رؤية نقدية -Greyhound..ارتباك درامي داخل غرفة قيادة الكابتن "توم هانكس"!

صور الفيلم الألماني الشهير Das Boot "القارب" حياة الجنود الألمان داخل غواصة حربية متطورة من نوعية U-boat تُطارد مراكب قوات الحلفاء في المحيط الأطلنطي، وتُذيقها مرارة الهزيمة، ولكن حينما يفك الحلفاء شفرة اتصالات الغواصات بمركز القيادة تتغير قواعد المُطاردة، ويُصبح الصياد هو الفريسة، والفيلم من إنتاج عام 1981 وأخرجه "ولفجانج بيترسن"، ويُعد من أهم الأفلام الألمانية الحديثة، وقدم دراما تُناقض الصورة النمطية الهوليوودية عن قسوة وعُنف الجندي الألماني الشرير، وصور الفيلم حياة طاقم الغواصة كبشر يعيشون حياة خوف وتوتر في الأعماق، ويواجهون الملل واليأس والحنين لأحبائهم في الوطن.

حكاية الراعي الصالح

في فيلم Greyhound "جرايهاوند" نرى مواجهات سفن الحلفاء مع غواصات U-boat لكننا لا نرى الجنود الألمان، وقد حجب السيناريو كل ما يتعلق بحياتهم بالأسفل لإضفاء الغموض والشر على صورة العدو، وسلط السيناريو الضوء على الصراع بعيون قوات الحلفاء، وبالتحديد من زاوية البطل، وقد فعل "توم هانكس" بطل وكاتب سيناريو الكثير ليتحكم وحده في رواية أحداث الفيلم.

الفيلم مُقتبس عن رواية تستند إلى أحداث مُتخيلة كتبها "سي.اس.فورستر" عام 1955 بعنوان "الراعي الصالح" The Good Shepherd و يؤسس سيناريو "توم هانكس" لشخصية القائد " إرنست كراوس" التي يُجسدها بنفسه في المشاهد الأولى من بداية المواجهات البحرية في المحيط الأطلنطي؛ فملامحه الجادة أثناء مظاهر فرحة طاقمه بعد تدميرهم غواصة ألمانية تعكس تناقض مشاعره تجاه انتصاره، وحينما يُعبر مساعده عن فرحته بالتخلص من طاقم غواصة مكون من خمسين ألمانياً، يرد مُصححاً "خمسون روحاً"، لكن مشاعر "كراوس" المُتعاطفة لا تنفي أنه يخوض معركة الخير ضد الشر، والفيلم صور الألمان وغواصاتهم مثل وحوش دموية قاتلة تسعى للفتك بسفن الحُلفاء، ونحن لا نرى الجنود الألمان، ولا نرى مشاعر الجنود ومخاوفهم وقلقهم، ولهذا لا نتعاطف مع هجماتهم أو تعرضهم للقصف والغرق في الأعماق، وجزء من تعاطف المُشاهد مع قافلة الحلفاء يأتي من حقيقة كونها قافلة عسكرية ترافق عشرات السفن التي تنقل البضائع والمؤن الأمريكية لأوروبا في شتاء عام 1942، وليست قافلة هجومية تسعى للسيطرة والنفوذ وتدمير الأخر.

أزمة سيناريو

الفيلم إنتاج شركة "سوني" واشترته منصة "أبل" لتعرضه بعيداً عن قاعات السينما المُغلقة، وهو يعتمد على الاستعراض البصري المُبهر للمعارك البحرية بين قافلة سفن الحلفاء وغواصات الألمان في قلب المحيط، ولكنه يركز على المعركة من وجهة نظر طاقم وقائد السفينة "جرايهاوند"، ومن حين لأخر يحاول تسجيل مشاعر القائد والجنود داخل غرفة القيادة الضيقة وسط خطر الموت المحيط بهم، ونحن نعلم من البداية أن القائد "كراوس" رجل عسكري مُخلص ودؤوب، لكنه لم يخض معارك حربية من قبل، وتلك هى مهمته الأولى، وهذا يضع كثير من علامات الشك في قدرته على قيادة سفينة في مهمة شديدة الخطورة مثل تلك، والجزء الأخطر هو عدم ثقة "كراوس" في نفسه وشكه في قدرته على قيادة المعركة، بالإضافة إلى تعطل قراءات جهاز الرادار التي تضعه أحياناً في مواقف يضطر فيها إلى إصدار قرارات تقديرية، ورغم الشك المُنعكس على وجوه الطاقم لكن ثبات "كراوس" ويقظته الدائمة بددت مخاوفهم، وصنع بإخلاصه علاقة ثقة بينه وبينهم.

تاريخ شخصية "كراوس" مبتور درامياً، وكل ما نعرفه عنه هو لمحة سريعة عن قصة حب مُعلقة مع امرأة تركها خلفه "إليزابيث شو"، ومظاهر تدين وحرص على تأدية الصلاة قبل الأكل وقبل النوم، وشعور بالأبوة نحو طاقمه من الجنود الصغار، وكل تلك الملامح لا تُضيف للصراع درامياً، والسيناريو لا يستخدمها في تفاصيل حبكة الفيلم، ولا شىء يحدث في غرفة القيادة سوى إصدار عشرات الأوامر للجنود، وما عدا ذلك يُركز الفيلم على تفاصيل المعارك الحربية، وهى تستغرق مُعظم وقت الفيلم القصير نسبياً (91 دقيقة)، وهى الشىء الأكثر إتقاناً في فيلم يخلو تقريباً من الدراما.

المعارك ولا شىء أخر!

أزمة الفيلم تكمن في أنه لم يستثمر الكثير درامياً تحت العناوين الجذابة التي وضعها، فلم تكن هناك مفاجآت فيما يحدث داخل غرفة القيادة، ولم تكن هناك تفاصيل تُساعد على تجسيم الشخصيات ومنحها أبعاداً مختلفة، والفيلم لا يترك إنطباعاً عميقاً بعد مشاهدته، إنها مجرد كاريزما أداء "توم هانكس" الحاضرة في كل مشهد يظهر به، ولحظات كلوزات الكامير على وجهه وتعبيراته عن القلق وثقل المسؤولية التى يحملها على كتفيه، ولكنه لم يدعم هذه الكاريزما بأى خيوط درامية، ولهذا رجحت كفة المشاهد الحربية التى أتقن صناعتها المخرج "أرون شنايدر"، وتحول ارتباك طاقم غرفة قيادة ""جرايهاوند" إلى ارتباك درامي حقيقي، ففي كل مشهد ينتظر المتفرج حدوث أمر ما لتطوير للشخصيات، ولكن هذا لا يحدث، ولم تخرج أى شخصية عن المسار المستقيم الفاتر الذي رسمه السيناريو.

تسعى أفلام الحروب إلى أهداف تتعدى إبهار وإثارة مشاهد المعارك والاشتباكات. أحياناً يكون الهدف هو البروباجاندا والتباهي بالقوة، وللحصول على تأثير أكبر تسعى دراما هذه النوعية من الأفلام للتركيز على البطولات الفردية، وتصوير الصراع الإنساني بين الواجب الوطني وغريزة البقاء، وفيلم "جرايهاوند" من هذا النوع؛ فهو يستعرض بطولات قوات الحلفاء في المواجهات العسكرية أمام الألمان في الحرب العالمية الثانية، ويًسرف في تصوير المعارك البحرية الدامية، وقد حاول سيناريو "توم هانكس" أن تكون رؤيته الإنسانية لأزمة البطل لها الصدارة، ولكن النتيجة على الشاشة كانت متواضعة للغاية.