خاص "هي" رسالة مهرجان البحر الأحمر: ثلاثة على الطريق في "هجرة" شهد أمين
تدور أحداث "هجرة" في موسم الحج عام 2001، حيث هاتف "نوكيا" هو وسيلة الإتصال الوحيدة، لا منصات تواصل إجتماعي بعد، عن جدة وحفيديتها في طريقهن لأداء الفريضة، فور الوصول إلى الميقات تختفي الحفيدة الأكبر "سارة" ليتحول المسار كلية، الجدة واسمها في الفيلم "ستي" والحفيدة الصغرى "جنى" تبدأن رحلة استعادة "سارة" حيث يعرفن جيدا نواياها لكنهما يجهلان الخطة .
أين "الهجرة" إذن فيما سبق؟ ما يلفت الانتباه من اسم الفيلم أنها "هجرة" بغير ألف ولام، اختارت السينارست والمخرجة شهد أمين أن يكون عنوان ثاني أفلامها – بعد سيدة البحر- مطلقا، بدون ال التعريف، حتى يبحث المتلقى عن "الهجرة" المنشودة لكل من أبطال الفيلم ولعله يبحث بداخله أيضا عن ما يريد أن يهاجر إليه .
من فينسيا إلى الأوسكار مرور بجدة
الشريط أختير ليمثل السينما السعودية في مسابقة أفضل فيلم أجنبي 2026، وحاز على جائزة أفضل فيلم أسيوي في مهرجان فينسيا 2025، ويشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، الشريط يحمل الكثير من مستويات التأويل انطلاقة من قصته التي تبدو غاية في البساطة وصولا للخلفيات المعقدة للأبطال الثلاثة، "ستي" وجسدتها خيرية نظمي، "جنى" لمار فادن، "أحمد" نواف الظفيري.

صاغت أمين السيناريو بطريقة اعتمدت كثيرا على اختزال الخلفيات حتى يجمعها المتفرج شيئا فشيئا، بل قسمت الفيلم إلى جزءين الأول متخم بأحداث قد نظنها منفصلة عن السياق قبل أن نكملها عبر أحداث أخرى في النصف الثاني، نعيش مع "جنى" ذات الإثني عشر عاما رحلة نضجها عبر رحلة البحث عن أختها الهاربة، هي الرحلة نفسها التي تبحث فيها "ستي" عن هدوئها النفسي، تصالحها مع الماضي، العودة إلى ذكرى والدها، ويبحث فيها السائق "أحمد" عن استقرار الرسمي حيث أنه يعيش بلا جنسية ويعاني شبح "الترحيل".

الهروب من كابوس الأب
ملامح "ستي" الحادة، توحي بما تحمله أيامها من ثقل، الأب المسيطر الغائب تكشف لنا سيرة كيف عامل زوجته بقسوة أدت لوفاتها، وهو ما رفضته الخالة فيما بعد فهاجرت من الطائف إلى جدة بحثا عن حياة أكثر رحابة، حياة اعتبرتها "ستي" تستحق التوبة والعودة من جديد إلى الديار، فيما محركة الأحداث "سارة" تفك القيد لكنها تفشل في اقناع حبيبها بالسفر معها إلى مصر – هجرة أخرى في الفيلم- قبل أن يقتنصها الأب لاحقا فيما رحلة "ستي" و"جنى" تتواصل عبر 8 مدن سعودية بحثا عنها، من الطائف، إلى جدة، ثم تبوك ونيوم وضبا وغيرها، تبدو الطبيعة الصحراوية القاسية بطلا أساسيا في شريط شهد أمين، بطلا يوازيه حضور الثقافات المغايرة التي أوصلت حجاج أجانب للوم الجدة الصارمة كونها حذرتهم من شراء ماء زمزم مغشوش يبيعه السائق "أحمد" وهو الماء نفسه الذي باعته الجدة مع جنى من أجل دفع مخالفات "أحمد" الذي ساندهم في رحلتهما العصيبة.

عبر نجوم السماء، عبر نفسية الإبل، وغيرها من المواقف التي مرت بها، نرى "جنى" وهي تتعلم ممن حولها كيف تواجه الحياة، كما واجهتها الجدة عندما مات والدها دون أن يصلا سويا إلى الحرم في رحلة حج بدأت من طشقند، الجدة إذن ليست من أصول سعودية، ولا السائق، لكن الحرم يجمع الجميع، هذه القيمة الكبرى لفريضة الحج، الكل سواسية حتى لو كانت الأوراق الثبوتية تقول عكس ذلك، الأجيال تتنافر لكن الراوبط لا تنفك، هكذا كانت "جنى" في البداية متعاطفة أكثر من أختها ، لكن الرحلة كشفت لها أن "الجدة" عادة ما تكون على حق حتى لو كانت صارمة، فيما الكل متفق على أن الإقامة مع الأب كابوس يستحق الهرب منه .

لوحات فنية ممتعة
نجحت شهد أمين في تحويل كل اللقطات إلى لوحات فنية ممتعة حتى لمن قد لا يفهم رسالة الفيلم الأعمق، بجانب التشويق في رحلة البحث والتنقل من مكان لمكان ومواجهة عقبات تحلها الجدة بالخبرات، ويشاركها أحمد وجنى المسئولية بعدما ظهر الجانب الناصع في شخصية بائع زمزم المغشوش، والطفلة التي أدركت قيمة تراث جدتها القادم من الماضي والذي ستعبر به جنى الحاضر إلى المستقبل.

ثلاثي تمثيل مميز
بجانب العناصر التقنية المميزة، حيث التصوير والملابس والإكسسورات، قدم "هجرة" وجها صاعدا في السينما السعودية هي "لمار فادن" التي تمتعت بحضور واضح أمام الكاميرا رغم صغر سنها، فيما قدم "نواف الظفيري" أداء ًمميزا بشخصية صعبة تخفي عن الناس أكثر بكثير مما تظهر وسط تغير مستمر للحالة النفسية والمزاجية للشخصية، فيما قدمت الممثلة المخضرمة "خيرية نظمي" الشهيرة بماما خوخة أداءً يؤكد رسوخها أمام الكاميرا يعكس خبرات متراكمة وحضورا يجعل المتفرج الجالس في قاعة العرض يتمنى لو كانت "جدته" في الحقيقة.
