كم ساعة نوم تحتاجينها فعلًا في كل مرحلة من عمرك؟
هل حدث أن استيقظتِ بعد نومٍ طويل وشعرتِ كأنكِ لم تنامي أصلًا؟ أو استيقظتِ بعد بضع ساعات فقط لتجدي نفسكِ مفعمة بالطاقة؟ في الحقيقة، لا يعتمد الأمر على طول المدة، بل على نوعية النوم ومدى توافقها مع المرحلة العمرية التي تمرين بها؛ فكل عمر له احتياجات مختلفة من النوم، تمامًا كما تتغير احتياجاتنا من الطعام أو الراحة أو التواصل. هذا ما يقولة الدكتور أمجد رشدي، استشاري طب النوم، مشيرًا إلى إن الجسم يمتلك ساعة داخلية دقيقة تضبط نفسها مع العمر، وأي خلل فيها يؤدي إلى اضطراب واضح في الطاقة والمزاج والتركيز.
بداية الحكاية مع النوم
منذ لحظة الميلاد وحتى الشيخوخة، يظل النوم خيطًا رفيعًا يربط بين الصحة الجسدية والنفسية. ينام الطفل حديث الولادة معظم ساعات اليوم لأن جسده في حالة بناء مستمرة، بينما يقل عدد الساعات تدريجيًا كلما نضج الدماغ والجهاز العصبي. يشرح دكتور أمجد رشدي، استشاري طب النوم واضطرابات الساعة البيولوجية، أن النوم في بدايات الحياة ليس فقط راحة، بل عملية بيولوجية معقدة تُبنى خلالها الخلايا العصبية وتتقوى الروابط بين أجزاء الدماغ. ولهذا السبب، ينام الرضع نحو 16 ساعة يوميًا، ثم تقل تدريجيًا حتى تصل في الطفولة إلى نحو 10 أو 12 ساعة في اليوم.

ويضيف الطبيب أن "النوم عند الأطفال يشبه الشحن الكامل لجهاز جديد، فكل دقيقة نوم تُترجم إلى نمو في القدرات الذهنية والحركية، وتكوين للذاكرة التي تساعدهم على التعلم لاحقًا." لذا، عندما يُحرم الطفل من النوم الكافي، تظهر عليه علامات التشتت والعصبية الزائدة، وقد تتراجع قدرته على التحصيل الدراسي.
من الطفولة إلى المراهقة
في سنوات المدرسة والمراهقة، تبدأ أولى المعارك بين الجسم والعادات. فبين الدراسة والأنشطة والسهر أمام الشاشات، يصبح النوم هو الضحية الأولى. إلا أن المراهق لا يدرك أن جسده في هذه المرحلة يمر بأكثر التغيرات حساسية، وأن قلة النوم قد تؤثر على هرمونات النمو والمزاج.
يشير الدكتور رشدي إلى أن المراهقين بحاجة إلى ما لا يقل عن ثماني ساعات من النوم يوميًا، لكن أغلبهم لا يحصلون عليها بسبب انشغالهم الدائم أو اضطراب مواعيد نومهم. ويضيف أن "النوم في هذه المرحلة هو العامل الأهم في تنظيم الهرمونات المسؤولة عن النمو والوزن والمزاج، ولذلك نجد المراهق العصبي أو المتقلب المزاج غالبًا لا ينام بالشكل الصحيح."
النوم في هذه السنوات لا يتعلق فقط بالراحة الجسدية، بل بقدرة الدماغ على فرز الذكريات وترسيخ المعلومات الجديدة. لهذا السبب، يُنصح الطلاب بمراجعة دروسهم مساءً ثم النوم فورًا، لأن الدماغ أثناء النوم يُخزّن المعلومات بطريقة أسرع وأكثر ثباتًا.
سنوات الشباب… بين طموح وإرهاق
مع الانتقال إلى مرحلة البلوغ، يصبح النوم أول ما يتم التضحية به في جدول الحياة. العمل والدراسة والسهر والحياة الاجتماعية كلها تضغط على الساعات المخصصة للنوم. ومع ذلك، يوضح الدكتور رشدي أن هذه هي المرحلة التي يحتاج فيها الجسم إلى "نوم منظم"، يتراوح عادة بين سبع وثماني ساعات في الليلة.
يقول الدكتور رشدي: "المشكلة ليست في قلة الساعات فقط، بل في الفوضى. فالنوم في مواعيد غير ثابتة يُربك الساعة البيولوجية للجسم، حتى لو كان المجموع الكلي للساعات كافيًا."

يؤكد رشدي أن الانتظام أهم من العدد، وأن الجسم يفضّل نمطًا ثابتًا على نومٍ متأخر ومتقطع. كما أن التعرض للإضاءة الزرقاء من الهواتف قبل النوم يُعطل إفراز هرمون الميلاتونين المسؤول عن الاسترخاء، ما يجعل الشخص يظن أنه لا يستطيع النوم بسهولة، بينما المشكلة في أسلوب حياته لا في قدرته على النوم.
منتصف العمر وتبدّل الإيقاع
عند بلوغ الخمسين وما بعدها، تبدأ علاقة الإنسان بالنوم في التغير. قد ينام الشخص سبع ساعات فقط ويشعر بالرضا، وقد يستيقظ أكثر من مرة ليلاً ثم يجد صعوبة في العودة للنوم. يوضح الدكتور رشدي أن "هذه التغيرات طبيعية تمامًا، لأنها نتيجة لانخفاض إفراز بعض الهرمونات، وتبدّل الإيقاع اليومي للجسم، وليس بالضرورة علامة مرضية."
ومع ذلك، فإن الحفاظ على عادات نوم ثابتة يصبح ضروريًا أكثر من أي وقت مضى. فالنوم العميق في هذه المرحلة يساعد على مقاومة الإرهاق الذهني وأعراض الشيخوخة المبكرة. ومن النصائح التي يقدمها الدكتور رشدي:
- تجنّب القيلولات الطويلة أثناء النهار لأنها تُضعف الرغبة في النوم ليلاً.
- الابتعاد عن الوجبات الدسمة أو المنبهات في المساء.
- خلق طقوس ليلية هادئة مثل القراءة أو الاستحمام بالماء الدافئ قبل النوم.
مشيرًا إلى أن "من يحرص على نمط نوم منتظم في منتصف العمر، يؤخر كثيرًا ظهور المشكلات المرتبطة بالذاكرة والضغط النفسي والقلق."
جودة النوم… السر الخفي للصحة
ليست كل الساعات متساوية. فالنوم العميق الذي يصل فيه الجسم إلى مراحل الراحة القصوى لا يُقاس بالمدة فقط، بل بمدى استمراريته وهدوئه. يشرح الدكتور رشدي أن النوم الجيد يجب أن يمر بأربع مراحل متتالية، أهمها المرحلة العميقة التي يُرمّم فيها الجسم خلاياه ويُصلح الأنسجة.
في المقابل، النوم المتقطع أو المتوتر يُبقي الشخص في المراحل السطحية فقط، فيستيقظ منهكًا وكأن جسده لم يرتح. لهذا السبب، نجد أشخاصًا ينامون تسع ساعات لكنهم يبدون متعبين، بينما آخرون ينامون ست ساعات فقط ويملكون طاقة كبيرة، لأن نومهم أكثر عمقًا وانتظامًا.
ولتحسين جودة النوم، يوصي الدكتور رشدي باتباع ما يُعرف بـ “نظافة النوم”، وهي مجموعة من السلوكيات التي تُعيد ضبط إيقاع الجسد:
- النوم والاستيقاظ في وقت ثابت يوميًا.
- الابتعاد عن الشاشات والتوقف عن تناول الكافيين قبل النوم بساعتين على الأقل
- جعل الغرفة مظلمة وهادئة وجيدة التهوية.
- عدم العمل أو الأكل في السرير لتجنب ربط الدماغ بينه وبين النشاط.
النوم مرآة الجسد والعقل
النوم ليس مجرد راحة للجسد، بل انعكاس مباشر لحالتك النفسية والجسدية. كثير من اضطرابات النوم ليست سببًا بحد ذاتها، بل نتيجة لمشكلة أعمق. فالأرق المزمن قد يشير إلى قلق أو اكتئاب غير مُعلن، وكثرة النوم قد ترتبط بضعف نشاط الغدة الدرقية أو نقص الفيتامينات.
زيقول الدكتور رشدي: "حين يتغير نمط نومك فجأة، فكر في السبب قبل أن تبحث عن الدواء. أحيانًا تكون رسائل الجسم واضحة جدًا، لكنها تمرّ دون انتباه."
من المثير أن الدراسات الحديثة أثبتت أن النوم الكافي يسهم في تحسين جهاز المناعة وتنظيم الوزن وحتى تقليل خطر الإصابة بأمراض القلب. أي أن النوم في النهاية ليس ترفًا، بل سلاح صامت يحمي صحتك على المدى الطويل.

النوم والذاكرة والعواطف
خلال النوم العميق، يعيد الدماغ ترتيب المعلومات التي اكتسبها خلال اليوم، ويفرز الذكريات ويخزنها في أماكنها الصحيحة. لذلك يُعد النوم عاملًا حاسمًا في الحفاظ على الذاكرة والتركيز. أما في المراحل الحُلمية، فيُعتقد أن الدماغ يعالج المشاعر والانفعالات. ولهذا السبب، يشعر الإنسان براحة نفسية أكبر بعد نوم جيد.
ويوضح الدكتور رشدي أن "الحرمان من النوم لا يُتعب الجسد فقط، بل يربك المشاعر، ويجعل الإنسان أكثر عرضة للغضب أو الحزن أو التسرع في القرارات. فالعقل المنهك لا يرى الأمور بوضوح."
رسالة الدكتور رشدي الأخيرة
النوم الجيد ليس رفاهية، بل استثمار في صحتك اليومية. حاول أن تنصت إلى جسدك، فالإرهاق، النسيان، التوتر، كلها إشارات يرسلها ليخبرك أنه يحتاج إلى الراحة. ولا تحاول تعويض النوم المفقود في يوم واحد، لأن الجسم لا يُخزّن النوم مثل المال. الأفضل أن تبني روتينًا منتظمًا يمنحه الراحة التي يستحقها كل ليلة.
ويختم حديثه قائلاً: "كل مرحلة من العمر تحتاج لنوم مختلف، لكن القاعدة الذهبية ثابتة: نم كما لو أنك تعتني بنفسك، لا كمن يهرب من يومه."
النوم الكافي والمناسب لعُمرك ليس رفاهية، بل ضرورة للحياة. فبين كل مرحلة وأخرى، تتبدل احتياجات الجسد، وتبقى الراحة الحقيقية في أن تمنحه ما يحتاجه في الوقت الذي يحتاجه، دون إفراط أو تفريط.