من مجموعة "فيكتور أند رولف" ربيع وصيف ٢٠٠٨ للملابس الجاهزة  تصوير: Giovanni Giannoni/WWD/Penske Media  بواسطة: Getty images

بين الإيقاع والحركة... حين تُغنّي الموضة

نورا البشر

حين تصبح القطعة صوتا، وتتحوّل الخياطة إلى حركة لها إيقاع ووزن، ندخل منطقة التقاء نادرة بين الموسيقى والموضة، حيث لا تعود الأزياء مجرّد تعبير بصري، ولكن تتحول إلى مقطوعات معزوفة تُرتدى، وتتحرك. في لحظاتها الأكثر إلهاما، تتجاوز الموضة حدود البصر، لتصبح وسيلة استماع أيضا من خلال الخامات، والقصّات، وتمايل الأقمشة على الجسد. لكن ما يمنح هذا التداخل عمقه الحقيقي هو الإحساس، من عروض كينيتكية تحاكي الموجات الصوتية بحركاتها، إلى تصاميم تستلهم الآلات الموسيقية، أو تُطرّز بكلمات أغنية محفورة في الذاكرة. إنها علاقة حقيقية بين السمع والبصر، لا استعارة عابرة، بل هي خط تصميم أصيل يُعيد تعريف الإبداع بوصفه تجربة حسّية متكاملة.

 

من مجموعة "فيكتور أند رولف" ربيع وصيف ٢٠٠٨ للملابس الجاهزة  تصوير: Giovanni Giannoni/WWD/Penske Media  بواسطة: Getty images
من مجموعة "فيكتور أند رولف" ربيع وصيف ٢٠٠٨ للملابس الجاهزة
تصوير: Giovanni Giannoni/WWD/Penske Media
بواسطة: Getty images

في عــــروض "إيــــريــس فان هيـــربــن"، تتـــجـــسّـــد العــــلاقــــــة بين الــصــــوت والحركة بتصميمات تتخطى الشكل لتلامس الجوهر. المصممة الهولندية تبتكر تجارب حركية كاملة، تُبنى على مستوى الجزيئات باستخدام تكنولوجيا الطباعة ثلاثية الأبعاد ومواد مستقبلية مثل السيليكون والنسيج الحيوي.

كل قطعة تنبعث كأنها موجة صوتية تتحرّك في الفضاء، بينما يتجاوب القماش مع الجسد بإيقاع نابض. تحت يدَي "فان هيربن"، يتحوّل التصميم إلى تردّد مرئي، يتنقّل في الهواء بإحساس ناطق. هي أزياء تُنحت بالحركة، وتُصاغ كأنها موسيقى مرئية، تتكامل مع الجسد في تجربة حسّية فائقة.

أما "إيف سان لوران"، فاختار أن يعبر إلى عالم الفن عبر نوافذ الرسم. في مجموعة ربيع 1988 للأزياء الراقية، استحضر وجوه الحداثة من "بيكاسو"، و"فان غوخ"، و "جورج براك" وحوّل إرثهم البصري إلى نقوش تُسكن القماش، وتحوّل الفساتين إلى لوحات قابلة للارتداء.

"إيريس فان هيربن" ربيع وصيف ٢٠٢١ للأزياء الراقية
"إيريس فان هيربن" ربيع وصيف ٢٠٢١ للأزياء الراقية
"إيريس فان هيربن" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للأزياء الراقية
"إيريس فان هيربن" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للأزياء الراقية
"إيريس فان هيربن" ربيع وصيف ٢٠٢١ للأزياء الراقية
"إيريس فان هيربن" ربيع وصيف ٢٠٢١ للأزياء الراقية

الفن لم يكن عنصر إلهام خارجيا، بل مادة أولى بُنيت منها المجموعة. وسط هذه التكوينات، ظهرت آلات موسيقية مرسومة بعناية كأنها أصوات صامتة تتنقّل على سطح القِطع الخلابة، تمنح العين تجربة تُحاكي السمع. قال "سان لوران": "لطالما فُتنتُ بالرسم، فكان من الطبيعي أن يُلهمني في تصاميمي". هذا التصريح يختزل جوهر العلاقة بين الموضة والفن، علاقة تتأسس على الترجمة البصرية للحس، وتحويل الانفعال الجمالي إلى بُنية تصميمية.

وكما يعبّر الرسام عن ذاته عبر اللون والخط، يبني المصمم رؤيته عبر القصّة، والخامة، والشكل. وعندما تلتقي هذه العوالم، تتشكّل لحظة تصميمية مشبعة بالذاكرة، تُصاغ كأثر فني يتحرّك، ويُرى، ويُحفظ.

من مجموعة "إيف سان لوران"
من مجموعة "إيف سان لوران"
ربيع وصيف ١٩٨٨ للأزياء الراقية، تصوير: Pierre Vauthey/Sygma/Sygma بواسطة: Getty Images
ن مجموعة "إيف سان لوران"    ربيع وصيف ١٩٨٨ للأزياء الراقية    تصوير: Pierre Vauthey/Sygma/Sygma بواسطة: Getty Images
ن مجموعة "إيف سان لوران"
ربيع وصيف ١٩٨٨ للأزياء الراقية
تصوير: Pierre Vauthey/Sygma/Sygma بواسطة: Getty Images
 من مجموعة "فيكتور أند رولف"    ربيع وصيف ٢٠٠٨ للملابس الجاهزة    تصوير: Karl Prouse/Catwalking بواسطة: Getty images
من مجموعة "فيكتور أند رولف"
ربيع وصيف ٢٠٠٨ للملابس الجاهزة
تصوير: Karl Prouse/Catwalking بواسطة: Getty images
 من مجموعة "فيكتور أند رولف"    ربيع وصيف ٢٠٠٨ للملابس الجاهزة    تصوير: Karl Prouse/Catwalking بواسطة: Getty images
من مجموعة "فيكتور أند رولف"
ربيع وصيف ٢٠٠٨ للملابس الجاهزة
تصوير: Karl Prouse/Catwalking بواسطة: Getty images
"موسكينو" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للملابس الجاهزة
"موسكينو" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للملابس الجاهزة
"موسكينو" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للملابس الجاهزة
"موسكينو" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للملابس الجاهزة
"موسكينو" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للملابس الجاهزة
"موسكينو" ربيع وصيف ٢٠٢٠ للملابس الجاهزة

بــــعـــض المصـــمـمـــيــــن لم يكــتــــــفـــوا بالتــلمــيــــــــح إلى الموسيقى، بل حوّلوها إلى مادة تصميمية حية. دار "فيكتور أند رولف" في ربيع 2008 قدّمت فساتين مكوّنة من آلات موسيقية أعيد تشكيلها بإبداع نحتي، وكأن الجسد يرتدي صوتا متجسّدا.

أما "موسكينو"، فلطالما أتقنت أداء النغمة الصاخبة بعين ساخرة وذكاء بصري متمرّد. في مجموعة ربيع وصيف 2020، اختار "جيريمي سكوت" أن يُعيد قراءة "بيكاسو" بصيغة قابلة للارتداء، فحوّل فَنه التكعيبي بزواياه الحادّة، وخطوطه المفكّكة، وتــــراكيـــب مستــــويـــاتــــه البصــــريــــة إلى فساتــيـــــن مشغولة بجرأة لونية وتكوينات تتراقص كأنها ضربات فرشاة حرة على جسد متحرّك. لكن اللافت، كان الدمج الحرفي للآلات الموسيقية داخل بنية القطع، من كمانات وأبواق وغيتارات تداخلت في التصميم كعناصر تشكّل البنية لا الزينة، وكأن الجسد نفسه يعزف بمجرد أن يتحرّك. الأزياء هنا لم تكتفِ باستلهام الموسيقى، بل احتوت على أدواتها.

وفي خريف 1991، أدخلت "فيرساتشي" الغيتار داخل هيكل الفستان، ليصبح الجسد نفسه أداة عزف، ينبعث منه الغناء كامتداد طبيعي للحركة.

من مجموعة "فيرساتشي" خريف وشتاء ١٩٩١  تصوير: Emanuele Sardella/WWD/Penske Media بواسطة: Getty Images
من مجموعة "فيرساتشي" خريف وشتاء ١٩٩١
تصوير: Emanuele Sardella/WWD/Penske Media بواسطة: Getty Images

هــــذه ليــــست محـــض لفتـــــات فنية، بل محــــــاولات واعية لإعادة تعريف الموضة كمساحة تترجم الصوت إلى شكل، وتحوّل الآلة الموسيقية إلى بُنية تصميمية تنطق بالإيقاع.

موسكينو" خريف وشتاء ٢٠٢٢  للملابس الجاهزة
موسكينو" خريف وشتاء ٢٠٢٢
للملابس الجاهزة
موسكينو" خريف وشتاء ٢٠٢٢  للملابس الجاهزة
موسكينو" خريف وشتاء ٢٠٢٢
للملابس الجاهزة

وفي خريف وشتاء 2022، لم يكتفِ "سكوت" بتلميحات صوتية أو استعارات زخرفية، ولكن قرر أن يشمل الآلة الموسيقية حضوريا وبشكل مباشر، عبر قطع مثل فستان القيثارة الذي حَمل بيانات خيالية ودلالات مَرحة، إلى جانب تصميمات أخرى تُحاكي أدوات المائدة والتحف المنزلية، وكأنها تتحوّل بدورها إلى آلات إيقاع بصري.

في المشهد السعودي المعاصر، تصعد نورا سليمان بصوت تصميمي يلتقط نبض المدينة وإيقاع الذاكرة، وتُترجم رؤيتها عبر مفردات ثقافية وموسيقية تمتد من أرشيف الأغاني إلى تفاصيل الحياة اليومية. في مجموعتها "8 مساء"، التي قُدّمت خلال أسبوع الأزياء في الرياض، استلهمت من أغنية "ليلة خميس" لمحمد عبده لتنسج عبر الأزياء رواية بصرية عن طقوس الحبّ في الثمانينيات، زمن العفوية، والمشاعر غير المؤرشفة.

بين التصاميم النسائية والرجالية، جمعت نورا سليمان بين دفء الماضي وجرأة الحاضر. كل قطعة بدت كأنها مشهد من موعدٍ مرتقب، من الفستان المختار بعناية، واللون المتناغم مع المزاج، والخطوط التي تُفصّل على إيقاع الشعور. لكن ما يميّز المجموعة حقا هو انخراط الكلمات داخل النسيج في العبارات المقتطفة من "ليلة خميس" التي خُطّت على القماش كشًك وتطريز، وكأن القطع نفسها مُزَيّنة بالأغنية، ومشبعة بروح الشعر، ومرهفة بنبض الموسيقى.

تقول المصممة: "أردت أن أستعيد إحساس الحب والمواعدة في الثمانينيات، السحر القديم الممزوج بالجرأة العصرية". وبهذا التوجه، لم تُقدّم نورا مجرد أزياء تُرتدى، بل أعادت بناء طقس اجتماعي، وشكّلت أناشيد حب تُلبس، وتُرى، وتُسمع بطرب.

من مجموعة ٨ مساءً من نورا سليمان،  علامة الأزياء السعودية
من مجموعة ٨ مساءً من نورا سليمان،
علامة الأزياء السعودية
من مجموعة ٨ مساءً من نورا سليمان،  علامة الأزياء السعودية
من مجموعة ٨ مساءً من نورا سليمان،
علامة الأزياء السعودية

الموضة لها القدرة على التحول إلى وسيلة استماع كما هي وسيلة تعبير. كل غرزة تقابلها نغمة، وكل قصة تفصيل تحمل في انحناءاتها توقيعا صوتيا. وعندما يلتقي الإيقاع بالبُنية، تُولد لحظة تُسجّل على ورق النوتة وتُحفظ في الذاكرة الحسيّة.

هذا ليس مجازا، بل تأكيد على أن الموضة، حين يصغى إليها كما تُسمع الموسيقى، تُصبح أكثر من مظهر خارجي. تُصبح لحنا مرئيا، له قدرة على التأثير والاستدعاء والبقاء.