الملكة حتشبسوت قائدة استثنائية تروي رحلة كفاحها من المتحف المصري الكبير إلى العالم من منّبرهي

الملكة حتشبسوت قائدة استثنائية تروي رحلة كفاحها من المتحف المصري الكبير إلى العالم من منّبر"هي"

رحاب عباس المواردي

ساعات قليلة تفصلنا عن افتتاح المتحف المصري الكبير، إذ تستقبل أرض الكنانة العالم بحدث تاريخي يربط عظمة الماضي بروح الحاضر وطموح المستقبل. أنه ليس مجرد مبنى يضم آثارًا، بل هو رسالة إلى العالم تؤكد أن عظمة التاريخ المصري هي الأساس الذي يُبنى عليه الحاضر والمستقبل. بين جدرانه، حيث تروي كل قطعة حكاية أمجاد حضارة كانت ومازالت منارة للعالم، لنجد الخيط الذهبي الذي يصل ماضي مصر المجيد بحاضرها الواعد.

وإذا تحدثنا عن العظمة، فلا بد أن نبدأ من النموذج الأسبق، الملكة حتشبسوت، التي حكمت مصر بقبضة حكيمة وبرؤية ثاقبة. لم تكن مجرد ملكة جلست على العرش، بل كانت قائدة استثنائية أدارت دولة عظيمة، وأطلقت رحلات تجارية تاريخية، وشيدت مشاريع معمارية خالدة، لتبهر العالم بقدرة المرأة على القيادة والحكم منذ آلاف السنين. لقد كسرت حتشبسوت القوالب النمطية في عصرها، وأثبتت أن المرأة عندما تُعطى لها الفرصة، يُمكّنها أن تصنع المعجزات وتقود أممًا.

ولكن رحلة كفاح حتشبسوت من أجل تحقيق الذات والقيادة لم تنتهِ بغيابها؛ إنها نفس الرحلة التي تواصلها المرأة المصرية في عصرنا الرقمي. فمن قاعات الجامعات والمختبرات العلمية إلى منصات القيادة في مختلف المجالات، تُمرر المرأة المصرية وقود التحدي والإنجاز، متمسكة بإرث من القوة والصمود.

إن نضالها اليوم من أجل تحقيق مكانتها كشريك أساسي في بناء الوطن هو استمرار حي لذلك الإرث العظيم.

فحتشبسوت لم تكن مجرد صفحة من الماضي، بل هي نموذج حي يلهم الأجيال، يذكرنا أن قيادة المرأة وقدرتها على صنع التاريخ ليست بدعة عصرية، بل هي حقيقة راسخة في ضمير هذه الأمة.

واليوم، بينما نقف أمام المتحف المصري الكبير، لا نرى فقط آثارًا خلفها الفراعنة، بل نرى إرثًا حيًا من القيادة والإبداع، تُضيئه أمثال حتشبسوت، ويواصل نسج حاضره ومستقبله نساء مصر القويات، اللواتي يحملن نفس الروح التي صنعّت المجد قبل آلاف السنين.

من منّبر مجلة "هي" إلى كل نساء العالم، انقل  لكّن رحلة كفاح الملكة حتشبسوت كقائدة استثنائية أدارت دولة عظيمة، وذلك بمناسبة افتتاح المتحف المصر الكبير؛ كي تستلهي منها مهارات المرأة القيادية لتكون حليفتكِ في عصرنا الرقمي المتطور.

تمثال الملكة حتشبسوت في المتحف المصري الكبير
تمثال الملكة حتشبسوت في المتحف المصري الكبير

تبدأ الرحلة من هنا.. محطة الوصول إلى الحكم

كانت حتشبسوت الابنة الشرعية للملك تحتمس الأول، وتولت الحكم في البداية كوصية على ابن زوجها "تحتمس الثالث" الذي كان طفلًا صغيرًا.ومع نهاية العام الثاني من حكمه، غيّرت وضعها إلى ملكة حاكمة بالمشاركة معه، لتصبح الحاكم الفعلي للبلاد.

التحدي.. محطة الشرعية الدينية والسياسية

واجهت تحديًا لكونها امرأة في منصب كان حكرًا تقليديًا على الرجال، حيث كان المُلك ممثلًا للإله حورس الذكر. لذا اضطرت إلى تبني رمزية الذكورة في تماثيلها الرسميةمرتدية "اللحية الملكية على الجنين والذقن المستعارة، ملابس الرجال، وشارات الحكم الذكورية ". ليس نفاقًا، ولكن كاستراتيجية ذكية لكسب شرعية الحكم في مجتمع لم يتخيل المرأة في موقع القيادة العليا. كذلك استخدم الدعاية السياسية من خلال نشر قصة "الولادة المقدسة" على جدران معبدها في الدير البحري، مؤكدة أنها ابنة الإله آمون من صلبه، مما يمنحها شرعية إلهية للحكم. أما اليوم فقد ورثت المرأة المصرية نفس التحدي، وإن اختلفت أشكاله، ولكنها فلم تعد مضطرة لارتداء زي الرجال جسديًا.

الصلابة المفرطة لصُنع سيرة ذاتية مخلدة.. محطة الإنجازات

لقد أدركت حتشبسوت أن شرعيتها كامرأة على العرش هشة، فلم تعتمد على نسبها فقط (كابنة للملك تحتمس الأول وزوجة تحتمس الثاني)، بل سعّت إلى صنع "سيرة ذاتية" من الإنجازات لا يمكن لأحد إنكارها؛ أبرزها:

  • بنّت بأسلوب مهيب يتحدى الزمنمعبدها في الدير البحري؛ فهو تحفة معمارية تروي على جدرانه قصة "البعثة التجارية إلى بلاد بونت" وكأنها فيلمًا سينمائيًا. لم تكن هذه النقوش مجرد تسجيل لحدث، بل كانت رسالة مفادها: "انظروا إلى الازدهار الذي جلبتُه لمصر". كما حوّلت الحجر إلى وسيلة إعلام لترويج إنجازاتها وترسيخ صورتها كحاكم شرعي وليس مجرد وصية.
  • كانت بعثة "بونت"بمثابة "مشروع قومي" جلبت الذهب والعاج والبخور والحيوانات النادرة. هذا الإنجاز الاقتصادي الملموس حوّل صورتها الذهنية من جنسها إلى منفعتها للدولة. لقد قال أفعالها: "أنا قادرة على جلب الثروة والأمان لمصر"، وهذه لغة يفهمها الجميع.
  • خلقت إرث لا يمحى ببناء المسلات الضخمة والمعابد، كي تضمن أن اسمها وصورتها ستبقى للأبد. لقد فهمت أن الإنجاز المادي هو أقوى حجة ضد أي محاولة لمحوها من التاريخ. أما المرأة المصرية المعاصرة فتسير على نفس الدرب، لكن في سوق العمل والمجتمع الحديث. فهي تبنى شرعيتها ومكانتها ليس بالانتماء العائلي أو الاجتماعي فقط، بل من خلال إنجازاتها المهنية الملموسة.
معبد حتشبسوت في الأقصر
معبد حتشبسوت في الأقصر

قيادة الحكمة والازدهار في عصر الإمبراطوريات.. محطة السلام الاستراتيجي

إن عهد الملكة حتشبسوت يمثل نموذجًا فريدًا ومبكرًا لقيادة تقوم على الحكمة والبناء، بدلًا من القوة والتدمير؛ إذ اختارت مسارًا مختلفًا في عصر كانت فيه الحروب والتوسعات هي السمة الغالبة لقوة الحاكم. لم تكن سلامية بسبب الضعف، بل كانت تملك جيشًا قويًا ورثته عن أبيها، واستطاعت أن تحافظ على حدود مصر آمنة. لكنها أدركت أن القوة الحقيقية ليست في غزو الآخرين، بل في بناء الذات. فحولت موارد الدولة من تمويل الحملات العسكرية إلى تموين البعثات التجارية والمشاريع المعمارية، وأشهرها "معبد الدير البحري، الذي لا يزال شاهدًا على عظمة فن العمارة في عهدها. كما أنها استعانت بدعم شخصيات مؤثرة مثل المهندس سنموت (لم يكن سنموت مجرد مهندس، بل كان المقرب الأكبر والمشرف على شؤون القصر ومربي ابنتها. لقد وضعت حتشبسوت ثقتها في عبقريته الإدارية والمعمارية، فكلفته بمشاريعها الضخمة مثل معبد الدير البحري والمسلتين العظيمين فيالكرنك). كان هذا التعاون مثالًا على كيف أن القائدة الحكيمةتُحيط نفسها بألمع العقول، بغض النظر عن خلفياتهن، لتحقيق رؤيتها.

كذلك كهنة آمون للتحالف مع السلطة الدينية ( في مجتمع كان الدين فيه جزءًا لا يتجزأ من السياسة، حصلتعلى شرعية دينية من خلال رعاية كهنة الإله آمون وتكريمهم وتوسعة معابدهم. وقدموا بدورهم الدعاية الدينية التي صورت حكمها على أنه إرادة إلهية، مما منحها غطاءً مقدسًا لا يمكن اختراقه بسهولة). لقد فهمت أن إرث الحضارات يُقاس بما تبنيه وليس بما تدمره.

ومثلما استثمرت حتشبسوت في بناء المعابد، تستثمر اليوم القيادات النسائية المصرية في بناء الأفراد، من خلال تركيزهن على "برامج التدريب والتطوير، والموازنة بين العمل والحياة، وخلق ثقافة تنظيمية داعمة". فالنجاح في عيونهن يقاس بنجاح فريقهن ككل.

على الهامش.. دروس مستفادة من رحلة كفاح الملكة حتشبسوت للمرأة في عصرنا الرقمي

  • النجاح المستدام يُبنى على ثلاثة أركان "الكفاءة الذاتية، التحالفات الاستراتيجية، والدعم المؤسسي"، أما العبقرية الفردية فوحدها لا تكفي.
  • تحويل الكفاءة الذاتية للمرأة في مجالها المهني إلى إنجازات ملموسة كما فعلت الملكة حتشبسوت.
  • أظهرت رحلة كفاح الملكة حتشبسوت كقائدة استثنائية أن الطريق إلى القمة لا تسلكه المرأة بمفردها، وأن القائدة الحكيمة هو من تبني جسرًا من الحلفاء المخلصين لتعبر عليه نحو تحقيق رؤيتها؛ وهذا بالضبط ما تفعله المرأة المصرية القيادية اليوم في عالم الأعمال والمجتمع.
المتحف المصري الكبير يُبهر العالم بإنجازات الملكة حتشبسوت كقائد استثنائية مخلدة
المتحف المصري الكبير يُبهر العالم بإنجازات الملكة حتشبسوت كقائد استثنائية مخلدة

وأخيرًا، ما قدمته الملكة حتشبسوت وما تقدمه القيادات النسائية المصرية اليوم هو إعادة تعريف للقيادة نفسها. فهي تحول مفهوم القيادة من "السيطرة والقهر" إلى "الخدمة والتعاون والتمكين". لقد أثبتت حتشبسوت أن أعظم الملوك هو من يترك ورائه حضارة، وليس ساحات معارك.