فيلم "The Zone of Interest"

فيلم "The Zone of Interest".. سرد بصري مُختلف عن روتين الحياة اليومية للأشرار!

إيهاب التركي

يبدأ فيلم (منطقة الاهتمام) "The Zone of Interest" بشاشة سوداء تستمر قرابة أربع دقائق، يقطع قتامة الشاشة عنوان الفيلم بحروف بيضاء تتلاشي ببطيء شديد، كأنه دُخَان كثيف يختفي، ويعود الظلام الأسود مرة أخرى. إذا تململت في كرسيك، وشعرت بالضجر والإزعاج؛ فقد حقق الفيلم هدفه؛ انه عن الشر والظلام وأهوال تبث الرعب في القلوب، رغم أننا لا نراها.

خلف أسوار أوشفيتز!

يقتبس فيلم "منطقة الاهتمام" أحداث رواية الكاتب الإنجليزي "مارتن آميس"، بصورة محدودة؛ تتابع الرواية بأسلوب كوميدي حكاية ولع ضابط نازي بزوجة قائد مُعسكر أوشفيتز الألماني؛ معسكر الاعتقال الشهير، الذي شهد أسوأ فظائع النازية؛ إذ شهد حرق الآلاف من المعتقلين اليهود في أفران الغاز. فيلم المخرج وكاتب السيناريو "جوناثان جليزر" يبتعد عن خيوط الرواية العاطفية والحميمية، وعن لمستها الساخرة، ويُسلط الضوء على الشر الكامن خلف أسوار المعسكر بصورة فنية مُختلفة؛ اختار "جليزر" ألا يرى المُشاهد أي شيء من الفظائع، نسمع أصوات صيحات الضحايا من بعيد، ورغم ذلك تظل الوحشية والفظاعة حاضرة في مشاهد الفيلم البطيئة للغاية.

فيلم "The Zone of Interest"
فيلم "The Zone of Interest"

بجوار سور المعسكر يقبع سكن قائد المعسكر "رودلف هس" "كريستيان فريدل" وعائلته، منزل يعمه الهدوء، يضم زوجته جامدة الملامح والمشاعر هيدويج "ساندرا هولر"، وأبنائه الصغار، والخدم. الحياة ساحرة في تلك البقعة الريفية المُحاطة بالطبيعة الخلابة، حلم تحقق لأسرة ألمانية يحظى عائلها باحترام هتلر والقيادة السياسية النازية.

الفيلم يُغرق في تصوير تفاصيل المكان الجميلة؛ تُقدم لنا كاميرا "لوكاس زال" مشاهد بديعة لجنة أرضية، تتناقض مع جحيم المُعسكر الغامض، المُحاط بالأسوار.

نرى استمتاع زوجة قائد المُعسكر وعائلتها بالحياة في فيلتها المُلاصقة للمُعسكر؛ لقطات طويلة ورتيبة تصور ولعها الخاص بالحديقة والخضروات المزروعة هنا وهناك، هي ربة منزل عادية تعيش متعة الترف الذي جلبه الزوج بعد إدارته الناجحة لمعسكر "أوشيفتز"، تصل بعض المُقنيات الثمينة - المُصادرة من المُعتقلين - إلى الزوجة؛ فراء ثمين تقتنيه كأنه غنيمة حرب، وبعض الفساتين المُتواضعة تلقي بها إلى خادماتها.

فيلم "The Zone of Interest"
فيلم "The Zone of Interest"

في مكتب القائد بمنزله يحضر بعض الضباط مُناقشة تحديثات بناء أفران الغاز وكيفية التخلص من البقايا الآدمية بالسرعة الكافية، والاستعانة بالمعتقلين لنقل البقايا والرماد؛ لا نرى في العيون أثر ألم أو ندم، الاجتماع أشبه بلقاء عمل مجموعة من المهندسين؛ من أجل بناء مصنع منتجات نافعة.

حياة عادية ووقائع مُروعة!

شخصية "رودلف هس" في المنزل بسيطة وصموتة، يتعامل بهدوء مع عائلته، سلوكه العائلي رتيب كأي رب أسرة مُلتزم، ازدواجية شخصيته ونفسيته ذكرتني - مع الفارق الكبير - بشخصية العقيد توفيق شركس، التي جسدها المُمثل الراحل محمود عبد العزيز، في فيلم (البريء)، حيث ينتقل من اللطف والوداعة في حياته اليومية العائلية، إلى الشراسة والوحشية حينما يدخل إلى مُعسكر الاعتقال الذي يديره، كلاهما (هس وشركس) يسعى لإرضاء رؤسائه مهما كان الثمن باهظًا، والثمن في الفيلمين كان تعذيب المُعتقلين والتنكيل بهم وقتلهم، وهس بالطبع جاوز المدى في أوشيفتز؛ لقد أدار أبشع محرقة بشرية في التاريخ، دون أن يرمش له جفن.

فيلم "The Zone of Interest"
فيلم "The Zone of Interest"

المشاهد بطيئة بشكل مُتعمد، يصل حد استفزاز المشاهد، من السهل استثارة عواطف المُتفرج بمشاهد مؤثرة؛ من نوعية المشاهد العاطفية من فيلم "قائمة شندلر"، للمخرج "ستيفن سبيلبرج"، أو الكوميديا السوداء من فيلم "الحياة جميلة"، للممثل والمخرج "روبيرتو بينيني"، وكلاهما دارت أحداثه المأساوية في معسكرات اعتقال اليهود في أثناء الحرب العالمية الثانية.

هذا الإلحاح في تركيز الكاميرا على المكان الذي تعيش فيه عائلة "رودلف هس" وعائلته جزء من رؤية الفيلم؛ المتفرج يرى المكان بعيون قاطنيه، أسرة تعيش حياتها اليومية في رَفَاهيَة وهدوء، يستمتع الجميع بالملل والأجواء الناعمة، الكل يغض النظر عما يحدث خلف أسوار المنزل؛ الصرخات البعيدة، طلقات رصاصات الإعدام، صوت دراجة نارية صاخب تدور بلا هدف حول المُعسكر؛ للتغطية على تلك الأصوات، رماد مداخن المحارق الكثيف في الليل ينتشر عبر الهواء، رائحة اللحم البشري لا يُمكن إخفائها، أصداء الموت حاضرة، الجميع في الفيلا الفاخرة يتجاهلها، كأن التجاهل كافِ لطمسها من الوجود.

فيلم "The Zone of Interest"
فيلم "The Zone of Interest"

فتاة الظلام الغامضة!

خُطَّة المخرج "جوناثان جليزر" إثارة توتر المُتفرج؛ ما نشاهده شديد النعومة ويدعو للاسترخاء، وما نسمعه في الخلفية ولا نراه مُرعب؛ يسعى الفيلم لإثارة خيال المُشاهد، كأنه يسأله مُتهكمًا: ماذا تتوقع أن ترى؟ أنت تفهم كل شيء ولكنك غافل مثل أي شخص يعيش حياته اليومية، وبالقرب منه يعيش آخرون البلاء العظيم.

اختيار سرد الرواية من وجهة نظر ألمانية أمر شديد الحساسية؛ المتوقع أننا نرى أشرار لهم ملامح حادة قاسية، وهذا لا يحدث؛ هم يُمارسون مهامهم الفظيعة كأنها روتين عمل يومي، يتم في إطار الاندماج في طبيعة هذا العمل، أفعالهم الشريرة تتدثر برداء التفاصيل اليومية وجمود ملامحهم، يبدون في عزلة عن البوصلة الأخلاقية، أو هم مُشبعون بتبريرات ثقافة النازية؛ يحكي "رودلف هس" لابنته الصغيرة حكاية قبل النوم، وفيها تدفع بطلة القصة الطفلة الساحرة داخل الفرن، وتُحكم غلقه وتبدأ في حرقها؛ عِقابًا على أفعالها؛ الرمزية واضحة والتبرير صارخ، هو يرى الضحايا أشرارًا؛ هذا يبرر عقابهم بوحشية.

فيلم "The Zone of Interest"
فيلم "The Zone of Interest"

أحد مشاهد الفيلم عن فتاة مجهولة، تترك حبات التفاح ليلًا في مواقع البناء الذي يعمل به المعتقلون في النهار، يتم تصوير مشاهدها في الظلام الحالك بكاميرا حرارية؛ الفيلم لا يستخدم أي إضاءة في تصوير مشاهد العمل، ويعتمد على الإضاءة المُحيطة؛ ولهذا تبدو مشاهد النهار لأقرب لمشاهد تسجيلية، أما مشاهد الفتاة في الظلام فبدت كابوسية ومُخيفة وخيالية، يصحبها صوت "رودلف هس" يحكي لابنته حكاية قبل النوم، ورغم ذلك نلمح بين ثنايا المشاهد المُظلمة طيف الفتاة الأبيض، كأنه طاقة أمل مُضيئة في ظلام حالك.

ما نراه وشريط الصوت!

أُستخدم شريط الصوت كمُعادل لأجواء الرعب داخل المُعسكر، وتخفف الفيلم من الموسيقى التصويرية في خلفية المشاهد، عدسة الكاميرا تصور أحيانًا أشياء لا عَلاقة لها بما نسمعه؛ في مشهد وصول المُعتقلين الجدد وصراخهم كان وجه قائد المُعسكر الجامد يملأ الشاشة، حينما قبض جُندي حراسة ألماني على مُعتقل في موقع بناء بتهمة امتلاك تفاحة، نسمع الأصوات بينما عدسة الكاميرا تُركز على شخص أخر يعتني بزهور الحديقة.

فيلم "The Zone of Interest"
فيلم "The Zone of Interest"

فيلم (منطقة الاهتمام) لا يحكي وقائع تاريخية عن شرور النازية، هو أقرب إلى سردية سينمائية عن الشر الذي يُمارسه البعض ويتجاهله الآخرون، الفظائع والحروب والقتل تُحيطنا من كل مكان، والبعض قرر أن يتجاهلها ويُمارس روتين يومه جون اكتراث، يُشيح وجهه عنها كما فعلت كاميرات الفيلم.

الفيلم إنتاج بريطاني، ناطق باللغة الألمانية، وفاز بالعديد من الجوائز؛ أبرزها جائزة أفضل فيلم في مُسابقة جوائز الأكاديمية البريطانية للفيلم والتليفزيون ""BAFTA، وجائزة مهرجان كان الكبرى، وهو مُرشح لخمس جوائز أوسكار؛ هي أفضل فيلم، وافضل إخراج، وأفضل سيناريو، وافضل صوت، وفرصه قوية للغاية في اقتناص أوسكار أفضل فيلم أجنبي يوم 11 مارس الجاري.

الصور لقطات من التريلر وصفحة شركة الانتاج.