حين يغيب الابن... كيف تتعامل الأسرة مع الحزن وتجد طريقها إلى التعافي؟

حين يغيب الابن... كيف تتعامل الأسرة مع الحزن وتجد طريقها إلى التعافي؟

ريهام كامل

فقدان الابن هو أحد أقسى التجارب الإنسانية، جرح لا يلتئم بسهولة، وحدث يترك أثرًا نفسيًا وعاطفيًا بالغ العمق في قلب الأم، والأب، وفي قلب الأسرة بأكملها. قلوب تترنّح بين الإنكار تارة، والذهول تارة أخرى، يعصف بها الحنين ويكسرها الحزن.

هي قلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، لكن الألم بالغ، والحزن عميق، والتقبّل بعيد المنال. فكيف يمكن للأسرة أن تتعافى بعد فقدان الابن، طفلًا كان أم شابًا؟ وكيف يمكنها أن تتعامل مع مرارة الفقد وتجد طريقها نحو التعافي؟

معنا اليوم الدكتورة دانة المرزوقي مدير إدارة الاستشارات النفسية الأسرية للحديث عن التعافي بعد فقدان الابن.

يتطلب التعافي بعد فقدان الابن اللجوء إلى المختصين النفسيين

ما هو تأثير فقدان الابن على الأم والأب؟

فقدان الابن يُعد من أشد أنواع الفقد تأثيرًا على الصحة النفسية والعاطفية للأسرة، ويترك آثارًا عميقة على جميع من حولهم، لاسيما الوالدين والأشقاء، وتختلف هذه الآثار في شدتها وطبيعتها حسب العمر، الشخصية، النضج، والدعم المتوفر. إليك أبرز التأثيرات النفسية والعاطفية:

أولًا: تأثير فقدان الابن على الوالدين

بحسب البحوث والدراسات العلمية، فإن الوالدين يواجهان مجموعة من المشاعر المعقدة:

  • الحزن الشديد المعقد

قد يستمر الحزن المترتب على فقد طفل أكثر من الطبيعي والذي يمر كما وضح العالم كوبلر روس: الرفض، الغضب، المقايضة، الكآبة، القبول، والتي تستمر لمدة شهرين، الذي لا يزيد عن لفترات طويلة ويعيق القدرة على ممارسة الحياة اليومية.

  • الذنب واللوم

الشعور بالظلم أو الذنب أو اللوم تجاه الظروف أو الذات، خاصة إذا كانت الوفاة ناتجة عن حادث أو مرض مفاجئ، مما يدفع أحد الوالدين أو كليهما إلى لوم النفس وقد يؤدي إلى توتر في العلاقة الزوجية.

  • القلق وفقدان الأمان

شعور بالخوف من المستقبل أو من فقدان أفراد آخرين.

  • المعاناة من أعراض جسدية

مثل متلازمة الصداع، اضطرابات النوم، أو مشاكل في الجهاز الهضمي.

  • تأثيرات نفسية

كالاكتئاب أو اضطراب ما بعد الصدمة، في الحالات التي لا يتم فيها التعامل مع الحزن بشكل صحيًا في الفقد المفاجئ .

ثانيًا: تأثير الفقد على الأشقاء

بحسب د. دانة المرزوقي، يتأثر الأشقاء، خاصة الأطفال والمراهقين بطرق مختلفة مع فقدان الأخ أو الأخت كما يلي:

  • الإصابة بصدمة نفسية، إذ يشعر الطفل أو المراهق بأن عالمه فقد توازنه، وقد يواجه صعوبة في فهم الموت.
  • الخوف من الهجر، خاصة إذا كان الأخوة مرتبطون بشدة بأخيهم أو أختهم المتوفاة.
  • الانعزال أو العدوانية، فقد يُظهر الأشقاء سلوكًا عدوانيًا أو يميلون إلى الانطواء.
  • الشعور بالذنب، أحيانًا يعتقد الأخ أنه سبب في الوفاة، خاصة في الأعمار الصغيرة.
  • تراجع التحصيل الدراسي نتيجة للاضطراب العاطفي وعدم الاستقرار النفسي السائد في الأسرة.
  • اضطرابات النوم أو الأكل، وأعراض جسدية مرتبطة بالحزن.

كيف يمكن للأسرة التعافي بعد فقدان الابن؟

بحسب د. دانة المرزوقي، يمكن للأمور التالية أن تساهم في تحقيق التعافي للأسرة:

  • الدعم من الأهل والأصدقاء لتخفيف الشعور بالوحدة.
  • التدخل النفسي المبكر، واستشارة المختصين من خلال جلسات علاج نفسي فردية أو جماعية.
  • تعزيز الروابط الأسرية عبر الحوار المفتوح والأنشطة المشتركة .
  • توفير بيئة آمنة للأطفال، والانصات إليهم، لمساعدتهم على التعبير عن مشاعرهم دون خوف أو تردد.

ما هي الآليات الصحية للتعامل التي يمكن أن تعتمدها العائلات خلال مرحلة الحزن؟

عند فقدان الابن، تمر العائلات بمرحلة حزن عميقة ومعقدة، وفي ما يلي أبرز الآليات للتعامل مع الحزن بحسب ما ورد في المصادر النفسية:

  • ضرورة الاعتراف بالمشاعر وتقبّلها، فالحزن، الغضب، الذنب، وحتى الصمت، كلها مشاعر طبيعية وصحية، لذا يجب تجنب كبت هذه المشاعر أو الشعور بالخجل منها حيث يُنصح بالاعتراف بها والتعبير عنها.
  • طلب الدعم النفسي والاجتماعي
  • لا يُنصح بمواجهة الحزن منفردين إذا امتد بعد الشهري، لابد من استشارة المختصين.
  • طلب الدعم من الأصدقاء، العائلة، أو المختصين النفسيين يُعد ضروريًا.
  • الرعاية الذاتية الجسدية والنفسية كالاهتمام بالاحتياجات البيولوجية مثل النوم، التغذية لتعزيز التوازن النفسي وإضافة المشي اليومي يعزز ذلك.
  • تجنب اللجوء إلى المسكنات أو الكحول كوسيلة للهروب من الألم.
  • ممارسة التأمل، التنفس الواعي، أو اليوغا تساعد على تهدئة الجهاز العصبي.
  • التعبير الإبداعي عن المشاعر، كالرسم، الكتابة، الموسيقى، أو أي نشاط فني يمكن أن يكون وسيلة فعالة للتنفيس العاطفي. هذه الأنشطة تساعد في تحويل المشاعر إلى طاقة بنّاءة.
  • تنظيم طقوس رمزية لتكريم الذكرى مثل كتابة رسالة، إعداد ألبوم صور، أو تخصيص زاوية في المنزل لذكرى الابن. هذه الطقوس تساعد في الحفاظ على الرابط العاطفي بطريقة صحية.
  • المرونة في التعامل مع الزمن الحزن لا يسير بخط زمني ثابت، وقد تعود المشاعر في مناسبات معينة.
  • تعزيز الحوار داخل الأسرة.
  • تشجيع أفراد الأسرة، خاصة الأطفال، على التعبير عن مشاعرهم.
  • استخدام لغة مناسبة للعمر عند الحديث عن الفقد، وتجنب العبارات الغامضة.
  •  تحويل الألم إلى معنى.
  • النقاش في كيف يمكن أن يصبح الحزن بوابة لاكتشاف ذاتي أعمق، أو دافعًا للمساهمة في المجتمع أو دعم الآخرين.
الدكتورة دانة المرزوقي مدير إدارة الاستشارات النفسية الأسرية
الدكتورة دانة المرزوقي مدير إدارة الاستشارات النفسية الأسرية

ما مدى أهمية إستشارة المختصين في التعامل مع فقدان الابن؟

يعد الدعم النفسي المهني عنصرًا أساسيًا وحاسمًا في مساعدة العائلات على التعامل مع فقدان طفل، لما له من دور مباشر في التخفيف من الآثار النفسية العميقة، وتعزيز القدرة على التكيف والتعافي. الدعم النفسي المهني ليس رفاهية، بل ضرورة إنسانية وصحية في حالات الفقد المعقدة (فقدان مفاجئ، فقدان الفروع)، فهو يساعد العائلات على تجاوز الأزمة، ويمنحهم الأدوات النفسية للتعافي، والتكيف، والاستمرار.

 وتبرز أهمية الدعم النفسي المهني في التعامل مع فقدان الابن في ما يلي:

  • التخفيف من الحزن العميق طويل الأمد.
  • تفكيك المشاعر المعقدة مثل الذنب، الغضب، والإنكار، وخلق مساحة آمنة للتعبيرعنها.
  • الوقاية من اضطرابات نفسية خطيرة كالوقاية من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
  •  دعم العلاقة الزوجية والأسرية، لأن الاستشارة الزوجية أو الأسرية تساعد في إعادة بناء التواصل وتخفيف الضغوط.
  • مساعدة الأشقاء على التعبير والتكيف، فالأطفال قد لا يعرفون كيف يعبرون عن مشاعرهم، مما يؤدي إلى سلوكيات غير مفهومة أو اندفاعية.
  • الدعم النفسي يساعدهم على فهم الفقد والتعبير عنه بطريقة صحية، ويمنع تطور مشكلات سلوكية أو تعليمية.
  • تعزيز التعافي وإعادة بناء الحياة، ذلك أن العلاج النفسي لا يهدف فقط إلى تخفيف الألم، بل إلى إعادة بناء المعنى والهدف بعد الفقد.
  • كسر العزلة والشعور بالوحدة.

من خلال خبرتكم، ما هي أبرز المشاعر التي يمر بها الوالدان بعد فقدان طفل، وكيف يمكنهم التعامل معها؟

من خلال الخبرة النفسية والميدانية، يمر الوالدان بعد فقدان طفل بسلسلة من المشاعر العميقة والمعقدة، تختلف في شدتها من شخص لآخر، لكنها تشترك في كونها مؤلمة ومربكة. إليك أبرز هذه المشاعر، وكيف يمكن التعامل معها بشكل صحي:

أبرز المشاعر التي يمر بها الوالدان:

  • الصدمة والإنكار، في البداية، قد يرفض العقل تصديق ما حدث، ويعيش الوالدان حالة من الذهول أو الانفصال عن الواقع.
  • الحزن العميق، شعور بالخسارة الوجودية، وقد يصاحبه بكاء مستمر، فقدان الشهية، واضطرابات النوم.
  • الشعور بالذنب.
  • الغضب.
  • الخوف والقلق
  • الفراغ واللا معنى
  • التقبل
  • التعافي

ويمكن التعامل مع هذه المشاعر عن طريق :

  • الاعتراف بالمشاعر وعدم كبتها.
  • طلب الدعم النفسي المهني.
  • العلاج النفسي أو الاستشارة تساعد في تنظيم المشاعر، وتقديم أدوات للتعامل معها.
  • الحديث مع من مروا بتجربة مشابهة.
  • مجموعات الدعم توفر شعورًا بالأمان والانتماء، وتقلل من الشعور بالوحدة.
  • الاحتفاظ بذكرى الطفل بطريقة صحية مثل كتابة رسالة، أو تخصيص ركن في المنزل، أو المشاركة في أعمال خيرية باسمه.
  • الاهتمام بالصحة الجسدية، النوم، التغذية، والمشي اليومي لها تأثير مباشر على التوازن النفسي.
  • المرونة في التعامل مع الزمن لا يوجد "وقت مثالي" للتعافي بعد الفقد المعقد فكل شخص له مساره الخاص، ويجب احترام ذلك.
  • تعزيز العلاقة الزوجية والأسرية، التواصل المستمر، وتفهم اختلاف طرق الحزن بين الزوجين، يساعد في تجاوز الأزمة معًا.

كيف يمكن لأفراد الأسرة دعم بعضهم البعض دون أن يزيدوا من ألم بعضهم عن غير قصد؟

دعم أفراد الأسرة لبعضهم البعض بعد فقدان الابن هو أمر بالغ الأهمية، لكنه يحتاج إلى حساسية عالية وتوازن دقيق، حتى لا يتحول الدعم إلى ضغط أو يزيد من الألم دون قصد. إليك أبرز الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق ذلك:

  • احترام اختلاف طرق الحزن

 كل فرد في الأسرة يعبر عن حزنه بطريقة مختلفة: البعض يبكي، البعض يصمت، وآخرون ينشغلون بالعمل. من المهم عدم الحكم على طريقة الآخر في الحزن، بل احترامها وتقبلها

  • التواصل المفتوح والرحيم

تشجيع أفراد الأسرة على التعبير عن مشاعرهم دون خوف من اللوم أو التقليل، واستخدام عبارات مثل:

"أنا هنا إذا أردت الحديث"، "أشعر بما تمر به، ولا أريد أن أضغط عليك"

  • تجنب العبارات المؤلمة رغم حسن النية

مثل: "عليك أن تكون قويًا"، أو "على الأقل لديك أطفال آخرون"، أو "الزمن كفيل بالنسيان". هذه العبارات قد تُشعر الطرف الآخر بعدم فهم مشاعره، أو أنها غير مشروعة.

  • تقديم الدعم العملي والعاطفي

مثل المساعدة في المهام اليومية، أو تقديم وجبة، أو الجلوس بصمت بجانبهم. أحيانًا الوجود الصامت يكون أكثر دعمًا من الكلام، وتخصيص وقت مشترك للأسرة، وممارسة نشاط بسيط مثل المشي، مشاهدة فيلم، أو تناول وجبة معًا.هذه اللحظات تعزز الروابط وتخفف من الشعور بالعزلة.

  • طلب الدعم الخارجي عند الحاجة

إذا لمس الأصدقاء أن الحزن بدأ يؤثر على العلاقات أو الحياة اليومية، فالدعم النفسي المهني ضروري.، لذا يجب اللجوء إلى الخبراء المعنيين لمساعدة الأسرة على التعافي.

ما الدور الذي تلعبه شبكة الدعم المجتمعي والاجتماعي في مساعدة العائلات على التعافي؟

شبكة الدعم المجتمعي والاجتماعي تلعب دورًا محوريًا في مساعدة العائلات على التعافي بعد فقدان طفل، حيث توفر بيئة حاضنة، آمنة، ومتفهمة تساعد في تخفيف الألم النفسي وتعزيز التكيف. كما تُعد امتدادًا طبيعيًا للأسرة، وتلعب دورًا جوهريًا في احتواء الألم، وتوفير الأمان، وتعزيز التعافي. الاستثمار في هذه الشبكات هو استثمار في الصحة النفسية للمجتمع ككل.

في ما يلي أبرز الأدوار التي تلعبها هذه الشبكة:

  • كسر العزلة وتخفيف الشعور بالوحدة، لأن الفقد قد يُشعر العائلة بالعزلة والانفصال عن المجتمع.
  • وجود شبكة دعم من الجيران، الأصدقاء، أو مجموعات الدعم المجتمعية يساعد في إعادة الاندماج الاجتماعي وتخفيف الشعور بالوحدة.
  • توفير الدعم العاطفي غير الرسمي، فالتفاعل اليومي مع أفراد المجتمع يمكن أن يكون مصدرًا للراحة النفسية، كلمات التعاطف، الزيارات، والمشاركة في الطقوس الرمزية تُشعر العائلة بأنها محاطة بالاهتمام والرعاية.
  • تعزيز الوصول إلى الخدمات النفسية، الشبكات المجتمعية تساعد في توجيه العائلات إلى الجهات المختصة، مثل مراكز العلاج النفسي أو الجمعيات المتخصصة.
  • دعم الأطفال والشباب داخل الأسرة، المجتمعات الواعية تقدم برامج مخصصة للأطفال المتأثرين بالفقد، والتي تساعدهم على التعبير عن مشاعرهم والتكيف بطريقة صحية. مثلًا، تقدم بعض الجمعيات جلسات دعم نفسي للأطفال في حالات الطوارئ.
  • بناء المرونة النفسية الجماعية، لأن الدعم المجتمعي لا يقتصر على تقديم المساعدة، بل يُسهم في تعزيز قدرة العائلات على التكيف، وإعادة بناء حياتهم بعد الأزمة.
  •  تقليل الوصمة المرتبطة بالحزن أو العلاج النفسي، لأنه عندما يكون الدعم النفسي جزءًا من الثقافة المجتمعية، تقل الوصمة المرتبطة بطلب المساعدة.

خلاصة القول:

فقدان الابن ليس حدثًا يُنسى، لكنه تجربة يمكن التعايش معها بوعي ودعم. ومع الوقت، وبوجود شبكة مساندة من الأهل والأصدقاء، وبمساعدة المختصين النفسيين، تستطيع الأسرة أن تجد طريقها إلى التقبّل والتعافي. فالحزن لا يعني الضعف، وطلب المساعدة ليس نقصًا في الإيمان، بل هو شجاعة إنسانية واعتراف بحق القلب في الرعاية.

إلى كل أم فقدت ابنها طفلًا كان أم شابًا 

اعلمي أن الحزن الذي يسكن قلبك ليس ضعفًا، بل حبٌّ كبير لم يجد مكانًا يذهب إليه.

ابنكِ لم يغب عنكِ، بل غاب عن عينيك فقط، أما روحه فستبقى تحيط بكِ بنورها، في دعائكِ، وفي ذكرياتكِ، وفي كل خير تفعلينه من أجله.