"أبني لوحاتي كما تُبنى المدن"... الفنان محمد الخياط يتأمل فنه بين المعمار والحنين في حوار حصري لـ "هي"

"أبني لوحاتي كما تُبنى المدن"... الفنان محمد الخياط يتأمل فنه بين المعمار والحنين في حوار حصري لـ "هي"

محمد حسين
16 يونيو 2025

بين الأزقة القديمة وظلال النوافذ المفتوحة على الذاكرة، تنبض لوحات محمد الخياط بالحياة اليومية كما لم نرها من قبل. فنان تشكيلي بريشة ساحرة، يجمع بين عين المعماري وحسّ الراوي البصري، ليمنحنا مشاهد مألوفة تنبض بالعاطفة، وتهتز بألوانٍ تقول الكثير بصمتٍ بليغ. في أعماله، يتحوّل الحنين إلى لحظة حيّة، ويصبح الباب الخشبي والدرّاجة والنخلة رموزًا عالمية لقصة شخصية.

في هذا الحوار الحصري مع مجلة "هي"، نغوص مع الخياط في عالمه التشكيلي المتفرّد، نتتبع خيوط ذاكرته، ونتأمل كيف تسللت العمارة إلى لوحاته، وكيف صاغ من اليوميّ لغة فنية خاصة تتجاوز الشكل إلى الشعور. فماذا يقول عن المشهد الفني؟ وكيف يرى مستقبل الفن؟ ومتى تبدأ اللوحة عنده بالبوح؟

نبدأ من تعريفك لنفسك: كتبت على حسابك "Architect who paints" – هل ترى نفسك فنانًا يرسم بمعمارية، أم مهندسًا يلوّن الحياة بالفن؟

بصراحة، لا يوجد فاصل واضح بين الاثنين في حياتي. أنا أعيش كل لوحة وكأنها فضاء، وأتعامل مع كل فضاء أعمل عليه وكأنه يحمل روح لوحة فنية. العمارة منحتني أدوات لفهم التكوين والفراغ والنِسَب، أما الرسم فقد منحني مجالاً أوسع للتحرّك بحرية والتعبير الشخصي.

أحياناً، عندما أرسم، أشعر وكأنني أبني، وعلى العكس، حين أعمل على تصميم معماري، أشعر وكأنني أؤلف مشهداً أو لوحة تحمل في طياتها حركةً ومزاجاً وتوازناً. لذا، فالهويتان لا تتعارضان لديّ، بل هما كأنهما لغتان تكملان بعضهما البعض، وكل منهما تُغذي الأخرى باستمرار.

لوحة أغصان الذاكرة واحدة من أجمل اللوحات الخاصة بالفنان محمد الخياط
لوحة أغصان الذاكرة واحدة من أجمل اللوحات الخاصة بالفنان محمد الخياط

أعمالك غنية بالتفاصيل والرموز المستوحاة من الذاكرة العربية – هل ترسم لتوثق، أم لتُعيد تخيّل ما كان بطريقة معاصرة؟

لا أرى نفسي كمن يوثق الماضي، بل على العكس، ما يشغلني هو إعادة تخيّل هذا الماضي أو تلك الذاكرة من منظور الحاضر. فهدفي ليس إعادة إنتاج ما عرفناه مسبقاً، بل استحضار الإحساس والروح المرتبطة به، وطرح أسئلة جديدة عليه.

الرموز التي تتكرر في أعمالي – كالنخلة، والزخرفة الشعبية، وجلسات الناس، والدراجة – تنبع جميعها من مكان شديد الخصوصية، لكنني أحرص على تقديمها ضمن تكوين بصري جديد، يحمل أحياناً شيئاً من الحنين، وأحياناً أخرى نوعاً من التأمل النقدي. قد أكون أحاول إعادة وصل ذاكرتي الفردية بالذاكرة الجماعية، لكن بلغة بصرية معاصرة قادرة على إيصال المعنى اليوم.

كيف تتسلّل العمارة إلى لوحاتك؟ وهل تعتقد أن الخلفية المعمارية تمنح الفنان التشكيلي رؤية مختلفة عن باقي الفنانين؟

بالتأكيد، العمارة حاضرة في أعمالي، ليس فقط كصورة أو شكل، بل كطريقة تفكير. فعندما أعمل على لوحة، أفكر فيها كحيّز يحمل حركة، وتنفس، وصمت، وتوازن، وضوء – وكلها مفاهيم تنتمي إلى عالم العمارة.

لا أحب العمل بعشوائية، وحتى في لحظات العفوية، تظل هناك بنية داخلية تنبع من خلفيتي المعمارية: كطريقة توزيع الكتل، وتوازن الألوان، وخلق فراغ يحمل معنى. فالمعماري يرى اللوحة كحيّز نابض بالحياة، لا كصفحة مسطحة، وهذه النظرة أثّرت على مجمل عملي الفني.

ينسج الخياط رموزه الخاصة ويعيد صياغة الحياة في لوحاته المبدعة
ينسج الخياط رموزه الخاصة ويعيد صياغة الحياة في لوحاته المبدعة

ما الذي يدفعك لالتقاط مشاهد الحياة اليومية وتحويلها إلى لوحات مشبعة بالحركة واللون؟ هل هي نوستالجيا أم احتفال بالحاضر؟

كلا الأمرين، لكن ليست النوستالجيا بالمعنى الحرفي. أحياناً يلفتني مشهد بسيط ككرسي مهجور، أو عائلة تحتسي الشاي، أو ضوء العصر المنساب على جدار قديم. هذه اللحظات تحمل كل شيء: الحنين، والسكينة، وأحيانًا وجعًا خفيًا.

أشعر أن تفاصيل الحياة اليومية في محيطنا غنية على نحو غير عادي، وكل تفصيلة قد تفتح بابًا لفهم أوسع. عندما أرسم هذه اللحظات، لا أحتفل بها فحسب، بل أحاول أيضًا إيقاف الزمن قليلًا، لحماية تلك اللقطة من الزوال.

لوحاتك مليئة بالقصص – هل تعتبر نفسك "راويًا بصريًا"؟ وهل هناك قصة محددة رسمتها من الذاكرة الشخصية؟

أحب أن أرى نفسي راويًا، ولكن بطريقتي الخاصة. لا أرسم القصة بشكل مباشر، بل أترك خيوطًا منها، أجواءها، وإحساسها العام. في بعض الأحيان، لا يعرف المتلقي القصة، لكنه يشعر بها.

على سبيل المثال، رسمت لوحة تحوي سطوح بيوت وطيورًا وظلالًا، من دون شخصيات ظاهرة. لكنها، بالنسبة إلي، كانت تدور بالكامل حول جدي، الذي كان يجلس في الزاوية ذاتها كل يوم، في نفس التوقيت، يحتسي قهوته بصمت. لم أرسِم صورته، لكن كل ما يحيط به كان حاضرًا. ومن يشاهد اللوحة، يستطيع أن يقرأها بطريقته الخاصة.

على ضفاف الزمن لوحة مبدعة للفنان محمد الخياط
على ضفاف الزمن لوحة مبدعة للفنان محمد الخياط

هل تتعامل مع كل لوحة كتصميم معماري يحتاج لبنية وهيكل وتوازن؟ أم أن اللوحة عندك ولادة تلقائية وعفوية؟

أبدأ دائمًا بعفوية، بصراحة. غالبًا لا أكون على دراية بما سأرسمه تحديدًا. لكن مع التقدم في العمل، تتدخل خلفيتي المعمارية لترتيب العناصر، وتوازن التكوين والحركة.

اللوحة تخلق نفسها أولاً، ثم تحتاج إلى نوع من “الضبط”، تمامًا كما يراجع المعماري المخطط ويضيف التفاصيل. أحب هذا التوتر بين العفوية والتنظيم، لأنه يخلق ديناميكية بصرية أحاول إظهارها على السطح.

نلاحظ حضورًا لافتًا للعناصر التراثية والشعبية – من أين تستلهم هذه المفردات؟ وهل تمثل انعكاسًا لهويتك، أم محاولة لتقريب الجمهور منها مجددًا؟

هذه المفردات لا أستدعيها من الخارج، بل تنبع من داخلي. فعندما أرسم بابًا خشبيًا أو مشربية أو سجادة، لا أفعل ذلك في سبيل “تأريخ التراث”، بل لأن هذه هي المشاهد التي تربيت عليها، المحفورة في ذاكرتي.

لكنني حريص على تقديم هذه العناصر بطريقة غير سطحية أو نمطية. فالهدف ليس استنساخ الماضي، بل فهمه، كسره أحيانًا، وإعادته إلى حياتنا المعاصرة بلغة جديدة. أشعر وكأنها دعوة لإعادة النظر في ما اعتدنا أن نراه مجرد خلفية.

محمد الخياط يرسم مشاهد تُقرأ بالقلب لا بالعين فقط
محمد الخياط يرسم مشاهد تُقرأ بالقلب لا بالعين فقط

هل هناك فنان أو مدرسة فنية عالمية أثرت فيك؟ ومن الفنانين السعوديين أو العرب ترى أنك تتقاطع معهم بصريًا أو مفاهيميًا؟

بالتأكيد. من العالم العربي، أشعر بقرب فكري من ضياء العزاوي. أحب كيف يحوّل اللحظات السياسية أو الشخصية إلى مشاهد بصرية تحمل طبقات من الرموز والتفاصيل، دون أن يفقد بعدها الإنساني والجمالي.

محمد المليحي ألهمني بفكرة أن الشكل البسيط – كالموجة – يمكن أن يتحوّل إلى لغة متكاملة، وأن التكرار ليس بالضرورة مللًا، بل قد يكون ذاكرة. أما فيصل لعيبي صالح، فأشعر بالقرب من طريقته في تقديم الحياة اليومية كشيء حميمي، مشبع بالمشاعر، دون الحاجة إلى دراما.

ومن الفنانين السعوديين، أحمد ماطر كان له أثر عميق في تجربتي. أعماله دائمًا تطرح أسئلة دون أن تمنح أجوبة، وتحمل توازنًا بين التوثيق والبُعد البصري الذكي. أقدّر تجربته لأنها صادقة وقادرة على فتح حوارات.

اللون عنصر أساسي في لوحاتك – كيف تختار ألوانك؟ وهل تعتقد أن للّون وظيفة رمزية في أعمالك أم هو فقط تعبير جمالي؟

الألوان في لوحاتي تنبع من الإحساس، لا من قرار مسبق. في أحيان كثيرة أبدأ بلون واحد، يتحكم بمسار اللوحة بأكملها. الأزرق قد يعني الوحدة، أو الأفق، والأصفر قد يكون نورًا، أو قلقًا.

لا أحب استخدام اللون كزينة، بل لا بد أن يكون له سبب. وإن لم يكن منطقيًا، فغالبًا ما يكون شعوريًا. الألوان نفسها تتغير معانيها في كل مرة، حسب السياق، القصة، والمزاج الذي أرسم فيه.

الرموز مثل النخلة والدراجة والقهوة… هل تكرّرها كتوقيع؟ أم أنك تبني من خلالها لغة خاصة؟

لا أكررها كتوقيع، لكنها تعود من تلقاء نفسها، لأنها رموز داخلية. النخلة بالنسبة لي ليست مجرد شجرة، بل هي جذر، ظل، وأم. الدراجة تمثل الطفولة، والخفة، والتوازن، والحركة. أما القهوة، فترتبط لدي بالانتظار، والحوار، والعزلة.

قد أكون بالفعل أبني لغة خاصة، لكنني لست واعيًا لذلك دائمًا. إنها تعمل على مستوى اللاوعي، وأعتقد أن من يشاهد أعمالي أكثر من مرة، يبدأ بالربط بين هذه الرموز والعالم البصري الذي أخلقه.

لوحاتك تحتمل أن تُقرأ بأكثر من طريقة – هل يهمك أن يفهم الجمهور رسالتك كما قصدتها، أم تُفضّل أن يضع كل منهم تأويله الخاص؟

بلا شك، أحب أن يفسر كل شخص العمل بطريقته الخاصة. أحيانًا يخبرني أحدهم بتفسير لم يكن في بالي على الإطلاق، وأتفاجأ، لكنني أفرح، لأنني أعلم حينها أن العمل أصبح حيًّا، وامتلك حياة تتجاوز ما وضعته فيه.

برأيي، اللوحة الناجحة هي التي تخلق علاقة شخصية مع كل مشاهد. لا يشترط أن يقول “فهمتها”، يكفي أن يشعر بشيء، أن يتوقف عندها، ويتأمل.

ما الفرق – من وجهة نظرك – بين بناء مدينة ورسم لوحة؟ وهل تجد في الفن التشكيلي حرية تفتقدها في العمارة؟

الفرق شاسع. في بناء المدينة، هناك قوانين وأشخاص ومسؤوليات، ويجب إرضاء الجميع. أما في الرسم، فأنا المسؤول الوحيد، ولا توجد حدود سوى تلك التي أضعها لنفسي.

وربما لهذا السبب أعود دائمًا إلى الرسم، لأنه يمنحني مساحة أتحرك فيها دون شروط، أجرّب، أخطئ، أكتشف، وأعيد البناء من جديد.

الفنان الذي يرى اللوحة كفراغ حيّ... لوحة تعبّر عن فلسفة الخياط الفنية
الفنان الذي يرى اللوحة كفراغ حيّ... لوحة تعبّر عن فلسفة الخياط الفنية

ما الذي يحرّكك فنيًا؟ لحظة بصرية؟ موقف اجتماعي؟ أم ربما مجرد رغبة صامتة بالتعبير؟

غالبًا ما تكون لحظة صامتة أو مشهد بسيط. قد تكون زاوية ضوء، صوتًا، أو حتى مشاعر يصعب فهمها. أحيانًا أستيقظ وفي داخلي شيء لا أعرفه، فأتوجه إلى اللوحة وأبدأ.

الرغبة لا تكون دائمًا واعية، لكنها تحرّك يدي، وتدفعني للبحث عن شيء داخلي لا يُقال بالكلمات.

كيف ترى المشهد الفني السعودي اليوم؟ وهل تعتقد أن هناك مساحة كافية للاختلاف والابتكار، خاصة للفنانين من خلفيات غير تقليدية؟

أراه في حركة وتجريب وفضول، وهذا أمر إيجابي جدًا. لكن لا يزال هناك حاجة لمزيد من الانفتاح، خاصة تجاه من يأتون من خلفيات غير تقليدية أو يعملون بطرق غير مألوفة.

أرى أن المستقبل واعد، لكن من الضروري أن نوفّر مناخًا يتيح للجميع أن يجرّب، ويخطئ، ويتطور، دون خوف أو ضغط للتماهي مع أطر معينة.

وأخيرًا، لو طُلب منك أن تصف تجربتك الفنية بجملة واحدة فقط... ماذا تقول؟

هي محاولة مستمرة لرسم مشاعر يصعب التعبير عنها بالكلمات، وخلق عالم شخصي يعيش بين الذاكرة والاحتمال.

أعمال محمد الخياط توازنٌ بديع بين العفوية والبناء الهندسي في عالم الفضاء الساحر
أعمال محمد الخياط توازنٌ بديع بين العفوية والبناء الهندسي في عالم الفضاء الساحر