرور عام على افتتاحه في موقع مُدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، جامعًا بين التراث العريق والابتكار المعاصر في تجربة غير مسبوقة.
الفن الذي يتنفس معك... ويستجيب لك
منذ لحظة دخولك إلى المتحف، تدرك أن هذه التجربة لا تشبه أي زيارة تقليدية لمعرض فني. لا خرائط توجهك، ولا أسهم تحدد المسارات؛ بل مساحة مفتوحة للحواس والاكتشاف، حيث تصبح جزءًا من العمل الفني، ويتغير كل شيء من حولك بناءً على حركتك، تفاعلك، وتقدّمك في المكان.
يعتمد المتحف على تقنية متقدمة للعرض الرقمي، تدمج بين الضوء والصوت والحركة في تناغم غامر. فهنا، لا وجود للحدود بين الفنان والزائر، ولا بين اللوحة والواقع. كل عنصر ينبض بالحياة، ويتحول بحسب وجودك أنت.

تجارب تفاعلية تنبض بالحياة
من أبرز التجارب التي يمكن خوضها داخل المتحف، تجربة "غابة المصابيح"، وهي واحدة من أكثر الأعمال شهرة وجاذبية. في هذه الغرفة الغامرة، تتدلّى مئات المصابيح الكريستالية المتغيرة الألوان، وتستجيب لحركة الزائر بتناغم ضوئي يخطف الأنفاس. بمجرد اقترابك من أحد المصابيح، تومض بلون جديد وتنقل ترددها إلى باقي المصابيح، وكأنك تعزف لحنًا بصريًا داخل غابة ساحرة.
أما في عمل "أزهار في الشفافية اللانهائية"، فتغوص في عالم متبدل من الزهور التي تولد وتموت أمامك، في دورة حياة متواصلة تحاكي التغيرات الموسمية، وتمنحك شعورًا بالهدوء والتأمل. هذا العمل لا يعيد نفسه، فالمشهد يتغير مع كل زيارة، وكأنك تعيش فصلًا مختلفًا من الطبيعة في كل مرة.

وفي تجربة "تكاثر الحياة الهائلة"، تتفتّح الزهور وتتبدد باستمرار بناءً على حركة الزائرين. كل تفاعل يُحدث تغييرًا فوريًا، ما يمنحك إحساسًا بأنك تملك قدرة مباشرة على التأثير في المشهد الفني، وكأنك فنان يشارك في خلق العمل.
أما عمل "ذاكرة التضاريس"، فيقدّم تجربة مختلفة، أكثر هدوءًا وغموضًا، إذ يعرض مشهدًا جبليًا صامتًا على ما يبدو، لكنه ينبض بحياة خفية تنكشف شيئًا فشيئًا كلما طالت لحظات التأمل. العمل يحاكي نبض الأرض، وتحوّلاتها البطيئة، ويعيد تشكيل الارتباط بين الإنسان والطبيعة من خلال الفنون الرقمية.
تجربة لا تتكرر... لأن الزائر نفسه جزء منها
ما يجعل تجربة "تيم لاب بلا حدود" استثنائية فعلًا هو أنها لا تتكرر مرتين. التفاعل بين الإنسان والتقنية ينتج عنه مشهد جديد في كل مرة، ما يدفع الزوار للعودة مجددًا، بحثًا عن طبقات جديدة من الجمال، وفهم أعمق للتجربة. وقد استقطب المتحف خلال عامه الأول زوارًا من أكثر من 25 جنسية، معظمهم من فئة الشباب وعشاق الفنون الرقمية، الذين وجدوا فيه بيئة تحتفي بهم كمبدعين مشاركين لا مجرد مشاهدين.

الفن الرقمي في قلب التراث
وجود المتحف في جدة التاريخية ليس تفصيلاً عابرًا، بل هو اختيار دقيق يحمل دلالة ثقافية عميقة. فهنا، في إحدى أقدم المدن السعودية، يندمج المستقبل بالماضي، وتلتقي جدران الطين والأخشاب القديمة مع الأضواء التفاعلية والتقنيات الحديثة، في مشهد يعبّر عن هوية المملكة الجديدة، التي تنفتح على الإبداع العالمي دون أن تنفصل عن جذورها.
هذا الدمج بين الزمانين والمكانين يجسد طموح وزارة الثقافة في تحويل المواقع التراثية إلى مساحات حية للفن المعاصر، واستثمار الإمكانات المحلية ضمن رؤية المملكة 2030، التي تسعى لتمكين الاقتصاد الإبداعي، وجعل المملكة مركزًا إقليميًا للفن، والثقافة، والتقنية.
دعم للابتكار والمعرفة
متحف "تيم لاب بلا حدود" لا يقدّم تجربة حسية فقط، بل يحمل أيضًا بُعدًا معرفيًا وتعليميًا. فكل عمل يثير التساؤلات حول العلاقة بين الإنسان والآلة، بين الطبيعة والواقع المعزز، وبين الثبات والتغيّر. كما يستضيف المتحف فعاليات وورش عمل تستهدف المهتمين بالفن الرقمي والتصميم التفاعلي، ما يعزز من دوره كمركز للإلهام والإبداع.

رحلة فنية بلا حدود
مع احتفاله بمرور عام على انطلاقه، يواصل متحف "تيم لاب بلا حدود" تجديد نفسه باستمرار، إذ يتم تحديث الأعمال وتطوير التقنيات بشكل دوري، ليبقى المتحف وفياً لاسمه: بلا حدود.
فهو ليس مجرد مكان لعرض الفن، بل كائن حي يتطور مع زواره، ويتشكل بانفعالاتهم، ويمنح كل منهم تجربة شخصية لا تشبه غيرها. تجربة تنقلك من واقعك اليومي إلى عوالم من الضوء والحركة، والتأمل، والإبداع.
إذا كنت تبحث عن مكان يُخاطب حواسك الخمس، ويأخذك في رحلة غير مألوفة إلى عالم من التفاعل والجمال والتقنية، فإن "تيم لاب بلا حدود" في جدة التاريخية هو محطتك المثالية. فهو أكثر من متحف... إنه تجربة، رؤية، وعالم رقمي حيّ يدعوك للمشاركة في صناعته.
