حاسة التذوق لدى الإنسان.. تتغير مع العمر والتجارب

حاسة التذوق لدى الإنسان.. تتغير مع العمر والتجارب

جمانة الصباغ
23 أغسطس 2023

في صغري، كنتُ لا أحب تناول وجبة اللوبياء الخضراء المقلية والممزوجة مع البصل والطماطم المفرومة أو المعصورة. بل كنتُ أزدري هذا الطبق حقيقةً، ولا أطيق يوم تُحضرَه أمي (وهو كان من الأطباق التي تُحضرَها بداية كل أسبوع) وتُرغمني على تناوله.

اليوم، يُعد طبق اللوبياء بالزيت من أفضل وأشهى الأطباق المُفضلَة على قلبي؛ بل إنني أحرصُ على تحضيره وتناوله بمنتهى الشغف، الذي كانت تتوقعه مني أمي عند تحضيرها لهذا الطبق.

ما السببُ يا ترى؟ هل لحاسة التذوق دورٌ في هذا الموضوع أم هناك أسبابٌ أخرى..

الحقيقة أن هذا الطبق ليس الوحيد الذي لم أستسغه في صغري، وبات في خانة المفضلات لديَ اليوم بعدما كبرتُ واختبرتُ العديد من أصناف الطعام سواء التي اعتدتُ عليها منذ صغري (وأقصدُ بها الأطباق اللبنانية التي تربيتُ عليها في بلدي) أو أطباق أخرى من العالم.

لا أقصدُ أن اللوبياء بالزيت هو الطبق المفضل لديَ الآن، ولا أذكرُ صراحةً الطبق الذي كنتُ أفضلَه في صغري؛ لكن المقصود هنا، هو البحث عن سبب تغيَر حاسة التذوق لديَ، وربما تطورها مع الوقت والتجربة، لتتغير إيجابًا نحو أطعمة لم تكن مستحبةً لدي سابقًا.

إن كنتِ مثلي عزيزتي، أدعوكِ للتعرف معي على أسباب هذه التغيرات والتحولات في حاسة التذوق لدينا؛ من خلال معلومات جمعتها من مقالة بعنوان How and Why Your Tastebuds Change Over Time للكاتب Alex Brown والمنشورة على تطبيق Classpass.

براعم التذوق لدينا تختلف مع الوقت والتجربة واحتياجات الجسم
براعم التذوق لدينا تختلف مع الوقت والتجربة واحتياجات الجسم

ما هو الطعام المفضل لدينا

فكري في طعامكِ المفضل حقًا..اغمضي عينيك وفكري في العملية بأكملها لتوقع الطعام وقضمه ومضغه وتذوقه وابتلاعه. أمرٌ عظيم، أليس كذلك؟ الآن فكري في طعامكِ المفضل منذ الطفولة. هل هو نفسه؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، كيف يختلف إذن عن المفضل لديكِ الحالي؟

لنجرب شيئًا آخر: فكري الآن في طعامكِ الأقل تفضيلاً.. شيءٌ لا يمكنكِ حتى أن تقربيه من شفتيكِ لأنه يثير اشمئزازك. هل تغيَر هذا الأمر منذ الطفولة؟ هل من الممكن أن تكون مُفضلَتك الحالية هي الأقل تفضيلًا لديك عندما كنت صغيرةً، كما حدث معي؟!

يبدو أن التذوق في حال تغيَر مستمر؛ فالتذوق هو تجربةٌ حسية معقدة، لا نوليها اهتمامًا كبيرً في مرحلة مبكرة، لكنها تتطور وتتغير مع تغيرنا وتعدد تجاربنا في تناول الطعام وتذوقه في أماكن ومراحل مختلفة. ما يعني أن حاسة التذوق يمكن أن تشهد تغيرات مستمرة على مدى الحياة.

فإن كنتِ مثلًا، تحولتِ مؤخرًا لتذوق براعم بروكسل (بعد أن تكوني كرهتهم طوال حياتك) أو وجدتِ نفسكِ فجأة تستمتعين بطعم الفلفل الأحمر أو المانجو، وليس لديكِ فكرةٌ بتاتًا عن السبب – تابعي القراءة للحصول على تفسير محتمل.

فيزيولوجيا التذوق

بالرغم من أن التذوق يظهر بشكل واضح في الفم، إلا أنه نتاج النشاط الذي يحدث في أجهزة الاستشعار وخلايا الجسم المادي، إضفة إلى التنشيط الكيميائي العصبي والذاكرة؛ ويعتمد بشكل كبير على حاسة الشم لدينا.

كما بتِ تعلمين، هناك 5 فئات أساسية من الطعم هي: الحلو والمالح والمر والحامض والأومامي (المعروف أيضًا بإسم المالح). براعم التذوق هي المُستقبلات المجتهدة التي تنقل إلى دماغنا ما وضعناه للتو على ألسنتنا؛ وتقوم هذه البراعم بتحديدالمواد الكيميائية المعينة في الأطعمة، ثم تحليلمظهرها العام، وإرسال إشارات إلى الدماغ يتم ترجمتها على أنها "حلوة" و"مالحة" وما إلى ذلك.

مع ضرورة الإشارة إلى أن النكهة والطعم ليسا نفس الشيء؛إذ يتم اكتشاف طعم السكر ونكهة الفراولة باستخدام أنظمة حسية مختلفة. تجربة التذوق تتم عبر المستقبلات الذوقية ("التذوق")، وهي براعم التذوق؛ وفي الوقت نفسه، يتم تجربة النكهة من خلال مستقبلات الشم ("الرائحة"). في حال عانيتِ من حاسة شم ضعيفة، يمكن أن يؤثر ذلك على تجربتكِ مع الطعام؛ ربما لا تزالين تشعر بالحلاوة عند شرب العصير من الفراولة، ولكنكِ قد تجدين صعوبةً أكبر في تحديد أنه جاء من الفراولة.

تتطور حاسة التذوق لدينا مع الوقت والتجارب، وأيضًا بسبب تبدل الاحتياجات؛ فقد كشفت دراسةٌ حديثة للكيمياء الحيوية للذوق، عن وجود مُستقبل منفصل لتحديد الغلوتامات، وهو حمضٌ أميني يتواجد في البروتينات، ويمنح الطعام طعم أومامي قوي. وبحسب الدراسة، فقد يكون هذا المستقبل تطورَبسبب بحث البشر عن كمية كافية من البروتين لتناولها. بالمثل، تشير الأطعمة المالحة إلى الجسم بأنها تحتوي على الصوديوم؛ وهو عنصرٌ غذائي أساسي للبقاء على قيد الحياة.

حوافز مثل الاصدقاء وتجربة الأشياء الجديدة تساعدنا على تطوير حاسة التذوق لدينا
حوافز مثل الاصدقاء وتجربة الأشياء الجديدة تساعدنا على تطوير حاسة التذوق لدينا

براعم التذوق فائقة العدد

عند الولادة، يكون لدى الشخص العادي 10000 براعم تذوق، تتجمع في الحُليمات (نتوءات صغيرة) على اللسان.ويمكن أن تحتوي كل حُليمة على ما بين 1 إلى 700 برعم تذوق، فيما يحتوي كل برعم على 50 إلى 80 خلية متخصصة،وتعمل بشكل متناغم لتحديد الأذواق.

قد يكون لدى المتذوق الفائق، أو الشخص الذي لديه حساسيةٌ زائدة للأذواق الدقيقة والتركيبات الكيميائية، ضعف عدد براعم التذوق؛ في حين قد يكون لدى المتذوقين الأقل من المتوسط 5000 فقط. كما أن تركيب وتنشيط براعم التذوق وخلاياها المتخصصة الفردية، يختلف أيضًا من شخص لآخر، ويؤثر على شدة التذوق الذي يجربه المرء.

فلنعد إلى السؤال الأول: ما هي أطعمتكِ المفضلة منذ الطفولة؛ هل تميلين أكثر نحو الأطعمة السكرية أو الكريمية أو المالحة أو غير النباتية بشكل عام؟ لستِ وحدكِ.. كأطفال، نحنُ حساسون للغاية للتذوق لسببين: يساعدنا على تجنب السموم المحتملة، لهذا يكون مذاق الخضار ذات الأوراق الخضراء الداكنة أكثر مرارةً؛ ويساعدنا على التكيف جيدًا مع السكر، وهو ما سنُعبَر عن تفضيل قوي له. . كما هو الحال في الفاكهة، تشير الحلاوة إلى الجسم بأن الطعام من المحتمل أن يحتوي على نسبة عالية من العناصر الغذائية والطاقة، والتي يتطور الطفل البشري للبحث عنها لزيادة فرص بقائه على قيد الحياة. ولنفس الأسباب، يتمتع الأطفال أيضًا بحاسة شم قوية.

إذن هل للتذوقعلاقةٌ تامة بالوراثة؟

في حين أن العديد من تفضيلات الذوق يتم تحديدها وراثيا - مثل تلك التي تتعلق بعدد البراعم لديكِ أو أي منها يتم تنشيطه بشكل متناغم - فإن معظمها يعتمد على الخبرة والثقافة. يبدأ تشكيل تفضيلات الذوق في الرحم ويستمر طوال حياتنا، معتمدًا إلى حد كبير على ما نتعرض له وكيفية ارتباطنا بتلك التجارب الغذائية المبكرة

الخبرة وتطوير الذوق

فيما يخص أي طعام جديد، خاصةً تلك الأطعمة التي تحتوي على مجموعة فريدة أو مُعقَدة من الأذواق؛ هناك نافذة من الانتظار عليها البقاء فيها قبل أن يتعلم الجسم قبولها. وهناك ضرورةٌ بيولوجية تُفسَر "فترة انتظار الاستحواذ".. في الأساس، هذه هي فرصتكِ لتقييم الطعام واستبعاد عدم تحمله أو الحساسية أو السموم. وعندما يقترن ذلك بالقبول العاطفي (الطعام يجعلنا نشعر بالسعادة)، والقبول الظرفي (تجربة الطعام في موقف يُشعرك بالمتعة أو الأمان)، والقبول الفيزيولوجي (الطعام لم يُسبب اضطرابًا في الجهاز الهضمي أو رد فعل تحسسي)، يمكننا أن نتعلم تقدير الطعام.

ما كان نحبه في الصغر قد نكرهه عند التقدم بالعمر
ما كان نحبه في الصغر قد نكرهه عند التقدم بالعمر

ما الذي يغير حاسة التذوق لدينا مع مرور الوقت؟

هل تتذكرين براعم التذوق المذكورة أعلاه، تلك التي تشتغل ضمن مجموعات معينة لتحفيز تجربة أذواق أو نكهات معينة؟ هناك العديد من الأمور التي تحدث لها مع تقدمنا بالعمر.

هل تنمو براعم التذوق من جديد؟

ببساطة، تموت براعم التذوق لدينا. تمهلي.. الأمر أقل تطرفًا مما يبدو. تموت براعم التذوق لدينا وتنمو مرة أخرى كل أسبوعين تقريبًا.

عند سن 40 تقريبًا، تتباطأ هذه العملية؛ لذلك بينما تستمر البراعم في الموت، ينمو عدد أقل مرةً أخرى. عددٌ أقل من براعم التذوق؛ يعني طعمًا أكثر رقةً، ومزيجًا مختلفًا من الخلايا النشطة عندما نتذوق طعامًا ما. "التنشيط المُركب" الذي كان مذاقه لذيذًا في السابق، قد لا يكون رائعًا في تنشيطه الجديد اللطيف - والعكس صحيح. فيما تعيد مُستقبلاتك المتبقية تنظيم نفسها لتفسير المذاق، فإن التحول الدقيق في كيفية الإشارة إلى الفطر، على سبيل المثال، قد يكون مذاقًا رائعًا فجأة.

ماذا بخصوص حاسة الشم؟

تتضاءل حاسة الشم لدينا مع التقدم بالسن. في الواقع، حاسة الشم هي الحاسة الأكثر تأثرًا بالشيخوخة؛ وهذا أيضًا ما يُغيَر كيفية تفسيرنا للطعام وما إذا كنا نحبه أم لا. قد يعني ذلك أننا نبدأ في الانجذاب نحو الأذواق الأقوى والأكثر لذةً، حيث سيكون من الأسهل إدراكها وأقل احتمالية تسجيلها على أنها لطيفة.

تأثير ما نأكله بالفعل

نظرًا لأن ما نأكله بشكل منتظم يُشكَل تفضيلات أذواقنا، فقد نجد أنفسنا أقل ميلًا إلى تفضيل الخضار العادية أو السلطات غير المتبلة. لماذا؟ النظام الغذائي الأمريكي القياسي مليءٌ بالأطعمة المصنعة، حيث يكثر السكر والملح والزيت. والاستهلاك الزائد لهذه الأطعمة يمكن أن يُغيَر تفضيلات الجسم، مما يرفع منحاسة المذاق لدينا. إذا تناولنا طنًا من الملح، فسنحتاج إلى المزيد من الملح في المرة القادمة لتقريب نفس التجربة. نرى هذا كثيرًا في الأطفال، على وجه الخصوص..إذ أي عقل سيختار الكرنب مثلًا بعدما تكون تجربته الأخيرة مع الأطعمة الحلوة كالشوكلاته لذيذةً للغاية؟ بالتأكيد، سوف يرفض الدماغ تناول الكرنب؛ ويثير الرغبة الشديدة في الحصول على طعم أكثر كثافة وإمتاعًا بدلاً من ذلك.

كيفية إعادة تدريب حاسة التذوق

إن ما نُفضلَه في وقت مبكر وما نفضلَه لاحقًا في الحياة، سيختلف حسب الشخص والخبرة والذوق. لكننا لن نعرف كيف تغيرنا، إذا لم نجرب أطعمة جديدة. الخبر السار هنا، هو أنه يمكننا تدريب ذوقنا على أن يحب ما نرغب فيه، خاصة إذا كان لدينا حافزٌ خارجي لتجربته؛ مثل الصديقة اللطيفة التي تمارسين معها رياضة ركوب الدراجات والتي تستمر في دعوتكِ لتناول السوشي معها، على الرغم من كونكِ لم تجربي هذا الطعام بتاتًا من قبل.

بإمكانكِ تدريب براعم التذوق لديك على تفضيل نكهات مختلفة، بما فيها تلك التي لم تعجبك عندما كنت أصغر سنًا؛ من خلال تناولها بشكل متكرر من خمس إلى عشر مرات. بالإضافة إلى ذلك، ومع التقدم في السن؛ تأتي المعلومات والتعليم. وعندما نبدأ في معرفة الأطعمة الأفضل لأجسامنا والأطعمة غير الصحية بالنسبة لنا، نبدأ في بناء قراراتنا الغذائية على هذه التصفيات، بدلًا من الاعتماد فقط على الذوق. وعندما نبتعد عن الأطعمة التي تحتوي على نسبة عالية من السكر والملح في سنوات شبابنا، سوف تتكيف أذواقنا مع ما هو أكثر اتساقًا عند الكبر.

يمكننا تشجيع الجسم على تفضيل الأذواق الطبيعية – مع فوائدها الغذائية المضمنة – عن طريق تحويل نظامنا الغذائي إلى أطعمة أبسط، ولكنها لا تزال لذيذة. كما بوسعنا استخدام الاستهلاك المتكرر والمحفزات مثل الصحة الجيدة واتباع نظام غذائي متنوع، لإعادة تدريب براعمنا، وفي النهاية، عاداتنا الغذائية.