فيلم "A House of Dynamite".. ثلاث روايات ناقصة لكابوس كاثرين بيجلو السينمائي
في عالم صاخب يسوده القلق والتوتر، وتتسارع خطواته نحو الهاوية، يصبح الخوف النووي نبضًا يوميًا مخيفًا، رُبما يبدو تهديدًا يصعب تنفيذه لكنه ليس مُستحيلًا.
يبرز فيلم نتفليكس الأخير "بيت الديناميت" (A House of Dynamite) كشاهدٍ درامي على هشاشة بروتوكولات الردع الأمريكية النظرية أمام تحديات كارثية واقعية. يختار الفيلم السيناريو الأسوأ، ويحكي في أقل من ساعتين حكاية 19 دقيقة حاسمة – تُمثل الوقت الذي يستغرقه صاروخ نووي غامض أُطلق من قبل دولة غير معروفة – هدفه ضرب مدينة شيكاغو الأمريكية. يضم الفيلم بطولة إدريس إلبا في دور رئيس الولايات المتحدة، وريبيكا فيرجسون في دور أوليفيا ووكر قائدة غرفة العمليات في البيت الأبيض.
من؟ لماذا؟ كيف؟
الفيلم يُمثل عودة للمخرجة كاثرين بيجلو، بعد حوالي ثماني سنوات على فيلمها Detroit. ينضم العمل إلى عالمها السينمائي الذي يروي وقائع عسكرية وسياسية بنبرة إنسانية. لكنها في "بيت الديناميت" اختارت – لأول مرة – سيناريو افتراضي عن تعامل القيادات السياسية والعسكرية مع احتمال يبدو خياليًا، وهو تعرض أمريكا لضربة نووية مُفاجئة من جهة مجهولة. الفيلم ليس مجرد عمل إثارة سياسي أو أكشن حربي؛ إنه حكاية كابوسية عن قيادة تُصبح مركبًا في بحر هائج من الاحتمالات الكارثية.
تُحاول شخصيات الفيلم – في وقت ضيق وحرج، وفي ظل غياب للمعلومات – الإجابة على أسئلة صعبة، من بينها:
من أطلق الصاروخ؟ (الإجابة ستحدد العدو)
لماذا أُطلق؟ (تساعد إجابة السؤال في معرفة حدود وأبعاد المعركة)
كيف ترد؟ (سياسيًا مطلوب رد انتقامي لإرضاء الرأي العام، وعسكريًا الرد ضرورة للقضاء على أي مصدر مُحتمل لإطلاق صاروخ آخر)

دوائر السرد
دوائر السرد الحبكة في "بيت الديناميت" لا تسير على خط مستقيم، بل تُروى ثلاث مرات من زوايا مختلفة، كأنها ساعة رملية مقلوبة تتساقط فيها الحبات نفسها لكن بأشكال جديدة. تبدأ القصة بصاروخ غامض ينطلق نحو شيكاغو، يبدو مُتعمدًا وليس خطأ كارثي، مما يشعل سباقًا بين مسؤولي الحكومة الأمريكية لتحديد المصدر والرد.
أجزاء الفيلم الثلاثة تحمل عناوين محددة:
الميل مسطح: اصطلاح يشير إلى أن زاوية الصاروخ في الجو أصبحت هجومية.
ضرب رصاصة برصاصة: تشبيه عسكري لعملية التصدي المُستحيل للصاروخ في الجو.
بيت مليء بالديناميت: التشبيه الذي استخدمه الرئيس لوصف التسابق النووي العالمي.

كاتب الفيلم هو نواه أوبنهيم، شغل منصب رئيس قطاع الأخبار بشبكة NBC News قبل تفرغه لكتابة سيناريوهات الأفلام. يستلهم أجواء صناعة القرار وإدارة الأزمات في الحكومة الأمريكية ليصنع كواليس خيالية لإدارة أزمة كارثية افتراضية، مستخدمًا أسلوب رواية الوقائع على طريقة فيلم الجريمة الياباني "راشومون"، حيث تكشف كل إعادة لسرد الوقائع تفاصيل جديدة: في الفصل الأول، نتابع تقييم الخطر داخل غرفة العمليات للمعلومات مع ووكر (فيرجسون) وفريقها؛ الثاني يغوص في جدل البنتاغون حول وسائل الرد والانتقام مع الجنرال بايرينجتون (تريسي ليتس)؛ والثالث ينتقل مع الرئيس (إلبا) أثناء نشاطه اليومي الذي تحول من روتين هادئ إلى ضغوط اتخاذ قرارات مصيرية.
الإيقاع الدائري للسرد يعزز الإلحاح، كأن كل دورة هي نبض قلب في حالة صدمة، إعادة مشاهدة الوجه المرعب للكارثة من زاوية أخرى، مما يجعل المشاهد يشعر بالضغط الزمني الخانق، في كل دورة ينتظر المشاهد لحظة الذروة التي تُهدئ من وتيرة التوتر.

قبل الكارثة
نرى الرئيس في أحد المشاهد يتلقى الخبر أثناء زيارة مباراة كرة سلة في أحد المدارس، فتتحول لحظة ترفيهية إلى حدث كارثي، مستلهمًا سياق سينما الكوارث حيث يتسلل الخطر إلى الروتين اليومي، وتتحول لحظات السلام إلى صخب وقلق جماعي. هذا التكنيك يبني تعاطفًا عميقًا، خاصة في التركيز على الجانب الإنساني مثل محاولة وزير الدفاع باكر (جاريد هاريس) إنقاذ ابنته في شيكاغو، مما يضيف طبقة عاطفية عن الفقدان المحتمل.
ومع ذلك، الإعادة الثلاثية لسرد نفس الدقائق تثير إرهاقًا، كأنها تكرار يفقد بريقه بعد الحكي الأول للحدث، حيث تتكشف بعض التفاصيل في الإعادة الثانية والثالثة كإضافات سطحية لا تغير المسار الرئيسي. على سبيل المثال، الدورة الثانية في البنتاغون تضيف نقاشات حول خيارات الرد النووي، لكنها تتحول إلى ثرثرة تعكس الصدمة والعجز والارتباك بدون إغلاق عاطفي، مما يترك الجمهور معلقًا في فراغ نهاية مفتوحة، هذا الكسر المتعمد للذروة التقليدية يبدو جريئًا، لكنه يفتقد الإثارة، خاصة مع الاعتماد على الشرح الزائد للإجراءات الرسمية، الذي يتحول أحيانًا إلى محاضرة أكثر من حوار درامي. الحبكة نفسها قوية في بنائها التجريدي، لكنها تحتاج تنقيحًا لتحويل الدوران حول الحدث إلى تصاعد نحو ذروة حقيقية.

أقنعة تتفتت
في قلب "بيت الديناميت"، يقف إدريس إلبا وريبيكا فيرجسون كتمثالين صامدين لكنهما يتشققان تدريجيًا، يكشفان عن معدن القادة تحت الضغط. إدريس إلبا، كرئيس يواجه قرارًا يمكن أن يمحو مدنًا بأكملها، يجسد الصراع الداخلي كعاصفة هادئة، عيناه تعبران عن الشك، حتى أنه يسأل مشورة الضابط حامل حقيبة الرموز النووية الذي يرافقه مثل ظله لسنوات دون أن يعرف حتى اسمه.
الطاقم الداعم يضيف طبقات من التنوع لقصة يجسدها شخصيات من لحم ودم: الجنرال المحافظ (تريسي ليتس)، المستشارة الحادة (جريتا لي)، الضابط الشاب (جابرييل باسو).

يبرز أداء إلبا في لحظات الصمت، مثل تلك التي يصف فيها الوضع بـ"بيت مليء بالديناميت يعيش فيه الجميع"، حيث يمزج بين الهيبة الرئاسية والضعف الإنساني، مستلهمًا تقليد هوليوودي يرى في الزعماء مرايا للمخاوف الجماعية، حيث أصبح العالم في ظل التسابق النووي بيت مليء بالديناميت. هذا الأداء يجعل الرئيس إنسانًا يتردد بين الرد بقوة أو ضبط النفس، مما يضيف عمقًا نفسيًا يتجاوز الإثارة السطحية.
أما فيرجسون، فهي النجمة الحقيقية؛ في مشهد الاتصال مع قاعدة ألاسكا، حيث تُدير الفريق وسط الفوضى، تتحول إلى قوة طبيعية، عيونها تحمل بريق اليأس المكبوت، هي امرأة تركت طفلها المحموم مع والده وذهبت لأداء عملها الروتيني، لتجد نفسها تواجه تهديدًا وجوديًا غير متوقع لعالمها بأكمله.
حصار الزمن
كاثرين بيجلو تمسك بـ"بيت الديناميت" كما لو كانت تمسك بمؤقت قنبلة، كل دقيقة بالقصة محسوبة. يعتمد الفيلم على الواقعية الخام، مستلهمًا تراث بيجلو في صناعة الإثارة السياسية حيث يصبح الهيكل الإداري للحكومة جسدًا ينزف تحت ضغط الصدمة والزمن. الكاميرا تتحرك كشبح في الغرف المغلقة، تستخدم اللقطات الطويلة لتمديد الـ19 دقيقة إلى حوالي 112 دقيقة، حيث يتحول الزمن إلى عدو مرئي.
بيجلو تتفوق في بناء توتر درامي مشحون، خاصة في الفصل الأول. نتبع ووكر في غرفة العمليات، حيث تتحول الشاشات المتعددة إلى عيون تُراقب الكارثة، وتستخدم الإضاءة الخافتة لجعل الوجوه تطفو في الظلام كأشباح.
انتقال اللقطة من الرئيس في الملعب إلى غرفة الطوارئ، حيث يتسارع المونتاج كضربات قلب متسارعة، تُساهم السرعة في صنع حالة درامية حية وقلقة، تكاد أنفاس الشخصيات القلقة داخل الغرف المغلقة تلفح وجه المشاهد، يشعر المشاهد في بعض اللحظات أن الصاروخ يقترب من شاشته.
الاعتماد على الهيكل الدائري للسرد يؤدي إلى تكرار بصري يفقد تأثيره، كأن اليد الإخراجية تمسك بسكين لكنها تتردد في الطعن. في الدورة الثالثة، على سبيل المثال، يصبح المونتاج متوقعًا، مع لقطات متشابهة للشاشات والحوارات، مما يقلل من الابتكار ويجعل بعض المشاهد تبدو كإعادة تسجيل أرشيفي بدلًا من تطور فني.

أنغام قلقة وظلال مُخيفة
العناصر الفنية في "بيت الديناميت" هي الخيوط الخفية التي تربط بين خطر الديناميت وقيمة البيت، من الموسيقى التي تهمس كريح قبل العاصفة إلى التصوير الذي يجعل الغرف المغلقة سجونًا مفتوحة.
الموسيقى: فولكر بيرتلمان – من أنين إلكتروني خافت إلى نبضات تشبه أجراس إنذار ودقات ساعة تتسارع
المونتاج: كيرك باكستر – نقلات حادة تحول دقائق الكارثة إلى سنوات قلق
التصوير: ألوان باردة ما بين درجات الأزرق والرمادي، واشنطن كمدينة ميتة حية، شيكاغو كهدف هش من الفضاء
هندسة الصوت: بول أوتوسون – صدى أجراس الإنذار النهائية
الموسيقى والمزج الصوتي تساهم ببراعة في التلميح، كما في مشهد الإجلاء الرئاسي حيث تندمج الأصوات الصاخبة القلقة مع صوت الطائرة الهادر، مما يخلق إحساسًا بالاختناق الصوتي والقلق النفسي.
المونتاج يعاني في الدورات اللاحقة لسرد نفس الحدث من تكرار يفقد الإيقاع، كنقلات متشابهة تُثير الملل وتجعل التوتر الدرامي مُسطحًا، يشعر المشاهد أنه يعلم ما سيحدث لأنه رآه من قبل، وتسقط الصورة في هوة تكرار الحلول البصرية نفسها.
ماذا حدث في شيكاغو؟
الأكشن هنا ليس انفجارات هوليوودية؛ إنه توتر مكبوت، سباق ضد الزمن داخل غرف مغلقة، كأن القلق بُخار مضغوط يئن ويهز وعاء ضخم قبل لحظة الانفجار، لكنه لا ينفجر. مشاهد مثل إخلاء المدينة أو إجلاء الرئيس هي ذروة الفعل، مبنية على السرعة والقرارات السريعة.
التوتر فائق في الاتصالات الفضائية، كمشهد ألاسكا حيث يحاول الفريق التصدي للصاروخ على طريقة "ضرب الرصاصة برصاصة"، نرى الحدث على شاشة تقدم رسمًا جرافيكيًا افتراضيًا، مما يجعل الأكشن نفسيًا، التوقعات كبيرة لكن الاحتمالات النظرية تتضائل أمام الواقع الحقيقي.
الفيلم محبط للمشاهد الذي بلغ مستوى الأدرينالين في قمته وهو ينتظر بشغف نهاية عاطفية للقصة، غياب ذروة درامية يجعل الأكشن يبدو ناقصًا، كرواية تحقيق بوليسية مثيرة تنتهي دون تحديد الجاني، مما يقلل من حالة إشباع المشاهدة، خاصة في النهاية المفتوحة التي تترك التوتر معلقًا:
من أطلق الصاروخ؟
ماذا سيحدث في شيكاغو؟
نهاية الفيلم الغامضة تليق بالفرضية الخيالية التي بُني عليها سيناريو الفيلم، فهو لا يسعى لإثارة توجيه الاتهامات لدولة معادية للولايات المتحدة، ولا يريد متابعة ما بعد الكارثة على أرض شيكاغو. الهدف باختصار هو سرد درامي مرعب مبني على احتمال يبدو خياليًا، استيقظت كاثرين بيجلو قبل إنتهاء كابوسها السينمائي، لا تريد أن يصبح فيلمها حكاية للتسلية، بل ينطلق كجرس إنذار مدوٍّ يهدف إلى إزعاج الجميع.