الفنانة والكاتبة السعودية لينا الناصر تكتب لـ"هي": منزلي… الحرية التي وجدتها بين قيود الكلمة
كلمة منزل من الكلمات المهمة في حياتنا. وإذا تأملنا كلمة منزل نجد أنها مذهلة ففي طيّاتها نكتشف خيوطا خفية لمفهوم ثقافي عميق عن المنزل، مفهوم تتفرّد به الثقافة العربية. وكأن بنية هذه الكلمة البسيطة المكونة من أربعة أحرف هي في حد ذاتها رمز يحفظ كنزا معقّدا لا يمكن لمسه إلا عند فتحه. وكأنها ضفيرة معقدة، تكشف عند فكّها بساطا كاملا، ومشهدا يروي حكاية.
كلمة "منزل" مشتقّة من فعل "نزل"، ولكن من ينزل؟ ومن أين إلى أين؟ الإنسان ينزل، من الجمل إلى الأرض. ففي زمن أجدادنا، لم يكن المنزل شيئا موجودا ببساطة، بل كان علينا أن نعثر عليه، ونتخيّله ونختاره ونصنعه، بمساعدة الجمل الذي كان ينحني بكل رقيّ، لينزلنا من على ظهره، ويقودنا إلى المكان الذي سيصبح منزلنا.
قد يبدو لنا ما حاول أسلافنا فعله أشبه بمعجزة. وذلك ليس فقط لأن العثور على منزل تطلّب منهم الشروع في رحلات عديدة في ظروف مناخية صعبة عبر الصحراء العربية، راكبين على ظهور الجمال مع كمّية قليلة من الطعام والماء؛ بل أيضا لأن منازلهم لم تكن ثابتة، ولم تكن شيئا سيظل "دائما موجودا". فكان تغيّر الطقس وظروف الطبيعة يعني تغيير المنزل، وهو ما فرض عليهم نوعا من الانفصال، والاكتفاء، وقبول فكرة الرحيل ، والتخلّي، والبدء من جديد. وقد حفرت تلك المعاني في الذاكرة العربية نقوشا خلدها الشعراء عبر مئات السنين كقول امريء القيس في بداية معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.

ومن المثير للاهتمام كذلك أن نتخيّل ما قد يشعر به شخص ما وهو ينظر إلى بقعة أرض قاحلة من صحراء لا نهاية لها، وهو شعور ربما يراود الفنان عندما ينظر إلى كانفاس كبير فارغ، أو الكاتب عندما يحدق في ورقة فارغة: الخوف المذهل من العدم، يقابله الخيال الجريء الذي يمكن أن يبدأ في رؤية إمكانية وجود شيء ما.
هذه الممارسة المتمثلة في تحديد مكان المنزل، على الرغم من بساطتها الظاهرة، لا تخلو من الجنون المطلق: رؤية شيء في العدم. كيف يمكن لشخص ينظر إلى مشهد حبيبات الرمل اللامتناهية أن يتجرأ على القول: "توقف، هنا! هذا هو المنزل". يا لها من فكرة رائعة أن إنشاء المنزل اعتمد في المقام الأوّل على الحدس والخيال.
بصفتي فنانة وكاتبة سعودية مقيمة في لندن وقد عشت فترات من حياتي في منازل بين مدينة الظهران شرق المملكة ومدينة نيويورك، عنـــدمـــا استـــلـهـــمـــت مشــــروع "منــــزلي" Mnzlee، بـــدأت بســبــــب الحرّية التي وجدتها بين قيود الكلمة. في هذه الكلمة، وجــــدت فــــرصة لأحتضن وأغذي قوّتي الكبرى، وهي القدرة على التخيل والتغيير والارتباط بهذه الفكرة المهيبة المتمثلة في تخيل شيء من لا شيء، تماما كما فعل أجدادي. أما الاستعادة الثانية التي قدّمتها لي الكلمة، فكانت العلاقة بين سكان شبه الجزيرة العربية والكائـنــــات الحيـــة التي يحبــــونــهــــا ويــقـــدرونها ومن أبرزها العلاقة بالجمل والحصان وهي علاقات ليس لها مثيل وقد لاحظها عدد من الرحالة الغربيين. فأثناء تجوّلي في أحد متاجر الكتب المفضلة لدي في لندن ذات يوم، وجدت بعض كتب السفر من القرن التاسع عشر، لرواد أوروبيين زاروا شبه الجزيرة العربية.
ومن أكثر ما لفتني فيها كان ما قرأته من وصف للطريقة التي تواصل بها العرب مع خيولهم، وكأن بينهم وبينها لغة سرية. وهذه العلاقة مع الجمل والحصان، والحيوان بشكل عام، وطرق ارتباطها بمفهوم المنزل، أصبحت جزءا مهما بالنسبة لي لأستعيده. على الرغم من أنني أرى في الجمال والخيول مخلوقات رائعة ولكني لا أمتلك أيا منها، ولكني أمتلك كلبا، وأجد أن الصلة التي تربطني به، تربطني أيضا بهذا التاريخ حين كان للعرب والسعوديين خصوصا علاقة قوية وتعاطف مع الحيوان، وهو ما أعتقد أن الوقت قد حان لنستعيده.
فالماضي يسكننا كما نسكنه ومنه ننطلق للمستقبل، وهذا ما أفهمه من بيت أبي تمام عن المنازل:
"كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل"
إذا، مــا هي فـــكــــرة Mnzlee ؟ هي مساحة تــحــــوي كل مشاريعي الإبداعية، من لـــوحـــــاتي وأعـــمـــالي التركيبية مرورا بكتاباتي، مثل أول كتـــاب منـــشـــور لي بعنوان "مكــــان خيـــالي اسمه مـنــــزلي" An Imaginary Place Called Home، وصولا إلى مجموعة من المبادرات الاستشارية بشأن المشاريع التي تسعى إلى إعادة تصور مفهوم المنزل، وقيادتي وتدريسي لورش عمل إبداعية.
أصبح مشروع Mnzlee مساحة آمنة أسافر فيها وأجرؤ على تخيل منزلي من جديد. وما جاء مع التعمّق في أبعاد هذه الكلمة هو مفهوم آخر يرافق الخيال ويرتبط ارتباطا وثيقا به، وهو الحضور.

أعتقد أن فعل الحضور هو عنصر مميز جدا في الثقافة العربية يمكن رؤيته مطبّقا بأكبر قدر من الطلاقة في التقاليد العربية الغنية للثقافة الشفهية.
غالبا ما تُصوَّر آلة الطباعة على أنها "منقذة الذاكرة"، إلا أنها كانت للثقافة الشفهية نهاية. في الثقافة العربية، لم تسكن الذاكرة في الكتابة بل في الكلمة المنطوقة، في التلاوة والتمثيل والأداء. كانت الذاكرة متقدة فعلا: لم تكن تحنيطا للماضي، بل كانت حاضرا حيّا يتنفّس. وكونها تجربة حية، أتاحت الثقافة الشفهية مجالا للتعديل والتطور، ليغيّر الأحياء الكلمة حتى تناسب الزمان والسامعين. وفي رأيي أن المطبعة، التي نشأت من ثقافة استعمارية غربية ذكورية، أعطت قيمة لمؤلف واحد: المستعمر. وبالتالي، لم يُعتبر "حقيقيا" أو "مهما" إلّا ما كان مرئيا، وقابلا للاستهلاك والاستعمار. وكل ما لم يحاول أن يكون معرّفا كشيء ملموس، تمّ تهميشه. وبالتالي فالمحسوسات تراجعت أمام الملموسات في الثقافة المعاصرة.
لذا فإن مفهوم Mnzlee بالنسبة إلي لم يكن فقط مفهوم العودة إلى فكرة معيّنة من الماضي، بل كان ممارسة لمفهوم التفكير النشط والتخيل النشط والعيش في الحاضر، الذي سلبه منّا الغرب. بطريقة ما، إنه يعبّر عن اهتمامي بإعادة ما قتلته آلة الطباعة.
فضلا عن ذلك، في التفكير المعاصر حول صون التراث، لست مهتمّة بالحفاظ على الأشياء كما كانت، بقدر ما يهمّني المفهوم العربي، الذي يرى أن الأشياء تعيش، ليس من خلال تحنيط الماضي، بل عبر جعلها حاضرة الآن، أي عبر ممارستها في الوقت الحالي، من خلال السماح لراوي اللحظة الحاضرة بتشكيلها والتحدث عنها وصنعها، وعبر السماح للمناخ الحالي بأن يلعب دورا، والتعاون مع ما هو موجود الآن، والتخيّل النشط، والتجرّؤ على الانتقال من العدم إلى الوجود.
في عمل فنّي قمت به مؤخرا، بنيت خياما سحرية تشبه النساء. كل خيمة منها هي امرأة مجازية بطول 3-4 أمتار ترتدي رداء طويلا أو فستانا أشبه بعباءة ملوّنة. خارج "المرأة"، لافتة مكتوب عليها "اخلع حذاءك"، وهو ما يعكس ثقافة الاحترام العربية التي نلمسها غالبا في المساجد. كل خيمة/مرأة لها قصة. وبالإمكان الدخول للخيمة/المرأة ، عندما تدخل تجد كتابا يخبر قصّة هذه المرأة، مع لافتة أمام الكتاب تقول "اقرأني كلّي، أو لا تقرؤني أبدا". تجربة الجلوس في الخيمة تعيدني إلى زمن كنت فيه طفلة مهووسة ببناء الحصون، وترغب في الاختباء تحت ثوب أمّها. إنه ذلك الإحساس السحري بالإحاطة، الذي يعرفه كل أطفال العالم. إنه شعور بأن هناك ما يحتويك ويحميك ويحملك، وأنك مطوّق بما يشبه كبسولة من الصحراء اللامتناهية. هو لوحة خيالية لا يوجد فيها سواك أنت وعقلك، آمنة للّعب والتخيل والرسم والشعور وتأليف عالمك الخاص. الخيام مستوحاة من صناعة المنازل في الثقافة العربية، ولكن أيضا من دور الأنثى، أم الخيال نفسها. وهنا أتذكر الآية الكريمة "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".
عُرض عمل النساء/الخيام في عدد من صالات العرض الفنّية في لندن، حيث ارتفعت نساء يبلغ طولهن 3 أمتار فوق زوار الصالة (من رجال ونساء)، ولم يسمحن للجميع بالدخول، بل فقط لمن يخلعون أحذيتهم، هو جزء مهم من استعادة الخيال العربي وقوة المرأة. لا يمكن لأي شخص دخول المنزل، بل فقط من يجرؤ على التخيل.