الفنانة صفية بن زقر مع لوحة (الزبون) عام 1969

محطات في مسيرة أم الفن.. صفية بن زقر

شروق هشام
12 سبتمبر 2025

عند الحديث عن تاريخ الفنون في السعودية وعن مسيرة الفن التشكيلي السعودي، تظل الفنانة الرائدة صفية بن زقر علامة فارقة واسمًا مضيئا في سجل الإبداع الفني والثقافي، لما قدّمته من إسهامات رائدة خلال مسيرتها الغنية، والتي تعد مرجعا للتأمل في إرث فني وثقافي حفظ ملامح التراث السعودي بعدسة نسائية سبّاقة، تاركة وراءها إرثا لا يُنسى.. وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيلها، لنلقي الضوء على محطات مضيئة من رحلتها التي امتدت لعقود والتي صنعت حضورها كأيقونة للفن السعودي، التي نسجت بريشتها ذاكرة الوطن الفنية.

أول معرض فني للفنانة صفية بن زقر

لوحة (الزبون) التي رسمتها في عام 1969
لوحة (الزبون) التي رسمتها في عام 1969

تعد الفنانة "صفية بن زقر" الحاصلة على شهادة في فن الرسم والجرافيك من كلية "سانت مارتن" للفنون بلندن، وعلى دبلوم "دي إكسيلانس" من جرولا دارا بإيطاليا، من أوائل الفنانات السعوديات اللواتي تلقين تعليما أكاديميا في فن الرسم ومن الأوائل اللواتي أقمن معارضا خاصة بأعمالهن الفنية، ولقد بدأ مشوارها الفني الطويل بأول معرض لها في عام 1968 أقامته في مدرسة دار التربية الحديثة بجدة، ويعتبر هذا المعرض تجربة ناجحة خاضتها الفنانة صفية بمجهودها الخاص في تحضير موقع العرض حيث لم تكن هنالك صالات عرض متخصصة في تلك الآونة، فقامت بتجهيز مدرسة البنات الخاصة على مستوى قاعات العرض في الخارج وعلى قدر الإمكانات المتاحة حين ذاك.

وبعد النجاح الكبير لمعرضها الأول، توالت معارضها المحلية التي أقامتها في مدينة الرياض وجدة والظهران والجبيل والمدينة المنورة وينبع وأبها، كما أقامت معارضها الدولية في كل من باريس وجنيف ولندن حتى أصبح لها حصيلة ثمانية عشر معرضاً شخصياً، وستة معارض جماعية، عرفت من خلالها صفية بن زقر كفنانة التراث السعودي محلياً ودولياً.

تجسيد الثقافة والتاريخ من خلال الفن

لوحة (النصة) عام 1975  ضمن مجموعة الزفاف
لوحة (النصة) عام 1975  ضمن مجموعة الزفاف

جسدت الفنانة صفية بن زقر الثقافة والتاريخ من خلال الفن، حيث تميزت باختيار موضوعات تراثية مرتبطة بالنساء وعاداتهن، ورسمت التفاصيل الحياتية الدقيقة في الحجاز ومظاهر العادات والتقاليد الشعبية، كما وثقت الحرف اليدوية والموسيقى والأزياء التراثية، فمنذ المراحل الأولى لعلاقة الفنانة صفية بن زقر في الفن، تنبهت إلى التغيير الكبير في صور الحياة اليومية التقليدية مما حفزها على الاهتمام بتوثيق التراث عبر لوحاتها الفنية التي كرستها لهذا الهدف، وأخذت على عاتقها مهمة توثيق التراث من مصادره الأساسية لتصبح أعمالها الفنية سجلاً مرئياً حافلاً بتاريخ الماضي وبما اندثر منه مع موجات الحياة العصرية وما أحدثته من تطور في أنماط الحياة التقليدية، وعلى الرغم من إحساسها بأهمية توخي الصدق والأمانة في نقل التراث المندثر إلى الأجيال القادمة بدقة متناهية، إلا أن لوحاتها تعكس أيضاً مشاعر الفنانة وأحاسيسها، فالحب يشع من كل لوحة، والحنين إلى الماضي ينطق من بين زواياها، والاعتزاز والتقدير لكل الطقوس الاجتماعية واضح في طريقة عرضها وفي مساحاتها وألوانها الزاهية.

أبرز المعارض العالمية في مسيرة الفنانة صفية بن زقر

الفنانة صفية بن زقر مع لوحة (الزبون) عام 1969
الفنانة صفية بن زقر مع لوحة (الزبون) عام 1969

كانت الفنانة صفية بن زقر قد وصلت إلى العالمية وأقامت معارض شخصية في كل من لندن وباريس وجنيف عام 1980م، حيث أقامت معرضا شخصيا في جاليري باترك سيل في لندن، ومعرضا أخر في جاليري دورون في باريس، وكذلك معرضا شخصيا في جاليري دي آرت دي فيشن في جنيف، فكانت من أوائل الفنانات اللواتي أسهمن في تعريف المجتمع العالمي بالرؤى الفنية السعودية الإبداعية.

زيارة ملك أسبانيا الملك خوان كارلوس لدارة صفية بن زقر

زيارة ملك أسبانيا الملك خوان كارلوس لدارة صفية بن زقر
زيارة ملك أسبانيا الملك خوان كارلوس لدارة صفية بن زقر

حظيت الفنانة الراحلة بتقدير عالمي خاص عندما قام الملك خوان كارلوس ملك اسبانيا خلال زيارته للمملكة العربية السعودية، بزيارة دارة صفية بن زقر لحضور معرض الأزياء التقليدية الذي افتتح في 26 مايو 2008، وكان قد صاحبة اثناء الزيارة أيضا وزير الثقافة والإعلام الدكتور إياد مدني ووكيل وزارة الشؤون الثقافية الدولية الدكتور أبو بكر باقادر والشيخ محمد بن زقر والأستاذ هشام العايش، فيما قدمت الفنانة صفية بن زقر في نهاية الزيارة كتبها وأحد أطباقها الخزفية التي تحمل لوحة الزبون هدية للملك، والذي حرص قبل أن يغادر الدارة على التوقيع في سجل الزوار وكتب فيه تقديره للجميع.

وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى للفنانة صفية بن زقر

(درزة) المشروع البحثي الأخير الذي عملت عليه الفنانة صفية بن زقر
(درزة) المشروع البحثي الأخير الذي عملت عليه الفنانة صفية بن زقر

تشرفت الأستاذة صفية بن زقر بتسلم وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى من يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز-حفظه الله- ضمن افتتاح مهرجان الجنادرية 31 لعام 2017م، تقديرا لفنها ودورها في حفظ التراث السعودي، وعدَت الفنانة صفية رحمها الله هذا التكريم شرفا كبيرا وتقديرا عظيما لمسيرتها الفنية وما قد قدمته للفن في المجتمع من دراسات وأبحاث، إضافة إلى مكتبة ثرية على المستوى الأدبي والفني لخدمة الباحثين ولتثري مجالهم.

⁠دارة صفية بن زقر.. إرث الفنانة الخالد

العمل الفني (الربعية) عروس من الدرعية عام 1998
العمل الفني (الربعية) عروس من الدرعية عام 1998

أسست الفنانة "صفية بن زقر" في عام 1995 "دارة صفية بن زقر"، والذي يعد حلما تحقق لطالما راود خيالها، بعد رحلة فنية استثنائية امتدت لعقود من العمل المتواصل، والمثابرة من أجل توثيق هذا التراث الغني بشكل جمالي وبنّاء، فيما أشارت الفنانة بأنها تعتبر هذه الدارة إرثها وطلبت من عائلتها المحافظة على هذا الإرث، لأنها تعتبره صدقة جارية، فمكتبتها بها ما يزيد عن 5 آلاف كتاب أدب وفن عربي وإنجليزي سيستفيد منه الباحثون.

وتضم الدارة لوحاتها ومقتنياتها الفنية كما تحتوي على مرسم الفنانة ومكتبتها الخاصة، وتضم أعمال الفنانة بأكملها بالإضافة إلى مجموعتها الخاصة من التحف التقليدية والمنسوجات والأزياء، مع معلومات موثقة بدقة تراكمت على مر العقود، لتكون الدارة منبراً ثقافياً وفنيا شاملاً تستنير به الأجيال، حيث تفتح الدار أبوابها لاستقبال كل زائر وباحث، للتعرف على هذه المسيرة الفنية الاستثنائية التي جعلتها واحدة من أهم الأسماء الفنية المعاصرة.

⁠"درزة".. المشروع البحثي الأخير الذي عملت عليه الفنانة صفية بن زقر

الفنانة صفية بن زقر رحمها الله
الفنانة صفية بن زقر رحمها الله

ألفت الفنانة صفية بن زقر عدة كتب وأولها كتاب باللغتين الفرنسية والإنجليزية عن المملكة العربية السعودية: نظرة فنانة إلى الماضي، كما قدمت كتابها الثاني صفية بن زقر رحلة ثلاثة عقود مع التراث السعودي، وكان أخر كتاب لها هو الكتاب الثالث "درزة" مائتي عام في خطى التراث الملبسي على أرض المملكة العربية السعودية.

ويعد كتاب "درزة" darzah هو المشروع البحثي الأخير الذي عملت عليه الفنانة صفية بن زقر -رحمها الله- لمدة 10 سنوات، وفقا لما كشفت عنه الباحثة والمؤرخة الفنية، الدكتورة "إيمان الجبرين"، مشيرة إلى أن صورة الغلاف الخاصة بالكتاب تتضمن ثوب مصنوع خصيصا للعائلة الملكية السعودية ويظهر ذلك بطرف النسيج.

Darzah : 200 Years of Sartorial Heritage in Saudi Arabia يعد أول مجلد راقي عن الأزياء التقليدية للمملكة العربية السعودية، مع أعمال فنية ووثائق أصلية وغير منشورة سابقًا من مجموعة دارة صفية بن زقر المشهورة، ومن خلال عرض الألوان والأنماط الجريئة والتصميمات المطرزة بشكل معقد من  المملكة العربية السعودية، لا يمكن إنكار جمال وتنوع هذه الملابس والمجوهرات العربية، على الرغم من أنها غير معروفة عمليًا للعالم الغربي.. فكل غطاء للرأس، والملابس، والقلائد هو تعبير عن الهوية الشخصية والإقليمية، ويضم الكتاب التأثيرات الإسلامية والهندية والإندونيسية والماليزية والتركية التي تعود إلى العالم الأسطوري لطريق الحرير القديم.

معرض "أظهرت ماكان غابا".. تكريما لمسيرة الفنانة صفية بن زقر في جدة التاريخية

تحت عنوان "أظهرت ماكان غابا" عاد صوت الفنانة الراحلة الفنانة "صفية بن زقر"، ليحضر من جديد عبر معرض تذكاري احتفى بمسيرتها الغنية، وذلك ضمن فعاليات النسخة الثانية من مبادرة "بلد الفن" 2025، التي نظمتها وزارة الثقافة في منطقة جدة التاريخية، واستمرت حتى 15 يونيو 2025، وهو المعرض الذي سلط الضوء على إرث فنانة رائدة من خلال لوحاتها النادرة وارشيفها الشخصي، مبًرزًا دورها المتميز في توثيق التراث السعودي من منظور نسائي فريد، ولم يكن هذا المعرض مجرد عرض للوحات نادرة وأرشيف شخصي، بل هو مساحة للتأمل في إرث فني وثقافي حفظ ملامح التراث السعودي بعدسة نسائية سبّاقة، وجاء هذا المعرض تحت إشراف القيمة الفنية الدكتورة "عفت عبدالله فدعق"، ليُعيد رسم ملامح الذاكرة، ويستحضر صوتًا ما كان غائبًا، بل خُزِّن في التفاصيل، ليبقى نابضًا بالجمال والانتماء.