
عصر الفورية وجيل لا يعرف الانتظار.. التأثيرات النفسية على الأجيال المعاصرة
السرعة التي نحيا بها اليوم أصبحت مخيفة للغاية؛ بضغطة زر نتواصل مع الآخرين في أي بقعة من بقاع الأرض، وبلمسة شاشة تُلبى رغباتنا. لقد باتت الفورية سمة أساسية للعصر الحالي، البعض ينظر إليها على أنها ميزة كبيرة، ويربطون بينها وبين سهولة الحياة. الحقيقة أنها ليست ميزة لأنها أدت إلى تغيير شكل العلاقات، وأثرت على الوعي، خصوصًا وعي الأطفال والأبناء الذين كبروا على عصر السرعة، ذلك العصر الذي جعلنا جميعا نفقد قيمة الصبر والقدرة على التمهل، ما أفقدنا توازنا النفسي وسلامنا الداخلي.
لأهمية هذا الموضوع، نتناول اليوم مفهوم الفورية وجذورها في عصر التكنولوجيا ليكون لنا مرجعًا أساسيًا لحماية أطفالنا من مخالبها الفتاكة التي تفتك بأسمى القيم الانسانية والمعايير الأخلاقية التي تربى عليها أجيال من خلال لقائنا بـ "زهى زبير"، ماجستير في العلوم النفسية بمركز ثريف للصحة النفسية.
ماذا يقصد بالفورية؟
الفورية هي فلسفة حياتية جديدة فرضها علينا التطور الرقمي الهائل فرضًا. فقد أصبح الحصول على أي شيء أمرًا فوريًا، ليس فقط في محيط التسلية، ولكن أيضًا من حيث المعرفة، والعلاقات الإنسانية. يمكن القول بأن الفورية أصبحت إدمانًا غير مرئيًا للبحث عن الإشباع اللحظي دون انتظار أو جهد.
هل جعلت الفورية من الصعب على الأبناء التعامل مع عدم اليقين وتحقيق الأهداف طويلة المدى؟
لقد أثرت ثقافة الفورية بالتأكيد على الشباب وطريقتهم في التعامل مع الضغوط. من طبيعة البشر السعي وراء المكافأة وتجنب الألم، لكن المشكلة تظهر عندما يتضخم هذا التوجه كما هو الحال في زمن "كل شيء فوري". لم نعد نضطر للانتظار كثيرًا. فقد بات التسوق عبر الإنترنت، الرسائل الفورية، حلقات التغذية الراجعة السريعة على وسائل التواصل الاجتماعي، والدورات القصيرة "الماستر".
كل هذا يُشكل تحديًا حقيقيًا عندما يتعلق الأمر بمهارات حياتية أساسية مثل: الصمود، والمثابرة، وتحمل الإحباط، والصبر، والقدرة على تأجيل الإشباع.
ومع تعوّدنا المتزايد على الفورية ونفاد الصبر، تصبح المهارات الأساسية مثل تحمل عدم اليقين، والجلوس خلال فترات من الانزعاج، والالتزام بأهداف طويلة المدى بطيئة النمو، أكثر صعوبة.
وغالبًا ما نقلل من أهمية الفشل أو عدم الحصول على ما نريد، وبدلاً من ذلك أصبحنا نريد النتائج ونريدها فورًا!
مثال كلاسيكي ساقته لنا "زهى زبير" على الفرق بين الإشباع الفوري والمؤجل هو تجربة مارشميلو ستانفورد الشهيرة، حيث تم اختبار قدرة الأطفال على تأجيل الإشباع من خلال منحهم خيارًا بين تناول قطعة مارشميلو واحدة فورًا، أو الانتظار لفترة والحصول على اثنتين. وأظهرت الدراسة أن من استطاعوا الانتظار كانت لديهم نتائج أفضل في حياتهم لاحقًا. هذا يسلط الضوء على الفوائد طويلة الأمد للقدرة على التحكم بالذات في عالم أصبح مدفوعًا بشكل متزايد بالمكافآت الفورية.
هل تؤثر الإعجابات والردود الفورية على تقدير الشباب لذاتهم وعلاقاتهم؟
إن الطريقة التي تتفاعل بها الإعجابات الفورية مع الدماغ مذهلة ، فكل إعجاب يمنحنا دفعة صغيرة من الدوبامين (المادة الكيميائية المرتبطة بالشعور بالسعادة)، لكن هذا التأثير قصير الأمد.
والأمر المقلق هو أنه نظرًا لطبيعة وسائل التواصل الاجتماعي، لا يوجد حد لهذا الأمر. يمكننا النشر بقدر ما نشاء ومواصلة السعي وراء تلك المكافآت الكيميائية، وأن نستمر في "تغذية أدمغتنا" بهذا التقدير الخارجي المُتصوّر، وأحيانًا بشكل غير سليم، نجعل منه المصدر الرئيسي لتحديد قيمة الذات.
وعندما لا يأتي هذا التقدير فورًا (أو لا يأتي على الإطلاق)، يكون الأمر محبطًا بعمق، ويُشعرنا وكأنه فشل شخصي. لذا علينا أن نتذكر أن كل هذا إدراك سطحي، مما يمنعنا من تطوير أنظمة داخلية قوية وأساسية لبناء تقدير الذات.
هذا يمكن أن يكون مؤذيًا للغاية، إذ يجعلنا أكثر عرضة لعدم الاستقرار العاطفي، ويعيقنا عن العمل الداخلي العميق اللازم لبناء هويتنا الحقيقية.
وبالمثل، في عصر الردود الفورية، نحن نضع توقعات غير واقعية حول التوفر الدائم في العلاقات.
رسالة واحدة غير مُجابة قد تؤدي إلى أفكار مثل: "إنه لم يعد يحبني" وتثير القلق وكثرة التفكير.
العلاقات تُبنى على الثقة، والتواصل المتعمد، والجهد المستمر – وليس فقط على ردود الأفعال السريعة، والرموز التعبيرية، والبقاء متصلًا دائمًا.
ما هي التأثيرات العصبية للمكافآت قصيرة المدى مقابل الرضا طويل المدى؟
بحسب "زهى زبير"، تشير دراسة أُجريت عام 2023 على يد "بروك وسانتوس" من جامعة ميكدلا أمبا إلى أن الإشباع الفوري مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنظام المكافأة في الدماغ، وخصوصًا إطلاق الدوبامين. بحيث توضح هذه الدراسة أنه في كل مرة نتلقى فيها إعجابًا، أو رسالة، أو إشعارًا، يحصل دماغنا على دفعة صغيرة من الدوبامين.
وهذا يُنتج دورة من التعلّق نبدأ فيها بالسعي وراء هذه الاستجابات الفورية أكثر فأكثر، غالبًا دون أن ندرك ذلك. ومع مرور الوقت، يمكن لهذا السعي المستمر وراء المكافآت السريعة أن يجعل من الصعب علينا التركيز، أو تحمل التأجيل، أو العمل نحو أهداف طويلة المدى.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن اتباع نمط الإشباع الفوري باستمرار، يُرسل إشارات إلى قشرة الفص الجبهي في الدماغ (وهي المسؤولة عن التحكم الذاتي، والتخطيط، واتخاذ القرار) بالتراجع عن القيادة، لأننا لا نمارس هذه المهارات بما يكفي. فيزداد الدماغ قوة كلما استخدمناه.
إذا كنا نُخبر أنفسنا باستمرار بأننا لا نحتاج إلى الانتظار للحصول على المكافأة، فإننا نُغيّر مسارات المكافأة في الدماغ ونتعوّد على الحصول الفوري على ما نريد.
ومع مرور الوقت، تصبح هذه العادة من الصعب تغييرها لأنها تصبح متجذرة بعمق في طريقة عمل الدماغ.
كيف يمكن للآباء والمُعلمين تعزيز القدرة على تأجيل الإشباع وتنظيم المشاعر؟
إن الوعي بالفرق بين الإشباع الفوري والمؤجل يمكن أن تكون قوية ومفيدة جدًا.من المهم أن يفهم الآباء والمُعلمون والمتخصصون في الصحة النفسية هذا المفهوم، ويفضل أن يمارسوه بأنفسهم، ويساعدوا الشباب على اكتسابه.
وبالنظر إلى طبيعة بيئتنا الحالية، فنحن نقترب شيئًا فشيئًا من المزيد من الإشباع الفوري، لذا فإن أبسط الخطوات تُحدث فرقًا.
-
مدح النجاح بعد الجهد
مدح الجهد المبذول بدلاً من النجاح الفوري على سبيل المثال: مدح الجهد الحقيقي الذي بُذل في الدراسة لامتحان ما، بدلاً من النجاح النهائي بغض النظر عن الطريقة التي تم الوصول بها إليه.
-
تشجيع الصبر والتعريف يقيمته
تشجيع الصبر من خلال تحديد أهداف صغيرة قابلة للتحقيق مثل: وضع أهداف أسبوعية لتوفير المال من أجل شراء لعبة أو جهاز جديد بدلاً من طلبه فورًا عبر الإنترنت.
-
خلق بيئة آمنة ومشجعة
خلق بيئة آمنة لتجربة الانزعاج وتطوير القدرة على التحمل من خلالها مثل:
- ألعاب تركيب الصور (puzzles)، الليغو، تشجيع الشباب على خوض "محادثات شجاعة" (صعبة)، أو حث المراهقين على الاستمرار في هواية لا تحقق لهم نتائج فورية.
- تطبيع وتأكيد مشاعر الإحباط، ومنح مساحة للشعور بها، ومشاركة تجارب الكبار الشخصية في الإحباط عندما يكون مناسبًا.
- أن يكون الكبار نموذجًا في اتخاذ قرارات هادئة ومدروسة.
- دمج أنشطة تساعد على ضبط النفس مثل: تحديد وقت استخدام الأجهزة، والقراءة، والزراعة، أو اللعب الإبداعي.
خلاصة القول:
لقد منحتنا الفورية سرعة الوصول، لكنها سلبت منا متعة المسير بعد بذل الجهد، وهذا يؤثر على الأبناء والأطفال وجيل الشباب بشكل عام. إن الفورية ليست قدرًا، بل خيارًا يحتاج إلى وعيٍ يضبطه، حتى لا يتحول التقدم إلى عبء يشغل العقول ويثقل النفوس.