مسلسل "The Crown".. سفينة الملكة تصل المرفأ الأخير وشبح ديانا يُسامح الجميع!

مسلسل "The Crown".. سفينة الملكة تصل المرفأ الأخير وشبح ديانا يُسامح الجميع!

إيهاب التركي
29 ديسمبر 2023

تهيم الملكة "إليزابيث الثانية" على وجهها في شوارع لندن الصاخبة المُزدحمة، بلا حراسة أو موكب مهيب، مُجرد عجوز وحيدة تخطو في الطرقات بارتباك وبلا هدف، لا يتعرف إليها أحد من الجُمهور الصاخب المُتحمس، لا يكترث المارة لصاحبة أكثر وجه مألوف في المملكة البريطانية والعالم؛ فجميعهم مشغولون بالهتاف للملك الجديد: "توني بلير"، رئيس الوزراء الأكثر شعبية في تاريخ بريطانيا بعد "وينستون تشرشل"، نراه لاحقًا في مشاهد حفل تتويجه الأُسطوري يرتدي التاج الذي ارتدته الملكة نصف قرن من الزمان، وبين الحضور الوقور يقف أعضاء العائلة المالكة سابقًا، ينظرون إلى الملك الجديد، وعلى وجوههم الحَيْرَة والحسرة والخوف؛ لقد طُردت العائلة الملكة من جنة الحُكم والنفوذ والتأثير، وأصبحوا مثلهم مثل أي شخص آخر.

مُواجهات خيالية!

هذا واحد من مشاهد عدّة استخدم فيها "بيتر مورجان"، كاتب مسلسل "التاج The Crown" الحيل الدرامية اللاذعة؛ للتعبير عن هواجس وكوابيس وخواطر شخصية الملكة، لا يمكن لأحد تأكيد رؤية الملكة كابوس بهذه التفاصيل، هذا مشهد خيالي جاء في سياق ملائم تمامًا لتدهور شعبية الملكة في السنوات التي تلت وفاة الأميرة "ديانا"، وصعود شعبية رئيس الوزراء الشاب المحبوب، داخل بريطانيا وفي أرجاء العالم.

ع

يستخدم "مورجان" نفس الحيلة حينما يجلس شبح الأميرة المُتوفاة "ديانا-إليزابيث ديبيكي" بصحبة الملكة "إيميلدا ستانتون"، ويدور بينهما حوارًا، نلمح فيه ندم الملكة وشفقتها على مصير "ديانا"، والدة أحفادها، في الوقت الذي ترد الأميرة الراحلة بتسامح، ويتكرر مشهد مُشابه لحوار بين "ديانا" والأمير "تشارلز-دومينيك ويست"، على متن الطائرة الملكية، التي تُقل جثمانها؛ إذ يسعى شبح الأميرة إلى تهدئة روع الأمير الحزين.

ع

هناك مشاهد أخرى تُصور أحاديث بين الملكة وشخصيتها الشابة "كلير فوي"؛ الفتاة التي قمعتها الملكة داخل إطار التقاليد الملكية، وشخصيتها في مرحلة منتصف العمر "أوليفيا كولمان"، وكان ظهور الممثلتين بمنزلة تكريم لتألقهما في أداء شخصية الملكة في مراحل عُمرية أقل سنًا، ورمزًا لتصالح شخصية الملكة العجوز مع شخصيتها الشابة؛ لقد دفنت شخصيتها الحقيقية حتى تمنح التاج قوته ورصانته.

طغى حضور و"ديانا" ووقائع حياتها منذ الموسم الرابع وصولًا إلى منتصف الموسم السادس، وظل شبحها أو حضورها داخل الآخرين يحوم حول القصر وشخصياته؛ فتفاصيل شخصيتها الإنسانية أكثر جذبًا من ثرثرة العائلة المالكة في غرف القصر الباردة، "ديانا" شخصية ساحرة وآسرة، وحياتها مليئة بالتحولات والصراعات؛ شابة مُندفعة وجذابة في مُقابل تحفظ وجمود شخصيات القصر الملكي؛ هي الضد الذي يرسم ملامح الدراما في "التاج" ويمنحها الظلال والألوان والحالة الإنسانية.

ع

شخص غير مرغوب فيه!

تكاد حكاية الأميرة "ديانا" تشبه حكاية "سندريلا" أميرة أفلام "ديزني"، مع حبكة أكثر قتامة ونهاية ميلودرامية. هناك فعلًا لقطات تحمل لمحات من عالم "ديزني" الخيالي، رُبما من أشهرها الفأر الغامض الذي التقطته العيون المُدققة في لقطة داخل أروقة قصر الملكة في الموسم الرابع، وفي لقطة (كلوز) واضحة في الموسم السادس؛ ربما كانت إشارة بصرية للفئران التي صادقت "سندريلا"، وخففت وحدتها.

في عالم العائلة الملكية هُناك حدود بين عالم الداخل والخارج؛ ديانا دخلت العالم الملكي ولم تلتزم بشروطه، وأصبحت في الخارج؛ هناك إلحاح درامي على الربط بين قوة العرش، والالتزام بالتقاليد الملكية، مهما بدت قاسية أو مُتعالية.

قبل الخط الدرامي لتمرد وجموح "ديانا" ظهرت خطوط درامية مُشابهة؛ مثل شخصيتي الأمير "فيليب-مات سميث"، زوج الملكة، والأميرة "مارجريت-فينيسا كيربي"، شقيقة الملكة الصغرى، وهي شخصيات قَمعت تفردها ورغباتها لتُلائم قواعد الحياة داخل إطار القصر الملكي، أقدم "فيليب" و"مارجريت" على التضحية بالكثير من أجل التاج، والملكة ضحت بالكثير أيضًا للحفاظ على صورتها ملكة وليست امرأة.

تر

رفضت "ديانا" التضحية، وحاولت أن تبقى داخل العالم الملكي بشروطها وعفويتها، ولكنها أصبحت الأميرة المُتمردة، الشخصية المرفوضة والمطرودة من جنة القصر؛ ظنت أنها "سندريلا" التي تزوجت أمير الأحلام، ولكنها صُدمت حينما اكتشفت أنها مُجرد زوجة مُلائمة لشروط العائلة الملكية، تزوجها الأمير مُكرها؛ لأنه لا يستطيع الزواج بحبيبته، وهي السيدة المُطلقة "كاميلا".

رفضت العائلة الملكية منح "ديانا" أي استثناء من القواعد؛ فلن تكون أفضل من الملك "إدوارد الثامن-ألكس جينينجس"، عم "إليزابيث" الذي ورث الحكم بعد وفاة شقيقه الملك؛ الذي تنحى عن الحكم، ولفظه التاج البريطاني وحرمه من جميع الامتيازات الملكية؛ لأنه تزوج سيدة مُطلقة أمريكية، وكان مثل "ديانا" شخص غير مرغوب فيه. 

تر

عيون الملكة تدمع!

انتهت حَلْقات المسلسل بعد سبع سنوات من عرضه أول مرة في نوفمبر 2016، وتابع جَمهور العمل دراما استثنائية قدمها كاتب المسلسل "بيتر مورجان" في ستة مواسم، وستين حلقة، بدأت بشخصية الملكة "اليزابيث الثانية" داخل بؤرة الأحداث الدرامية في المواسم الأولى؛ منذ تنصيبها ملكة في سن الشباب، مرورًا بالعواصف التي واجهتها كملكة تحمل مسئولية امبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وكامرأة استبدلت قلبها بالتاج الملكي الذهبي، وحلت الواجبات المُقدسة محل المشاعر والعواطف.

لا يصور السيناريو الملكة منزوعة المشاعر تمامًا؛ بل يحاول تصوير حالها ما وراء حوائط القصر؛ تلتزم بمشورات زوجها والبلاط فيما يتعلق بتجاهل جِنازة "ديانا"؛ فهي لم تعد من العائلة الملكة؛ لكنها تقطع أجازتها في إسكتلندا وتذهب إلى لندن، تشارك جموع البريطانيين تأبين الأميرة الراحلة، وصلت مُتأخرة وذلك أفضل من ألا تأتي أبدًا.

ل

نجح مسلسل "التاج" بمواسمه الستة في أنسنه شخصية الملكة، وحاول التقاط لحظاتها العفوية القليلة؛ تلك اللحظات التي تكسر صورتها النمطية لدى العامة؛ هي امرأة التزمت بكل القواعد لتكون جديرة بمهمتها، ولكن هل فعلت ذلك التزامًا بالواجب؟ أم هي فعلًا شخصية باردة المشاعر؟ ترك المسلسل الإجابة مطاطه، وتحتمل الكثير من التأويل؛ قد تلمع عيون الملكة تأثرًا، ولكنها لن تنتحب أو تذرف الدمع الغزير، إنها ملكة حتى في الأوقات التي تختلي فيها بنفسها، ولم يصل خيال "بيتر مورجان" إلى تصور أمر أخر.

في الحَلْقات الأخيرة من الموسم السادس بدأ المسلسل يضفر خيوطه الدرامية المُتناثرة حول الملكة، وعادت الأضواء حول علاقتها المتميزة بشقيقتها، الوحيدة التي تعرف شخصيتها الحقيقية، وكأن السيناريو يُحاول أن يُنصف شخصية الملكة بعد أن دقق بقسوة في كل تصرفاتها وردود أفعالها.

تر

تاريخ مواز للتاج البريطاني!

عَلاقة "ديانا" و"دودي الفايد-خالد عبد الله"، ووالده "محمد الفايد-سليم ضو" مُثلث درامي مواز لوقائع عَلاقة "ديانا" بالعائلة المالكة؛ يصور المسلسل رجل الأعمال المصري يُخطط لزواج ابنه الشاب من الأميرة، ويبدو هذا الهدف في عيون الابن وسيلة للحصول على رضا الأبُ المُتسلط أكثر منها عَلاقة حب وانجذاب؛ يرسم "بيتر مورجان" شخصية الأبُ انتهازي عنيد، والابن شخص هش ويخشى مواجهة والده، وهذه النقطة تُقرب "ديانا" و"دودي"؛ فكل منهما يُحاول الخروج من فلك كيان مُتسلط؛ الأبُ أو التاج الملكي.

تر

قد لا ينطبق على المسلسل وصف الدراما التاريخية تمامًا؛ هو دراما عائلية تجمع بين خيوط درامية مُقتبسة من وقائع تاريخية، وحلول درامية ذكية تسد فجوات القصة، وتُعيد صياغتها برؤية تصنع تاريخ مواز. شخصيات المسلسل كسرت الإطار الرسمي المُعتاد، وظهرت بوجوه تبكي وتغضب وتضحك ولا تكترث كثيرًا للمراسم والبروتوكول، كل ذلك نراه داخل غرف القصور الملكية، ونراه بعين المسلسل الذي حاول أن يكون دراميًا أكثر منه توثيقيًا، وقد خصص المسلسل درامية كبيرة للحديث عن مستقبل التاج؛ حينما منح شخصية الأمير "ويليام" مساحة درامية وخط درامي مُنفصل.

هذا الخيال -المقبول دراميًا- لم يعن تكاسل في السعي لدقة التفاصيل الأخرى؛ وبينها تفاصيل الأزياء والديكور المُلائمة للتاريخ، ونقل الأحداث بشكل قريب للغاية من وقائع التاريخ الحقيقي، وبنفس ملامح أزمنته المُختلفة، وساعد بذخ الإنتاج على ظهور الصورة بشكل مُتقن؛ ربما باستثناء زلات فقر الخيال والدقة في تصوير الأماكن والشخصيات خارج بريطانيا، ومنها مصر في حِقْبَة "جمال عبد الناصر" مثلًا.

تر

مسلسل "التاج" من أفضل الأعمال التي أنتجتها منصة "نتفليكس"، وقد نجحت في صُنع أسطورة درامية جذابة؛ تحمل كثير من عناصر السرد الدرامي الشيق، وصنعت من السياسة الجافة مادة درامية إنسانية واجتماعية؛ لخصت تاريخ بريطانيا في سنوات القرن العشرين، حتى العقدين الأولين من الألفية الثالثة، وقدمت صورة للتراث الملكي العتيق في مواجهة عواصف وتقلبات الزمن المُعاصر.

تر

الصور من حساب المسلسل على موقع X "تويتر"