وحوش سبيلبرج تُعيد مايسترو هوليوود من التقاعد

وحوش سبيلبرج تُعيد مايسترو هوليوود من التقاعد في سن 93

إيهاب التركي
19 نوفمبر 2025

يستيقظ الموسيقار جون ويليامز مبكرًا هذه الأيام — هو يستيقظ مُبكرًا على أية حال — لكن حالة القلق الفني جعلت نومه أقل ويقظته حافلة بالنشاط؛ إذ هو في مهمة إبداعية تحتاج إلى اليقظة والتركيز، أصوات أوتار الكمان والأبواق المدوية تتدفق في عقله كشلال هادر، تمتزج أصواتها مع صيحات وحشية تشبه الرعد. عليه ترويض وحوش غاضبة بعصا المايسترو الرقيقة التي حملها عقودًا كأنها سيفًا، ليحيل الغضب والزأير ألحانًا مُفعمة بالقوة والعنفوان.

هو ليس مجرد مؤلفٍ موسيقي؛ بل هو الرياح التي حملت أجنحةَ الديناصورات في الحديقة الجوراسية، والإيقاعُ الذي دفع عرباتِ إنديانا جونز عبر الرمال المتحرّكة، ولحن الإنذار الذي منح حضور الفك المفترس رعبًا مميتًا.

الأحلام الهوليوودية

اليوم، يستعد ويليامز – البالغ من العمر 93 عامًا – لخوض مغامرةٍ جديدةٍ: فيلمه الثلاثين مع المخرج ستيفن سبيلبرج. وهو فيلم خيالٍ علمي غامض يدور حول كائناتٍ فضائيةٍ مجهولة، يُعرَف مؤقتًا بعنوان "الكشف / الصحن" .Disclosure / The Dish هذا الفيلم، المنتظر عرضه في صيف 2026 القادم، ليس مجرد إضافةٍ إلى سجلّ التعاون الاستثنائي بين الثنائي "سبيلبرج – ويليامز"؛ بل شهادةٌ على قدرة ويليامز على إعادة إحياء الجمال في عصرٍ رقميٍّ متسارع، إذ يعود من تقاعده المؤقت ليرسم لوحةً صوتيةً تجمع بين الرهبة الكونية والحميمية الإنسانية.

الأحلام الهوليوودية تعود
ويليامز يخوض مغامرةٍ جديدةٍ: فيلمه الثلاثين مع المخرج ستيفن سبيلبرج

من رحم معزوفة موسيقية تمزج ألحان المُعاناة بأناقة الموسيقى الكلاسيكية، وُلِد جون ويليامز في الثامن من فبراير عام 1932، في نيويورك، حيث كان والده، جوني ويليامز الأب، عازف ترومبيت في فرق الجاز المتجولة، يمنح ليالي الثلاثينيات القاسية في حقبة الكساد الكبير ألحان البهجة والألم. هذه البدايات ليست مجرّد جزء مبكر من سيرة حياة؛ بل استعارة لكيفية تشكّل أسلوب المايسترو كجسرٍ بين عالمين: الجاز الرشيق الذي يرقص بعفوية في شوارع مانهاتن، والكلاسيكية المهيبة التي تُشبه في معمارها قصور ملكية بالغة الفخامة.

في سن الثالثة عشرة، انتقلت العائلة إلى لوس أنجلوس، حيث بدأ ويليامز دراسة البيانو في معهد جوليارد، مستلهمًا موسيقى باخ وشوبرت، لكنه سرعان ما انغمس في أتون هوليوود كعازف جاز في النوادي والاستوديوهات. هناك، في الخمسينيات، عمل موسيقيًا لبرامج تلفزيونية مثل جي. آي. بيل وأفلامٍ مثل السيد روبرتس  (Mr. Roberts, 1955) ، حيث كان يعزف خلف الكاميرا كشبحٍ ينفخ الحياة في شاشات خاملة.

الجاز والفك المفترس

منحت هذه البدايات ويليامز مرونةً نادرة، جعلته قادرًا على دمج الإيقاع الجازي السريع بالهيكل الكلاسيكي، كما في موسيقاه لفيلم الفك المفترس (Jaws, 1975)، حيث تحوّلت النوتتان الشهيرتان إلى نبض قلب وحش يُهدد رواد شاطئ آمن. هذا المزيج من الخفة والفخامة أعاد إحياء موسيقى السينما الأمريكية في عصر ما بعد الستينيات، حين كانت الموسيقى التصويرية تُعامَل كخلفية باهتة. حول ويليامز الجاز إلى أداة سردية. فجعل أفلامه أكثر حميميةً وإنسانيةً.

إذ هذا التنوع المبكر أدّى إلى بعض التناقض والتعثر، بعض أعماله التلفزيونية الأولى، مثل لوسي جوست، كانت "مفرطة في الخفة"، وتفتقر إلى العمق الكلاسيكي الذي سيتبلور لاحقًا. كان يُعامَل كعامل استديو بدرجة موسيقي حتى لقائه بسبيلبرج عام 1974، حيث لمح فيه صورة الفنان المتفرّد الذي يستحق الصعود إلى الصفوف الأولى.

هذه البدايات ليست مجرد فصلٍ تاريخي؛ بل هي بذرةُ الاستعارة الكبرى لويليامز كـ"ساحر الإيقاع"، الذي يحوّل الضجيج إلى سيمفونية، ويجعل من الشاشة نافذةً على الروح. وفي سياق السينما الأمريكية، حيث كانت السبعينيات عصرًا للكآبة النيوهوليوودية، كانت جذوره الجازية نسمة أمل مُلهمة، وتذكيرًا بأن الطريق إلى النجوم يمرّ عبر الظلال القاتمة.

 ويليامز دمج الإيقاع الجازي السريع بالهيكل الكلاسيكي في موسيقاه لفيلم الفك المفترس
 ويليامز دمج الإيقاع الجازي السريع بالهيكل الكلاسيكي في موسيقاه لفيلم الفك المفترس

الثيمات تهيمن

ثيماتُ جون ويليامز ليست مجرد نغماتٍ؛ بل شخصياتٌ حيّة تتنفّس، في حرب النجوم  (Star Wars, 1977)، يولد "الثيم الرئيسي" كنداء موسيقي ملحمي يُعلن عن بطل كوني قادم. أمّا في الحديقة الجوراسية  (Jurassic Park, 1993)، فيتحوّل الثيم الرئيسي إلى ترنيمة إعجاب بالطبيعة البدائية، بأبواقٍ تُشبه هديرَ الديناصورات، لكنها تغدو مرعبةً حين تُسرع الإيقاعات كقلبٍ يخفق في الظلام. هذه الثيمات، المبنيّة على الفخامة السيمفونية والبساطة، أعادت تعريف السرد السينمائي، إذ أصبحت الموسيقى شريكًا في الحوار، لا مجرد خلفيةٍ له.

تكمن قوة هذه الثيمات في قدرتها على الالتصاق بالذاكرة الجماعية، كما في لحن مقطوعة "مارش الرايدرز" من فيلم غزاة التابوت المفقود  (Raiders of the Lost Ark, 1981)، الذي يُشبه خطوات مغامرٍ يرقص مع قوى خارقة، فيُشعل الإثارة قبل أن يبدأ الأكشن. أعادت هذه الثيمات إحياء السيمفونية في السينما، إذ باع ألبوم حرب النجوم أكثر من أربعة ملايين نسخة، محولًا الموسيقى التصويرية إلى سلعةٍ ثقافيةٍ يُقبل عليها الجمهور.

في المقابل، هذه الثيمات الرائعة – رغم روعتها – تُتَّهم بالإفراط في الدرامية، كأنها تُغرق الفيلم في بحرٍ من العواطف المبالغ فيها؛ فتسرق الانتباه من العناصر السينمائية الأخرى في المشهد. في تهديد الشبح  (The Phantom Menace, 1999)، على سبيل المثال، حظيت مقطوعة “مبارزة المصير “(Duel of the Fates)  بإشادةٍ لتعقيدها الكورالي، لكنها هيمنت على الشخصيات. فحوّلت السرد إلى أوبرا مفرطةٍ يفقد فيها الفيلم توازنه بين الموسيقى والصورة.

ثيمات ويليامز قادرة على الالتصاق بالذاكرة الجماعية
ثيمات ويليامز قادرة على الالتصاق بالذاكرة الجماعية

التعاون مع ستيفن سبيلبرج

تعاونَ جون ويليامز مع ستيفن سبيلبرج هو الدويتو الذي يُعزَف على أوتار الشريط السينمائي، بدءًا من فيلمهما المُبكر ذا شوجرلاند إكسبريس (The Sugarland Express, 1974) وصولًا إلى الفيلم الثلاثين اليوم. هذا الثنائي ليس مجرد صداقة؛ بل كيمياء خالصة، إذ يُترجم سبيلبرج الخيالَ إلى صور، ويحوّله ويليامز إلى صوتٍ نابض بالحياة. في إي. تي (E.T. the Extra-Terrestrial, 1982) ، يتحوّل "الثيم الطائر" إلى جناحين موسيقيين يحملان الفتى على الدراجة والكائن الفضائي نحو السماء، بينما في فيلم قائمة شندلر (Schindler's List, 1993)  يصبح صولو الكمان أنين ألم إنساني يتسلل إلى وجدان المتفرج.

أثمر هذا التعاون عن تحفٍ عزّزت مكانة السينما الأمريكية عالميًا، كما في الفك المفترس  (Jaws, 1975)، حيث أصبحت الموسيقى شريكًا أساسيًا في بناء التوتر. العلاقة بين الرجلين تخطت أعراف كتابة الموسيقى للمشاهد المُصورة، إذ يسمح سبيلبرج لويليامز بما يُسمّى "التعديل العكسي" – أي تعديل المشاهد لتناسب الإيقاع الموسيقي – كما حدث في إي. تي مثلًا، حيث يصبح الصوت جزءًا عضويًا من السرد، يقود أحيانًا ولا يكتفي بالتبعية.

هذا التعاون يتسبب أحيانًا في تكرار الأساليب، إذ تحوّلت الموسيقى السيمفونية المهيبة إلى ما يُشبه العلامة التجارية لويليامز، مما قلّل من عنصر الابتكار في بعض الأعمال اللاحقة مثل ذا بوست (The Post, 2017) إذ طغت الثيمات الدرامية الروتينية، وفقدت موسيقى ويليامز شيئًا من سحرها.

التعاون مع ستيفن سبيلبرج
التعاون مع ستيفن سبيلبرج

إعادة كتابة اللحن الوطني

لم يغيّر جون ويليامز السينما الأمريكية فحسب؛ بل أعاد صياغتها كسيمفونيةٍ متكاملة، حيث أصبحت الموسيقى التصويرية بطلًا مُشاركًا في الأحداث. في سبعينيات القرن العشرين، حين سادت الأصواتُ الإلكترونية المتجردة كما في فيلم 2001: أوديسة الفضاء (2001: A Space Odyssey, 1968)، أعاد ويليامز السيمفونية الكلاسيكية إلى الواجهة عبر سلسلة أفلام حرب النجوم  Star Wars، محولًا  هوليوود إلى مسرحٍ أوبرالي، وملهمًا جيلًا من المؤلفين الموسيقيين مثل جيمس هورنر، وجون باري، وهانز زيمر. امتدّ تأثيره إلى عمق الثقافة الشعبية، حيث أصبحت ثيماته رموزًا وطنية، كـ"ثيمة القوة" في حرب النجوم، التي تُعزف في الاحتفالات الرياضية والمناسبات الرسمية وكأنها نشيدٌ وطني أمريكي غير مُعلن.

هذا التأثير منح السينما الأمريكية بُعدًا عاطفيًا جديدًا، كما في سوبرمان  (Superman, 1978)، حيث أصبح الثيم الموسيقي رمزًا للبطولة الأمريكية المعاصرة، مساهِمًا في رفع مبيعات التذاكر وتعزيز الهوية الثقافية. فقد جعل ويليامز من الموسيقى سلعةً فنيةً راقية، تُقدَّم في الحفلات الكبرى، ليُعيد تعريف العلاقة بين السينما والموسيقى بوصفهما فنًّا واحدًا.

إعادة كتابة اللحن الوطني
إعادة كتابة اللحن الوطني

اللحن الأخير

أسلوبُ جون ويليامز أشبهُ بلوحة زيتية تتلاقى فيها الاستعاراتُ الموسيقية: الثيم كشخصيات تتطور، والإيقاعات كحركة درامية، والأوركسترا كخلفية حية نابضة بالضوء والظل. في الإمبراطورية تُهاجم  (The Empire Strikes Back, 1980)، يُوظَّف "مارش الإمبراطور" كـلحن شريرٍ يتسلل كالظل، بينما في هوك (Hook, 1991) تتحول الموسيقى إلى جسرٍ بين الطفولة والنضج، من خلال تغييراتٍ إيقاعيةٍ دقيقة تعكس التوتر بين الحنين والمسؤولية.

هذا الأسلوب يُعزز السرد السينمائي بذكاء، كما في إنقاذ الجندي رايان  (Saving Private Ryan, 1998)، حيث تخفف الوتريات من حدة الدراما ليُبرز الصمت كأداةٍ للتعبير، محوّلًا الحرب إلى ترنيمةٍ تأملية.

اللحن الأخير
اللحن الأخير

يتهم البعض ويليامز بالتمسّك بالتقاليد الأوركسترالية الكلاسيكية ومقاومة الحداثة الإلكترونية، كما في المقارنة بينه وبين موسيقى المؤلف الموسيقي اليوناني فانجليس المتطورة في بليد رانر (Blade Runner, 1982) هذا الموقف جعل بعض أعماله المتأخرة تبدو "غير عصرية".

أسلوبُ ويليامز هو الفرشاةُ التي ترسم الشخصيات والحكاية: رشيق ومتقن، لكنه يحتاج أحيانًا إلى مزيدٍ من الجرأة وكسر القوالب السيمفونية التي صنع مجدها بنفسه. فـهذا ما يُسبب له الأرق، ويدفعه للإستيقاظ مُبكرًا، لعله يلتقط قبس الإبداع الذي يحمل بصمته ويُقدم في نفس الوقت رؤية حديثة بعيدًا عن التكرار والنمطية، ربما يكون لحنه القادم مع سبيلبرج هو لحنه الهوليوودي الأخير، ومن المؤكد أنه يسعى أن يكون الأروع والأكثر حداثة وعُمقًا.