المخرجة الإماراتية نايلة الخاجة

خاص "هي": فيلمها يصنع التاريخ.. المخرجة نايلة الخاجة تفتح "باب" السينما الإماراتية للعالم

جويل تامر
6 نوفمبر 2025

بفيلمها الجديد "باب"، تصنع المخرجة الإماراتية نايلة الخاجة التاريخ من جديد، لتُصبح أول مخرجة إماراتية يُعرض لها فيلم طويل في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، أقدم المهرجانات السينمائية العربية وأحد أبرزها عالمياً. إنجازٌ يتجاوز حدود العرض نفسه، ليُشكّل محطة مفصلية في مسيرة السينما الإماراتية ومسارها نحو العالمية.

يأخذ فيلم "باب" مشاهديه في رحلةٍ نفسية غامرة، حيث تمتزج الحواس بالحزن، ويذوب الخط الفاصل بين الواقع والخيال. تدور أحداثه على قمم جبال رأس الخيمة، في أجواءٍ سوداوية تتأمل وجع الفقد من منظورٍ إنساني عميق، وتحوّل الألم إلى تجربة بصرية وسمعية ساحرة. ويحمل الفيلم توقيع الموسيقار العالمي "إيه. آر. رحمان" A.R. Rahman الحائز على جائزتي أوسكار، في أول تعاونٍ له مع فيلم عربي، بدعم من وزارة الثقافة الإماراتية ومن إنتاج سلطان سعيد الدرمكي.

1

نايلة الخاجة، التي تُعدّ أول كاتبة ومخرجة ومنتجة إماراتية، كرّست مسيرتها لتحدي الصور النمطية، وصياغة لغة سينمائية تعكس نبض المجتمع الإماراتي بجرأةٍ وحسٍّ إنساني عالٍ. فمنذ بداياتها بأفلام قصيرة مثل Sweet Sixteen و Arabana التي حصدت جائزة "أفضل مخرجة" في مهرجان دبي السينمائي عام 2007، مروراً بأفلامها التي اقتنتها منصة "نتفليكس" مثل Animal وThe Shadow، وصولاً إلى فيلمها الروائي الأول Three، تواصل الخاجة تقديم أعمالٍ تخوض في أعماق النفس البشرية، وتطرح أسئلة الهوية، والذاكرة، والتحوّل.

أما "باب"، فيُجسّد امتداداً لهذه الرؤية، بوصفه عملاً فنياً يختبر حدود الصوت والصمت، ويجعل من الفقد مساحةً للتأمل والجمال. هو فيلم إماراتي بروحٍ عالمية، يعبّر عن نضوج الحركة السينمائية في الدولة، وعن حضور المرأة الإماراتية في قلب المشهد الإبداعي.

بهذا العمل، تفتح نايلة الخاجة باباً جديداً أمام السينما الخليجية، باباً تُروى من خلاله القصص المحلية بلغةٍ إنسانيةٍ كونية، تُلامس القلب وتبقى في الذاكرة طويلاً.

2

اليكم هذا الحوار الخاص مع المخرجة الإماراتية نايلة الخاجة..

نحتفي اليوم بفيلمكِ "باب" باعتباره نقطة تحوّل في مسار السينما الإماراتية المستقلة. ما الذي يعكسه هذا الحدث برأيك حول مستقبل صناعة الأفلام في الإمارات — إبداعيًا وعالميًا؟

إنها لحظة خاصة جدًا، ليست لي وحدي، بل لكل صنّاع السينما الإماراتيين الذين عملوا بصبر على بناء أساس هذه الصناعة لسنوات طويلة. لطالما نُظر إلينا كموقع تصوير فقط، مكان يأتي الآخرون ليصوّروا فيه. لكن "باب" غيّر هذه المعادلة. إنه دليل على أننا بتنا نصدر صوتنا الخاص، لا مجرد مشهدنا الطبيعي. أرى أن السينما الإماراتية تتجه نحو سرد أكثر جرأة وخصوصية وشاعرية بصرية، أفلام قادرة على الوقوف بثقة على الساحة العالمية، مع الحفاظ على جذورها المحلية.

عنوان الفيلم "باب" يحمل رمزية عميقة. ما هو "الباب" الذي فتحه لكِ هذا العمل على المستوى الشخصي والفني والإنساني؟

بالنسبة إليّ، كان "باب" بمثابة باب نحو اللاوعي، لا وعيي أنا ولا وعي الشخصية التي أجسّدها. سمح لي بمواجهة مواضيع كنت أتجنبها: الحزن، الذنب، الصمت، والطريقة التي يظلّ فيها الأثر النفسي بعد الألم. كامرأة، فتح لي بابًا نحو الهشاشة، نحو إدراك أن القوة لا تعني السيطرة، بل السماح لنفسك بأن تشعري بكل شيء. خرجت من باب شخصًا مختلفًا عمّا كنت عليه حين دخلته.

يحوّل الفيلم الحزن إلى رحلة سريالية في أعماق النفس. ما الذي جذبكِ إلى هذا الموضوع، وإلى أي مدى استلهمتِه من تجاربك الشخصية مع الفقد أو التحول العاطفي؟

لطالما فتنتني فكرة الصمت. ففي ثقافتنا، الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام. أردت أن أستكشف ما يحدث داخل هذا السكون، المسافة بين الألم والشفاء. مثل كثيرين، عشت تجربة الفقد، وتعلمت أن الحزن لا يسير بخط مستقيم، بل يدور في دوائر، يغيّر شكل الواقع، وقد يبدو خارقًا أحيانًا. "باب" هو محاولتي لترجمة تلك التجربة اللامرئية إلى لغة بصرية وملموسة، حيث يلتقي الصوت بالضوء بالعاطفة.

3

بصفتك أول مخرجة إماراتية تُعرض لها أعمال في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يحمل هذا الحدث رمزية كبيرة. ماذا يعني لكِ الوقوف في القاهرة، مهد السينما العربية؟

إنه شعور مؤثر للغاية. القاهرة هي المكان الذي وُلدت فيه السينما العربية، والوقوف هناك بفيلم إماراتي ناطق بالعربية، مصوَّر في جبالنا، ويحمل منظور امرأة، هو لحظة تكتمل فيها الدائرة. بالنسبة إليّ، هو أكثر من إنجاز شخصي، إنه تأكيد ثقافي يقول: "نحن هنا، ونشارك في صياغة اللغة السينمائية العربية". أشعر بفخر عميق أن أكون جزءًا من هذه اللحظة في تاريخ السينما الإماراتية.

تصفين أعمالك بأنها لا تعتمد على المشهدية البصرية بقدر ما تغوص في الأعماق النفسية، في الصوت والصمت وما بينهما. كيف تترجمين المشاعر إلى لغة سينمائية؟

أؤمن أن السينما تبدأ من اللامرئي. ما يهمني ليس ما تُظهره الكاميرا، بل ما توحي به. المشاعر تُنقل من خلال الإيقاع، كيف يتنفس المشهد، كيف يبهت الصوت، كيف ينعكس الضوء على وجه الشخصية. غالبًا ما أُقلل من الحوار لأمنح الصمت الدور الأكبر. عندما يشعر المشاهد بشيء لا يستطيع تفسيره بالكلمات، عندها أعلم أن لغة السينما نجحت.

جمع فيلم "باب" أسماء عالمية مثل الموسيقار A.R. Rahman ومدير التصوير Rogier Stoffers. كيف أثّرت هذه الشراكات على روح الفيلم وإيقاعه الحسي؟

موسيقى A.R. Rahman كانت بمثابة نبض الفيلم. فهم منذ البداية أن "باب" لا يتحدث عن اللحن، بل عن العاطفة المتخفية في الصوت. موسيقاه لا ترافق القصة بل تسكنها. أما Rogier Stoffers ، فكان يرسم بالضوء، استخدم اللون والملمس ليمنح الفيلم جمالًا يتأرجح بين الحميمي والملحمي. معًا، حملا العمل إلى مستوى جديد، وجعلا العاطفة ملموسة كما لو كانت مادة يمكن لمسها.

تصميم الصوت في الفيلم، خصوصًا استخدام طنين الأذن كعنصر سردي، بدا شديد الخصوصية. كيف تعاملتِ مع الصوت لتعكسي الحالة النفسية للبطلة؟

الصوت هو العمود الفقري لفيلم باب. طنين الأذن بالنسبة إليّ رمز للحزن، ذلك الضجيج الذي لا يمكن إيقافه، صوت الذاكرة الرافضة للزوال. تعاملنا معه ككائن حي يتغيّر مع مشاعر البطلة، أحيانًا يكون خافتًا، وأحيانًا خانقًا. عملتُ مع فريق الصوت على أن يكون كل تردّد شعوريًا لا تقنيًا فقط. لا يسمع المشاهد الصوت فحسب، بل يشعر بألمها من خلاله.

تتناول أفلامك دومًا التوازن بين الجمال وعدم الراحة، بين الضوء والعتمة، بين السكينة والخوف. ما الذي يجذبكِ إلى هذا الجانب النفسي المظلم من الطبيعة البشرية؟

أؤمن أن الجمال الحقيقي لا يخلو من ظل. يدهشني التناقض، كيف يمكن أن يسكن الخوف داخل الحب، والألم داخل الحنان. لا أرى الظلام سلبيًا، بل أعتبره الجزء الأكثر صدقًا في الإنسان. دوري كمخرجة ليس أن أجعل المشاهد مرتاحًا، بل أن أجعله يشعر بشيء حقيقي. النفس البشرية هي أكثر المناظر السينمائية غنى وإلهامًا.

كامرأة مخرجة من الخليج، تمشين في أعمالك بين التأمل الثقافي والعاطفة الإنسانية الشاملة. كيف تحافظين على هذا التوازن بين الأصالة المحلية والتأثير العالمي؟

المسألة كلها تتعلق بالصدق. حين تكون القصة صادقة عاطفيًا، تصبح عالمية تلقائيًا. لا أحاول "شرح" ثقافتي، بل أدعو الآخرين إلى الدخول فيها. أريد لأفلامي أن تكون محددة بما يكفي لتبدو حقيقية، وإنسانية بما يكفي لتُفهم في أي مكان. الأصالة هي الجسر بين المحلي والعالمي.

في "باب" تلعب جبال رأس الخيمة تحديدًا، دور الشخصية الصامتة. ماذا تمثل لكِ هذه الطبيعة كمخرجة وكامرأة إماراتية؟

جبال رأس الخيمة تحمل صمتًا قديمًا، صمتًا حيًا ومترقبًا ومفعمًا بالروحانية. ليست مجرد خلفية في الفيلم، بل نبضه. بالنسبة إليّ، هذه الجبال تمثل الصمود والغموض، طبقاتها تشبه تضاريس النفس البشرية في مواجهة الحزن والتحول. كامرأة إماراتية، أراها مرآة لهويتنا: قوية، راسخة، شكّلها الزمن لكنها ما زالت منفتحة على السماء. في باب، تعكس الجبال رحلة البطلة الداخلية، تحتضن مخاوفها وذكرياتها ويقظتها في النهاية. قوتها الهادئة تذكرني أن السكون أحيانًا أبلغ من الحركة.

5

قالت "فرجينيا وولف": "على المرأة أن تمتلك غرفة خاصة بها لتكتب الخيال". ما هي "غرفتك" أنتِ، المكان أو الحالة التي تولد فيها إبداعاتك؟

"غرفتي" هي حالة من العزلة. تلك اللحظة الهادئة قبل أن يستيقظ العالم، حين تكون الأفكار بلا وزن. غالبًا ما تأتيني الإلهامات أثناء القيادة، أو الرسم، أو مراقبة تغير الضوء في السماء. أحتاج الصمت لأستمع إلى الأفكار قبل أن تتخذ شكلًا. هناك يبدأ كل شيء بالنسبة إليّ، في السكون.

النساء في أفلامك معقّدات، يجمعن بين الهشاشة والقوة. كيف تطوّرت رؤيتك للنفس الأنثوية عبر مسيرتك السينمائية؟

مع كل فيلم، أكتشف طبقة جديدة. النساء يحملن التناقض بجمال، يمكن أن نكون قويات ومترددات، مكسورات لكن لا نتوقف. شخصياتي غالبًا انعكاس لحقائق عاطفية عشتها أو شهدتها. تعلمت مع الوقت أن تصوير المرأة بصدق لا يعني جعلها مثالية، بل السماح لها بأن تكون إنسانًا بكل جوانبها.

بعد "باب"، أي "باب" ترغبين في فتحه بعد ذلك، فنيًا أو شخصيًا؟

باب كان مدخلًا إلى اللاوعي، إلى الألم والتحول. أما الباب التالي فسيكون نحو النور، نحو الولادة الجديدة. أريد أن أستكشف فكرة الصمود، كيف تُرمم الروح نفسها بعد الفقد. على المستوى الشخصي، أشعر أني مستعدة لقصص تربط بين الجمال والبقاء. السينما بالنسبة إليّ لا تزال ممرًا طويلًا من الأبواب… وما زلت في بدايته.