مهرجان الجونة 2021.. أفضل الأفلام وجدت طريقها للجمهور رغم الأزمات

شهدت الدورة الخامسة من مهرجان الجونة السينمائي أحداث متعددة هددت سير فعاليات المهرجان، لكن في النهاية وصلت الدورة لخط النهاية بتتويج الفائزين في حفل الختام، حيث نال فيلمى The Blind Man Who didn't Want to   Watch Titanic ، و"ريش" نجمتي الجونة الذهبيتين كأفضل فيلم وأفضل فيلم عربي، وكلاهما أثارا الكثير من الجدل بسبب مساحة التجريب والأسلوبية المختلفة التي اتبعها المخرجان تيمو نيكي مخرج الأول وعمر الزهيري مخرج الثاني، وإن كان الأخير حظي بالجانب الأكبر من الجدل الذى وصل للهجوم وصنع حالة من الاستقطاب حوله لم يصل لها فيلم مصري منذ وقت طويل.

الفيلم الفنلندي The Blind Man Who didn't Want to Watch Titanic هو أول فيلم عرض في المهرجان والذي منذ لحظة عرضه الأولى أثار جدلاً إيجابيًا بين جمهور المهرجان، والسبب في ذلك بشكل رئيسي هو الرؤية البصرية للفيلم، التي اعتمدت كليًا على أحجام اللقطات القريبة وشديدة القرب وعند اللجوء إلى اللقطة المتوسطة يتحول الكادر في معظمه إلى ضبابي، بالكاد يمكن تمييز تفاصيله، وذلك حتى يعيش المشاهد حالة بطل الفيلم ياكو الذى يعاني من مضاعفات مرض تصلب الاعصاب، كفيفًا ومقعدًا يخوض رحلة صعبة للقاء حبيبته التي لم يقابلها في حياته وتقتصر علاقتهما على المكالمات التليفونية كونها تسكن مدينة اخري، ولكن عند تشخيصها بمرض مميت، يقرر ياكو السفر للقائها والسماح لها برؤيته وكذلك ليمنح لنفسه فرصة رؤيتها بالطريقة التي يستطيع من خلالها فعل ذلك عن طريق اللمس ومعرفة ملامح وجهها.

 

الفيلم المصري "ريش" سار على نفس الخط في تناول موضوعه من زاوية شديدة القتامة بمصاحبة الكوميديا السوداء بسخريتها المعتادة، لكن من نوعية الـ"ديستوبيا" أو أفلام ما بعد الكارثة، وفيما ذهب فيلم "الرجل الأعمى" لمناقشة قضية اجتماعية هي وضع متحدى الإعاقة في أكثر الدول تقدمًا في العالم في قالب واقعي، ناقش "ريش" قضية اجتماعية أخرى هي وضع المرأة المعيلة في دول العالم الثالث لكن في قالب خيالي مصورًا عالمه وقد أصيب بكارثة غير معروفة حولت كل معالمه لمجتمع صناعي شديد التلوث والقذارة يعاني الجميع من خلاله بشكل متساوي، وعلى الرغم من تفوق المخرجين في إظهار الجوانب البصرية في العملين واحتواء كلاهما على جرعة قتامة إلا ان عامل الخبرة صنع فارق ضخم، فالأول تعامل مع القسوة بشكل شاعري مفعم بالمشاعر وبالتالي منح فيلمه جواز مرور للجمهور وخفف جرعة القتامة.

على العكس بالغ الزهيري في الجرعة بشكل أكبر من المقبول، ولم يمنح المشاهدين الفرصة للتعاطف مع شخصياته التي قدمها على الشاشة هواة معظمهم لا يجيد التمثيل وفى الوقت ذاته لم يمنحهم عمر التوجيه الكافي للظهور الاحترافي على الشاشة، ومع ضعف عنصر مهم آخر وهو السيناريو مما انعكس على إيقاع الفيلم وتسبب في طول الفترة الزمنية في التعريف بالشخصيات وغياب التصاعد والمغالاة في وصف معاناة بطلة الفيلم من خلال تكرار مشاهد بعينها مما أصاب أكثر من ثلثى الفيلم بالترهل خلافًا للثلث الأخير الذي كان أكثر حيوية وتحديًا للغيبيات وانتصارًا للمرأة.

الفيلمان في النهاية يقتربان من بعضهما البعض في أسلوبيتهما والاعتماد على التفوق البصري في عناصر التصوير والمونتاج والملابس والتلوين والتكوينات بالإضافة لتصميم الإنتاج، وتتساوى الموهبة والإبداع عند كلا المخرجين، لكن كيفية خروج رؤية كلاً منهما للنور يُظهر فارق الخبرة.

وبعيدًا عن الصراعات التي شهدتها المسابقة الرسمية والجدل الذي تسبب فيه فيلم "ريش" والذي انتهى بتتويجه بنجمة الجونة الذهبية، شهد القسم غير الرسمي للمهرجان عروضًا لأفلام شديدة التميز، صنعت مع منافسات القسم الرسمي مساحة كبيرة للمشاهدة تصل أحيانًا للتضحية بأفلام لحساب أفلام أخري ومعظمها جيد جدًا، من أبرز هذه الأفلام فيلم الرسوم المتحركة Belle، الذي أُضيف في منتصف أيام فعاليات المهرجان بالشكل الذي يوحي بحجم المفاوضات الصعبة التي سبقت عرضه من قبل الإدارة الفنية للمهرجان والتي انتهت بالتنويه عن عرضه مرتين خلال المهرجان دون أن يكون مضافًا لمطبوعات المهرجان، والحقيقة أن الفيلم يستحق هذه الاهتمام بعرضه لحضور المهرجان، خاصة أنه يعتمد بشكل أساسي على قصة "الجميلة والوحش" الشهيرة والتي استلهمتها استوديوهات ديزني بفيلم رسوم متحركة يحمل نفس العنوان صدر عام 1991 وحقق نجاح ضخم، لكن مع تضخم التأثير الاقتصادي لديزني وسيطرتها حتى على استوديوهات أخرى كبرى في هوليوود، خرج الأمر من الدائرة الفنية إلى مرحلة فرض ذوق وكود على الجميع وذلك من خلال إعادة إحياء أعمالهم الكلاسيكية بصورة حداثية تشتبك مع القضايا الاجتماعية الحالية، لكن مع كل إعادة يتضح حجم الهوة الواسعة بين ما تقدمه ديزني واشتباك ما تقدمه مع القضايا الحداثية.

الفيلم الياباني Belle: The Dragon and the Freckled Princess تفوق على إعادة إنتاج فيلم 1991 باشتباكه الحقيقي مع قضايا حداثية مرتبطة بالثورة التقنية في مجال التواصل الاجتماعي وتأثير ذلك على التواصل الحقيقي بين البشر بالإضافة لمشاكل العنف الأسري، هذا دون أن يفقد الفيلم التفوق في عناصر الرسم والتحريك والأداء الصوتي والموسيقى والأغاني، وفى نفس القسم عرض الفيلم الفرنسي  Paris, 13th District والذى يحمل رؤية بصرية خاصة وشديدة التميز كون مخرجه جاك اوديار أختار أن تكون ألوانه بالأبيض والأسود، وأن يكون موضوعه مناهضًا للصوابية الاجتماعية، ويسمح للبشر أن يعبروا عن أنفسهم ويعطيهم حق الغفران على الأخطاء من قبل شركائهم، ويدين في الوقت ذاته التنمر والتنميط، وذلك من خلال اعتماد الفيلم على شخصيات تنتمى عمليًا لأقليات مضطهدة اجتماعيًا، لم يصورهم بشكل ملائكي ولا نضالي، بل مجرد بشر يحاولون الحياة واقتناص لحظات سعادة وراحة فقط.

منافسات القسم الوثائقي شهدت هي الأخرى صراعا قويا على الجوائز، لكن على الرغم من عدم تتويجه بأي جائزة ، ففيلم  This Rain Will Never Stop الذى اختارت مخرجته ألينا جورلوفا أن تعبر عن قضيته أيضًا بألوان الأبيض والأسود، وتشتبك مع قضية غاية في الخطورة وهي قضية اللاجئين السوريين التي اختلف تناولها حاليًا عن ما كانته قبل 10 سنوات، أصبح حاليًا هناك عند المبدعين لتناولها بشكل فنى وشاعري أكثر ويتضح من خلاله تفاعل المبدع مع القضية، هذه ما يمكن ملاحظته بشكل واضح مع فيلم "كباتن الزعتري" المتوج بنجمة الجونة الذهبية، وفيلم This Rain Will Never Stop الذى يتناول عائلة ممزقة حرفيًا بسبب النزاعات السياسية والحربية، العائلة نفسها لها وضع خاص، هي عائلة سورية، الأب كردي والام أوكرانية، ومع اندلاع الأحداث السورية تهرب الأسرة لأوكرانيا التي تتحول بدورها لبؤرة صراع، لتتشتت العائلة في اكثر من خمس دول، عبر الفيلم عن حجم التمزق الذى أصاب البشرية بشكل فني و بصرى مذهل.