‏رؤية نقدية ـ "ليل خارجى"..عن المدينة المتوحشة وسكانها المضطربين

تبدو القاهرة كمدينة متوحشة أو هى بالفعل مدينة متوحشة، رواد شوارعها ليلاً مختلفين عنهم صباحًا، ثرية بالنماذج البشرية والأنماط الإجتماعية، أطرافها غير وسطها، طبيعتها متقلبة لذلك تتسع المساحة التى يمكن أن تتناولها الأفلام السينمائية التى تصورها، فرسان الواقعية الجديدة فى مصر وغيرهم من المخرجين كانت القاهرة هى بطلة معظم أفلامهم، "ليلة ساخنة" لعاطف الطيب عام 1995 و"أرض الأحلام" لداوود عبد السيد عام 1993، وقبلهم "ضربة شمس" لمحمد خان عام 1980 هي نماذج رائدة لأفلام تركز على القاهرة فى السنوات الأخيرة قبل الألفية الثالثة، لكن مع التغيرات المستمرة التى تطرأ على المدينة العريقة تتحول ليالى القاهرة بشكل مستمر وتتحول معها طبيعة سكانها باختلاف الزمن "ليل خارجى" للمخرج أحمد عبد الله السيد يرصد القاهرة فى أحدث أثوابها، قاهرة خان فى الثمانينات اختلفت عن قاهرة داوود قرب منتصف التسعينيات الكثير من التفاصيل والتغيرات حدثت فى 30 عام سمحوا بظهور جيل جديد مختلف بشكل كامل عمن سبقوه بقضاياه وذوقه وطريقة قضاءه وقته فى ليل القاهرة.

عبد الله عبر عن هذا اليوم فى تاريخ القاهرة الذى ربما لا يعد علامة فارقة فى عمرها وبالتأكيد لن يستمر على نفس المنوال وما هى إلا سنوات ويتغير شكله من جديد، لكن تظل فى النهاية هذه القراءة من عبد الله ابن هذا الجيل الذى يعانى من نفس العوامل المؤثرة والتقلبات، يبدو هذا جليًا فى اختياره ورسمه لشخصيات فيلمه الذى كتب السيناريو له شريف الألفى.

لقطة من فيلم "ليل خارجي"

 مو (كريم قاسم) ومصطفى (شريف دسوقى) وتوتو (منى هلا) هم عصب الفيلم 3 شخصيات من بيئات مختلفة ومناطق حياتية متنافرة على الرغم من أن جزء واحد من المدينة يجمعهم هو منطقة المعادى وبجانبهم عدد آخر من الشخصيات الفرعية التى تدفع دقائق زمن المغامرة فى ليل القاهرة.

مو مخرج شاب صاحب فيلم واحد لم يلق قبول أو نجاح مضطر للعمل بشكل لا يرضى عنه للتواجد والمادة، ويتثاقل فى الدفاع عن قضية رأى ضحيتها روائى شاب، وتظل محاولات صديقة مشتركة تدعى دينا (دنيا ماهر) فى دفعه وحثه للحديث عن القضية مستمرة وتنتهي بنقاش خلافى بين كلاهما، الحدثان فى حد ذاتهما يكشفان حالة مو ما بين رفضه لما يفعل وفى الوقت نفسه يحاول التأقلم مع متطلبات السوق من ناحية ومن الأخرى عدم شعوره بالقضية التى تناضل من أجلها صديقته ويتعامل معها بنفس الفتور الذى يتعامل به من يقفون خلف الإعلان الذى يخرجه ناحية آرائه الفنية.

تتداخل المشاهد من الحدثين مع الحديث عن الفيلم الذى يحلم به مو والذى يعتبره ملاذه الآمن أو بمعنى أصح ما يدفعه للعيش أملاً فى تنفيذه، هنا وجود مصطفى عابر ولم تظهر تفاصيله سوى أن الجميع ومعهم القاهرة بأكملها تستعد لنفض إرهاق يوم عمل، زحام وقت الذروة عصرًا الذى يتفاداه مصطفى بأخذ إختصارات تظهر معرفته بشوارع القاهرة، الجميع ذاهب لنقطة محددة ومن بعدها إنطلاقة جديدة بشكل مختلف لليل القاهرة حتى مصطفى نفسه يبدل السيارة من ملاكى مخصصة لعمله الصباحى فى التعامل مع عملاء محددين من فئة معينة، إلى تاكسى أجرة مخصص لمن يطلبه هذا التغير أيضًا يلقى بظلاله على التالى من أحداث التى تقود إلى إحدى بطلات ليل القاهرة العتيدة والتى لا يخلو منها تقريبًا فيلم عن القاهرة ليلا وهى فتاة الليل، فى "ليل خارجى" هى توتو التى قضت ليلة معتادة فى القاهرة مع جيمى (أحمد مالك) أبن أخت مصطفى وتستعد لقضاء ليل آخر مع مصطفى ومو.

إذن نحن أمام مخرج حالم ومصطفى سائق "ابن بلد" حسب التعبير الدارج فى العامية المصرية خلفيته التعليمية متوسطة فى أحسن الأحوال خبرته قادمة من التجريب والاستكشاف وخوض المشاكل وفتاة تشق طريقها فى العالم السفلي، ما يجمع الثلاثة والشخصيات الفرعية التى ترتبط بثلاثتهم هو المكون ليوم من أيام القاهرة فى الوقت الحالى، ليس ساحرًا ولا شاعريًا ولا حتى مفعم بالحيويه كما الحال مع تجسيد ليالى القاهرة فى أفلام سابقة، نستطيع القول أنه بائس غير مكتمل ومضطرب طوال الوقت، لا تستمر لحظة جميلة أو مثالية بين طرفين من مثلث الرحلة أو حتى ثلاثتهم أكثر من لمحات، بعدها يتدخل أحدهم لتدميرها أو يفعل ذلك عنصر خارجى، دائمًا أحلام ومشاعر مجهضة لا يكتمل غزل مصطفى لتوتو إلا ويقطعه مو، مع كل هذه الأحداث يحلم مو بفيلمه ويتخيل بطله الحالم بالثراء لأجل عائلته التى يتركها ساعيًا عن طريق الهجرة غير الشرعية لكن حتى هذا الحلم يصطدم بصخرة الواقع عندما يلتقي خياله مع الحقيقة فى حفل الزفاف على ضفة النيل.

منى هلا في "ليل خارجي"

لا يغالي الفيلم كثيرًا ولا يلجأ للتعقيد أو إضفاء فلسفات عميقة، النهج البسيط فى الحوار والتنفيذ بشكل عام واضح وربما يكون ذلك من أكثر عناصر القوة فهذه البساطه هى الوسيلة  الأمثل للتعبير عن التداخل والمتناقضات المميزة للقاهرة كمدينة، بلا تفسير مو يحن لحبيبته التى انفصل عنها وفجأة يفتر حنينه ويعتذر عن لقاءها، ينجذب لتوتو ويتركها فى النهاية، يتشاجر مع مصطفى ويعود للدفاع عنه، مشاعر بسيطة مبهجة أو محزنة لا يهم، المهم أنها ترسم صورة كبيرة عن طبيعة هذا المكان وهذا الجيل وربطهم بهذا الزمن تحديدًا بمشاكله وتطلعاتها المادية، وحتى طبيعة معالجة فنونه عند مختلف الطبقات الاجتماعية، طريقة التعامل مع الإعلان والمنتج وممثل الإعلان عند مو والأغانى وشهرة جيمى عند مجتمع مهمش بسبب اعجابهم بطريقة التقاطه لصورهم التى جعلت منه فنان فى نظرهم ومنحه سطوة فى عالمهم.

مشهد من "ليل خارجي"

هذا الجيل تحكمه تفاصيل أخرى ويهتم بقضايا مختلفة ويشعر بطريقة مختلفة بعيدة كل البعد عن مثالية شمس وسيد ونرجس، "ليل خارجى" يتماس مع هذه الأفلام ويذكر بها ويمنحها الثناء والشكر لا يقلدهم أو يحاول إثارة الحنين بالذكريات على العكس يرسم واقع جديد يسمح بالمقارنة بين الآن وما قبل 30 عام، هذا البناء على بساطته إلا انه يحتاج لممثلين، يعتمد بشكل دائم على قدراتهم فى توصيل المشاعر والتقلبات المتعددة للشخصيات فى الرحلة، والتى تحدث فى وقت قصير وبالتالى إختيار الممثلين يجب أن يكون مميز من قبل عبد الله ليخرج الفيلم بشكل جيد، شريف دسوقى الذى حصد جائزة التمثيل المستحقة فى مهرجان القاهرة الـ40 عن دوره فى الفيلم فعلى الرغم من الخبرة المسرحية إلا أن ماقدمه على الشاشة يناسبها تمامًا قدم الدسوقى الشخصية خالية من المبالغات التى تصاحب وتناسب الأداء التمثيلى على المسرح عادة وهو ما لا يستطيع الكثير من المسرحيين التخلص منها. لكن مع المنهج الذى اتبعه المخرج والذى كشف عنه الدسوقى فى تصريحاته يبرز إلى حد كبير طريقة الأول فى إدارة الممثل فعلى الرغم من إعتماد المخرج على سيناريو تم تعديله مرات عديدة إلا انه لم يلتزم بالنص كثيرا وسمح للممثلين بحالة من الارتجال المسموح به فى حدود النص، هنا عبد الله لم يترك النص ولم يحد من قدرات ممثليه لكن بالقدر الذى يسمح له أيضًا بالتحكم مما سمح لأصحاب الموهبة الطاغية على إختلاف خبراتهم وعلى رأسهم الدسوقى ومنى هلا وبسمة وأحمد مالك بالتألق تحت ظل هذه المعادلة وفى نفس الوقت وازن بين أداء على قاسم الأكثر من جيد فى مشاهد صامته تعتمد على خيارات محدودة جدًا لأدواته كممثل اغلبها تعبيرات الوجه وبين توظيف أداء كريم قاسم المتوسط عادة فى الأعمال الفنية الاخرى ليظهر بهذا الشكل المتوازن ما بين اصحاب الأداءات الأفضل منه والذى يشاركهم مشاهد طوال مدة الفيلم وعلى درجة أقل نفس الكلام ينطبق على عمرو عابد الذى يعد أضعف أداء فى الفيلم لكنه من ناحية اخرى مناسب للمشهد والشخصية بشكل ما خرج بالضبط كما يحتاجه عبد الله ليعبر عن شاب يمثل نموذج لفئة اجتماعية تعد حاليًأ ظاهرة تمثل مؤشر خطر ولا تحمل الشكل المعروف المعتاد للإجرام الذى كان يظهر فى الأعمال الفنية سابقًا.