فيلم "The Fabelmans".. سيرة رجل استثنائى لم يطلب الخلود والسينما منحته إياه

لم يكن المخرج ستيفن سبيلبرج فردًا عاديًا من جماعة "هوليوود الجديدة" أو "الموجة الأمريكية الجديدة" كما يحلو للمعظم تسمية الفنانين المعارضين لنظام الاستوديو وسيطرته على العملية الإبداعية والفنية، وايضًا لم يتحول لفردًا عاديًا يعمل تحت نظام الأستوديو الصارم، الحقيقة التى لا تقبل أي جدال أن ستيفن سبيلبرج هو الأنجح والأكثر إنتشارا والذى جمع بين المدرستين فلا هو خضع لنظام الاستوديو بالكامل ولا انتصر للصبغة الفنية على حساب التجارية، هو الرجل الذى جمع بين الحسنيين، كان وما زال هو الأكثر مرونة فى التعامل مع نظام الأستوديو وأكثر مرونة فى الاهتمام بالبعد التجاري وأهمية شباك التذاكر، وهو الذى كانت أفكاره ورؤيته للافلام فتحًا كسر الكثير من القوالب الجامدة، وهو الورقة الرابحة التى كانت تملك الحرية للتنقل بين المعسكرين المتنافرين، وهو الرجل المتجدد حتى مع بلوغه العام الـ75، والقادر على الإبهار وخطف عقل وقلب المشاهدين ويمنح الفنانين فى العالم دروسًا فى كل عناصر فن السينما إلى جانب قدرته الخارقة فى طريقة "الحكي".

"The Fabelmans"
"The Fabelmans"

ميتزى فابلمان: الأفلام هي أحلام لا يمكن أن تنساها

فى أحدث أفلامه "The Fabelmans" ينظر سبيلبرج وهو فى منتصف عقده السابع من العمر إلى عقديه الاول والثاني ويقف معنا عند مطلع الثالث وقد حسم أمره ووضع قدمه على بداية طريقه الإحترافي، فلسفة الفيلم بأكملها تعتمد على كيفية رؤية سبيلبرج لماضيه، ربما كان فى مرحلة من مراحل حياته غاضبًا أو ناقمًا من عائلته، وربما فى مرحلة أخري غير مهتم بماضيه ويركز فقط على مستقبله، لكنه فى هذه اللحظة تحديدًا لا يتصالح مع كل هذه المشاعر السابقة المختلطة فقط، لكنه يشرك الجمهور فى العالم هذه الحالة الشعورية عن طريق تحويلها إلى فيلم سينمائى وهى طريقته المباشرة فى الحكي، ليخلد تاريخ أسرته الصغيرة عن طريق تغير اسمها من سبيلبرج إلى فابلمان، على الرغم من معرفة الجميع أنها سيرته الذاتية والتشابه الواضح بين الممثلين فى الفيلم مع الأشخاص الحقيقيين، لكنه يحافظ بحرفية شديدة ودقيقة على حاجز رقيق يفصل بين التأكد أنها ذاتية والتفاعل معها كأنها عامة تعبر عن طموح شاب يعيش وسط عائلة ممزقة لكنها تمتلك من الرقة والتحضر ما يكفى لأن تبدو هذه التمزقات والانشقاقات براقة وشاعرية. فالأم ميتزي (ميشيل ويليامز) هي التى منحت الطفل سامي (غابرييل لابيل) الأدوات وبداية الطريق لنبوغه، وهى فى الوقت نفسه من قررت ترك العائلة عند مرحلة معينة لتعيش سعادتها الخاصة، والصدمة التى خلفها اكتشاف المراهق سامي لمشاعر والدته تجاه صديق والده بيني (سيث روجان) عن طريق فيلم صوره لرحلة العائلة تسبب له فى صدمة دفعته لترك هوايته وشغفه، لكن بيني -أحد أسباب المشكلة- هو من أهداه كاميرا محمولة جديدة وحديثة ليستمر فى ما يحب.

"The Fabelmans"
"The Fabelmans"

بوريس: العائلة، الفن.. سوف يمزقانك

يصف سبيلبرج معاناتاه ومعاناة عائلته بلغة سينمائية شديدة البلاغة، الأم فنانة وعازفة بيانو شديدة الاتقان والموهبة سحبتها المهام الأسرية بعيدًا عن مجال نبوغها وتفوقها، لكنها كانت تحافظ دائما على علاقتها بالبيانو، ومن أهم هذه المظاهر هو استخدام الأسرة أدوات مائدة ورقية لأنها تحافظ على يديها ولا ترغب فى أن تستخدمها فى غسل أدوات المائدة والتنظيف، ولجأ سبيلبرج لهذه الموتيفا البصرية للأم والتى تكررت عدة مرات خلال الفيلم، بينما صنع للأب بيرت (بول دانو) موتيفا بصرية أخرى هي أجهزة الراديو والتليفزيون التالفة التى يصلحها للجيران والمعارف والتى تملأ المنزل حرفيا، أي أننا أمام أم فنانة وأب مهندس مخترع وكلاهما عبقريان لكن عقل ومشاعر كلا منهما يعمل بطريقة مختلفة، لذلك كان هذه التمزق ضروريًا لاستمرار الحياة لكلا منهما على حدة، لكن عند الأبناء الأمر مختلف، التمزق لأيا منها يعنى دمار نفسي خاصة أنهم يجمعون بين صفات الأب والأم، البلاغة السينمائية فى هذا الفيلم ركزت على توضيح هذا الشقاق والتمزق دون أن يلجأ للمباشرة عن طريق الحوار، بل أعتمد على مساحة واسعة من التمهيد باستخدام الصورة قبل أن ينهى الصورة الجمالية بجملة حوارية قصيرة تؤكد على ما سبق، كأن نشاهد ميتزى وهى تجري تدريباتها الأخيرة على المقطوعة الموسيقية التى ستعزفها وستبث عبر التليفزيون، ميتزى مرحلة تعزف بإتقان شديد وهى بكامل أناقتها، بيرت يستمع لها بوله، بيني يلاحظ صوت نقرات اظافرها على أصابع البيانو، والأطفال متحمسين يركزون فى التفاصيل ويتجابون مع طوفان المشاعر الذى يملأ المكان، هنا التعبير البصري عن كل شخصية الذى يصل للمشاهد بسهولة من خلال الأداء التمثيلي الذى يقوده ويوجهه سبيلبرج دون اللجوء لجمل حوارية مباشر، مجرد مشهد يجمع العائلة لكنه كاشف باختلاف مشاعر كل من أفرادها، ينتقل سبيلبرج من خلاله بين اللقطات المتوسطة والقريبة ليركز على هذه المشاعر ويوجه الجمهور ناحيتها وبعد التشبع التام من قبل الأخير بهذه البلاغة السينمائية، تأتي جملة الابنة لأخيها سامي عقب قرار انفصال الأب والأم وهى تصف مثلث الحب بين ميتزى وبيني وبيرت لتلخص كل ما سبق، لكن ضمن سياق بليغ آخر بتكوين بصري بديع تحتضنه هى وتحتويه جالسا وكانه يصف توليها لمهمة الأم فى التخفيف من وطأة الخبر على الأبن.

"The Fabelmans"
"The Fabelmans"


جون فورد: الأفق في الأعلى والأسفل والمنتصف!

يبدأ الفيلم بالكاميرا تنظر للطفل سامي، أي أنها موجهة للأسفل، تتبنى وجهة نظر الأب والأم وهم يقنعون الطفل ذا الـ6 سنوات بدخول السينما وعدم الخوف من الظلام وأن مشاهدة فيلم The Greatest Show on Earth سيكون تجربة ممتعة، ليكون مشهد تصادم القطاران قبل نهاية الفيلم والذى يعد واحد من المشاهد الايقونية فى تاريخ السينما العالمية هو المحرك له ليتغلب على خوفه، وهو أيضًا بداية شغفة بالتصوير والإخراج والمونتاج والتأليف عن طريق إعادة تصوير المشهد عدة مرات من عدة زوايا باستخدام كاميرا والده التى منحته اياها سرًا والدته، وينتهى الفيلم بالكاميرا وهى تنظر للشاب سامي وقد شعر أخيرًا أنه وجد طريقه، لكن الزاوية هى عكس ما بدأ به الفيلم، الكاميرا تنظر للأعلى لتمنح سامي هالة من الضخامة والثقة، ما بين النظرة للأسفل والنظرة للأعلى بشكل عام فى الأفلام يتحدد الاهتمام بالشخصيات فيلم وكذلك التعبير عنها، وبشكل خاص فى فيلم The Fabelmans هناك حياة كاملة عاشها طفل وجد شغفًا فى السادسة من عمره وبنى نفسه ليطور من هذا الشغف بالطموح معتمدًا على عائلته الكبيرة بكل روافدها، ليتلقى أخر النصائح من المخرج الكبير جون فورد قبل أن يبنى أسمه كواحد من أعظم مخرجين السينما المعاصرين وهو سامي فابيلمان الرؤية السينمائية لستيفن سبيلبرج حسب روايته عن نفسه وعن كل من وجدوا أنفسهم فى السينما.

الصور من الحساب الرسمي للفيلم على أنستجرام