الحياة بعد سهام

خاص "هي" رسالة مهرجان كان: "الحياة بعد سهام".. لا زالت تستحق أن تُعاش

أندرو محسن
22 مايو 2025

ليس من السهل صناعة فيلم وثائقي عن شخصية مقربة بعد رحيلها، الأم أو الأب أو الزوجة. الصعوبة تكمن في قدرة صانع الفيلم على استحضار قطع الذاكرة المترفقة هنا وهناك، وعلى تجاوز آلام الفقد لهذا الشخص الغريب. لكن عندما ينجح الفيلم في ذلك، فإن النتيجة غالبًا ما تكون شديدة الحساسية والقرب من المشاهد، وكأن الفيلم استطاع أن يمس ذكرياته هو شخصيًا. وهذا ما فعله نمير عبد المسيح في فيلمه الأحدث ”الحياة بعد سهام“ المعروض ضمن قسم ”أسيد“ في مهرجان كان السينمائي في دورته 77.

يصور المخرج حياته هو وعائلته بعد رحيل والدته، وخاصة التأثير الذي تركه هذا الرحيل عليه هو وأبيه. ومن خلال هذا المدخل ينطلق إلى ذكريات الأب عن بداية علاقته بزوجته الراحلة، ومراحل تطور علاقتهما.  عكس الكثير من الأفلام التي تكون فيها الدراما العائلية حاضرة بقوة وتحمل من التعقيد ما يُظهره صانع الفيلم عادة، نجد أن نمير عبد المسيح يفضل أن يُظهر أسرته بشكل دافئ وحميمي. حتى عندما يتوقف عند بعض المشكلات التي واجهها والداه قبل زواجهما، فإننا نشاهدها على الشاشة بشكل هادئ، يحمل من الذكرى الجميلة أكثر مما يحمل من الألم. والأمر نفسه ينطبق على الفترة التي قضاها نمير مع أهله في صعيد مصر بعيدًا عن أبويه، إذ نشاهد في هذه المرحلة الارتباط الذي كونه مع عائلته في الصعيد، بأكثر مما يركز على أي مشاعر سلبية عن كونه طفل تركه أبواه وسافرا للعمل.

فيلم "الحياة بعد سهام"
فيلم "الحياة بعد سهام"

ما يساعد في بناء هذه الحالة هو الأسرة المتماسكة والتي تتمتع بخفة ظل وتلقائية واضحة على الشاشة، خاصة قريباته من الصعيد، اللاتي يتمتعن بحضور ”مصري“ جدًا إن جاز التعبير، لا يمكن أن يخرج إلا من صعيد مصر وبلهجته المميزة.

بجانب المشاهد المُصورة خصيصًا للفيلم، يعتمد المخرج على الكثير من الأدوات الأخرى لمساعدته على استكمال تفاصيل علاقته مع والدته الراحلة، مثل الخطابات التي كانت ترسلها إلى والده، وبعض اللقطات من أرشيف العائلة، ثم هناك الحل الأجمل والذي يستكمل الحالة السينمائية الجميلة للفيلم، وهو الاستعانة بمشاهد مختلفة من أفلام يوسف شاهين، خاصة ”عودة الابن الضال“ و“فجر يوم جديد“ لاستكمال بعض التفاصيل التي لا يوجد لها مادة خاصة، وتُصاحب هذه المشاهد كتابة على الشاشة، على طريقة الأفلام الصامتة، تعبر عن الحوار الذي يدور على لسان الشخصيات التي نشاهدها، وهو الحوار الذي يناسب ذكريات نمير بالطبع ولا ينتمي إلى الأفلام الأصلية. بالنسبة لمن لم يشاهدوا أفلام يوسف شاهين المذكورة فإنهم على الأرجح  سينجذبوا بسلاسة لهذه اللقطات الجميلة، أما من شاهدوها فإن متعتهم ستكون مضاعفة، والإعجاب أكبر بقدرة نمير عبد المسيح على توظيف هذه اللقطات بعينها بهذا الشكل الممتع في فيلمه. 

مع اقتراب الفيلم من نهايته، يدفعنا المخرج مرة أخرى للتفكير في عنوان الفيلم، ”الحياة بعد سهام“، هذا الفيلم ليس عن سهام نفسها أو عن نمير ووالده بعد سهام، لكنه بشكل أعم عن الحياة بعد الفقد، وكيفية التكيف مع الرحيل، رحيل الأشخاص والأماكن أيضًا، ومحاولة التمسك بما يتركه أحباؤنا من ذكريات تستحق أن تبقى معنا وتترك علامتها داخلنا. في واحد من أكثر حوارات الفيلم رقة، تتحدث خالة نمير معه عن مشاكل الذاكرة وتسأله إن كان هناك علاج للحفاظ على ذاكرتها فأجابها ”ماعرفش غير السينما“، وفي الحقيقة يُعد فيلمه تطبيقًا حقيقًا ليس فقط على أهمية السينما في الحفاظ على الذاكرة، ولكن في قدرتها على معالجة الذكريات والمشاهد أيضًا بطريقة غير مألوفة، حتى وإن لم تكن هذه الطريقة واقعية، لكنها على الأقل تُصبح واقعية على الشاشة.