عن ديمومة الأرض بالفن

لطالما كانت فكرة الاستدامة حاضرة في مشهد صنـــاعة الأزيــــاء والــجـــمال منـــذ زمن طويل.

ومع مبــادرات صناعة مواد التجميل الخالية من النـفـــايات وظـــهـــور "الأزيــــاء الخـــــضراء" بيـــــــــن المصــــمـــمين العالمـيــــين والمحــلـــيـين، وحيث أصبح هناك ما يسمى بأسبوع الموضة المستدامة في مدينة كوبنهاجن، وإيجاد حتى الأثاث والسيارات الصديقة للبيئة مع تحرك الوعي العالمي نحو التغيير، ومع انضمام عالم الفن إلى تلك الحوارات حول الاستدامة، نتطلع جميعا لما يمكن أن يقدم للكوكب. فهل يستطيع الفنانون إحداث الفارق والانخراط في محاولات التصدي لتغير المناخ والتدهور البيئي؟ قد تكون الاستدامة متجذرة في ممارسات الفنانين أكثر مما نعتقد، إذ يشير المشهد الفني المعاصر إلى تلك التحولات نحو طرح الأفكار والآراء حيال ذلك.

لكن قبل ذلك كله، ماذا عن الفن بصفته تعبيرا ذاتيا؟

عندما يُعبر الإنسان عن نفسه ودرجات ما يشعر به وتجاوبه مع الكون، وحيرته التي تأخذنا لمحاولاته في استدراج صلابة المعنى وتماسكه، وأن تحمل ذلك كله إلى وسيط آخر حفاظا على شيء من ألقه، حتى إن تقاطع معه فرد آخر في أي فترة زمنية مقبلة يجد ذلك التقارب في شكل معاناته ومعانيه، وذلك بحد ذاته أجده فعلا إنسانيا خيّرا.

أن تعـطي الآخر كأي غريب في هذا الكوكب شيء من حالة الشعور الجمعي بالأمان نحو الحياة لوجود رفاق في ملهاته ومآسيه لحمله نحو الديمـومة والتاريخ، لكن عن معنى الاستدامة كمصطلح يهتم بالبيئة وبقاء الأنظمة الحيوية للكوكب، لتكون متنوعة ومنتجة مع مرور الوقت، وفي طرح مفهومية الفن المستدام، والذي يمكن تقديمه بشكلين مختلفين، ولكن متـــرابطين في بعض السياقات وهي كالتالي:

عن الفن المصنوع باستخدام مواد وطرق تهتم بالتنفيذ الصديق للكوكب، أو عن ذلك الفن الذي يخلق مساحات للحديث حول الاستدامة كفكرة ودفعه باتجاه الوعي العام حول ذلك كقضية مهمة. في مفهوم عام تكون صياغات الفنون وما تقدمه للمجتمع وما بين ذلك كله حتما أسلوب حياة أكثر من أي معنى متشابك قد نتأمله طمعا في شِعريته. نظرتك لما هو حولك واصطياد جمالياته لاستشعار ضرورته لعله يكسبه شعورا أجمل، فضلا عن كون الفن ممثلا أساسيا في نقل هوية الجماليات البصرية لثقافتنا بصورة يباهي بها العالم حوله، سواء من خلال الأعمال الفنية البصرية والمفاهيمية أو العمارة، والموسيقى والأدب، والسينما وصناعة الأزياء، وكل ما يصل بينها حتى يتكثف كمحتوى تاريخي نقدمه للأجيال من بعدنا. وفي ديمومة الاستدامة وبداياتها بشكل علني صريح ظهرت حركة الفن البيئي في نهاية الستينيات، وذلك لرفع مستوى الوعي بالمخاطر التي يواجهها الكوكب، حيث التزم في هذه الصناعة بعض الفنانين لتقديم فن يشجع على الالتزام بمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، وتأثيره في كوكبنا، والنضال من أجل الحفاظ عليه.

أتذكر مشاهد صادمة نوعا ما لوثائقي فيلم "أرض النفايات" waste land الذي صنــــع عام 2010 عن الفنــــان المـفــاهيـمــــــي "فيك مونيز" من البرازيل، والذي يسلط الضوء على محتوى أعماله في منطقة خارج ريو دي جانيرو التي تعد أكبر مكب نفايات في العالم لخلق أعمال فنية من المواد المعاد تدويرها. يختار "مونيز" ستة أشخاص من العاملين في جمع القمامة، ليظهروا كموضوعات في سلسلة من الصور التي تحاكي اللوحات الشهيرة، محاولا مساعدتهم وتغيير حياتهم ليجد نفسه قد تغير أيضا.

 كأحد أشكال الفن المعاصر وُجد "فن الأرض"، حيث يعمل الفنان ابن بيئته على جعلها جزءا أساسيا من العمل الفني، ليعكس العلاقة بين الإنسان وطبيعة أرضه، ولا تكون فقط موضوعا للعمل الفني، وإنما أيضا مادة محورية لتقديمه ومعناه. وعمل على ذلك الكثير من الفنانين المحليين لدينا في المملكة العربية السعودية، ونجده واضحا وجليا في معرض "الصحراء إكس" dessert x الذي يقام في العلا بشكل سنوي.

 منذ الأزل كان الفنان بالضرورة ابن بيئته وصديقا لها من دون أن يفعل ذلك عنوة. بالنسبة إلي لطالما كان افتتاني ببيئتي وانفلاتات صحرائها وامتدادات النخيل وخيالاته، أجرب من خلاله بناء شخوص تتعاظم وتمتد باتساع الأرض ومساحاتها، لتتكون أجسادهم وملامحهم وردّات فعلهم. الباعث لذلك هو فضولي نحو نحت الجبال برسومات بدائية للقصص الذي اعتمده الكثيرون في الماضي، لتعرف حاليا بنقوش تاريخية، وهي نوع من السرد لإخبار قصص لشخوص قديمة أو حتى انعكاس لعادات قرية معينة بقصصها، تلك الطريقة التي كان يعبر بها أهل شبه الجزيرة العربية قديما بالشكل البصري بين مناطقها، لتجده يطرز جبال تبوك والجوف وجازان وجبال تهامة ووِديانها والعلا بتضاريسها، وبه تكون محاولاتي في الاستدامة للاسترسال نحو التشكل السردي والبصري لدينا. أجرب دائما تكوين ذلك الإنسان الذي "فوق العادة" في طريقته، كأن يمد ذراعه لآخر امتداد اللوحة، ليخبر الجميع بأنه إن أراد أن يصل إلى شيء ما فسيفعل ذلك، أو أن يرمي قدمه لأقصى زاوية أخرى، ليثبت إصراره على الوصول.