 
                  
                                 هل الحِرفة عدوّة التقنية أم حليفتها في صناعة الأثر؟
                                  
                          
                      إعداد: Nora AlBesher
لم أؤمن يوما بحكاية الصراع بين اليد والتقنية. فالحِرفة ليست كيانا هشّا مهددا بالاندثار، والتقنية ليست وحشا جامدا يسعى إلى ابتلاعها. ما أراه هو قوة مزدوجة، طاقة تتدفق من الضفتين معا، حيث تمنح الحِرفة التقنية مضمونا ومعنى، وتمنح التقنية الحِرفة حضورا وانتشارا يتجاوز حدود الورش والأسواق. إنها علاقة تكاملية تضمن استمرار الإبداع وقدرته على التأثير.
الحِرفة ليست مجرّد مهارة يد، إنها ذاكرة حيّة تُترجَم على سطح المادة.. في نحت رخام متقن، أو قصّة فستان مُعتمدة على القص المائل، أو جلد مشغول يحمل أثر الصنعة وإيقاع الزمن. لقرون طويلة، ظلّت هذه اللغة أسيرة المكان. صائغ في جايبور، أو خيّاط في باريس، أو نافخ زجاج في مورانو، لم يتجاوز صوته أسوار مشغله. عبقريته قد تكون خالدة، لكن حضورها كان مهددا بالغياب عند حدود السوق الضيقة. ثم جاءت التقنية، لا لتُسكت اليد، وإنما لتفتح لها قنوات جديدة تعبر من خلالها وتجد صداها.

حين تتقاطع اليد مع الخيط الرقمي
لطالما جرى تصوير العلاقة بين الحِرفة والتقنية كمعركة. الأولى بطيئة، ونقية، وإنسانية، والثانية سريعة، وباردة، وميكانيكية. هذا الانقسام مجرّد وهم. فالنول في زمنه كان ثورة تكنولوجية وآلة الخياطة لم تُلغِ العمل اليدوي، بل وسّعت مداه. حتى الكاميرا، التي قيل إنها قتلت الرسم، صارت الوعاء الذي حفظ أدق تفاصيل الأزياء الراقية ووزّعها على العالم.
اليوم، حين نتحدث عن التقنية في الموضة، نتحدث عن منظومات صناعية وتجارية ورقمية تدعم وتُبقي على تفوّق الحِرفة. التقنية ليست خصما، إنها الحامل الذي يمنح الحِرفة حياة ممتدة.

تصوير Pierre Crom بواسطة Getty images
الخوارزمية كأرشيف
المـفـــارقــــة أن الخـــــوارزمــيـــــات، المتــهــمــــة بتـــسطيــــــــح الثقافة إلى محتوى عابر، صارت في الوقت نفسه أرشيفا متجددا للحِرفة. مقعد صائغ في جدة، نول ناسِجة في واهاكا، أو إبرة كوتور في باريس، كلها يمكن أن تُبَث مباشرة لملايين. ما كان يوما سريا صار متاحا. المنصات الاجتماعية والمتاجر الإلكترونية والمعارض الافتراضية لم تفرّغ الحِرفة من قيمتها، منحتها انتشارا أوسع.
هكـــذا تــــولـــــد للحِـــــرفـــــة "حيــــاة ثانية" في الفضاء الرقـــمــــي، وجــــود لا يــــزول، حيــــث تستـــمـــــر الــقــطـــع والطقوس والرؤى. فستان استغرق تطريــــزه ألفي ساعة قد يرتدى ليلة واحدة، لكنه يعيش بعد ذلك بلا حدود، يتحوّل إلى رصيد ثقافي يتجاوز المناسبة التي وُجد من أجلها.
الورشة بلا جدران
البيع عبر الإنترنت لم يُضعف فرادة الحِرفة، وإنما فتح أفقها. دار مثل "بوتيغا ڤينيتا" تصون السرية كجزء من سحرها، ومع ذلك، فإن نسيجها المتقاطع intrecciato أصبح أيقونة بصرية تُرى وتُعاد قراءتها عالميا عبر منصات التحرير والعروض الرقمية المحدودة. والحِرفيون السعوديون الذين يدمجون النسج التقليدي في صياغات معاصرة يجدون في التقنية واجهة عالمية تتيح لهم الوصول من دون أن يخسروا أصالتهم.
الأتيليه لم يعد مكانا مغلقا، وإنما أصبح شبكة متصلة. أدوات الحِرفة التقليدية تعمل اليوم إلى جانب الأدوات الرقمية، واليد التي تُبدع تجد دعما من الخوارزميات التي تنقل عملها إلى العالم. والحِرفي الذي كان يعتمد بالأمس على راعٍ أو وسيط، صار اليوم قادرا على إبراز إبداعه مباشرة عبر منصاته الخاصة. التقنية لم تُلغِ الورشة، وإنما وسّعت فضاءها وجعلتها بلا جدران.


من الحِرفة إلى الأيقونة
التاريخ يثبت أن كل قفزة كبرى في الموضة ارتكزت على بنية تكنولوجية موازية. طرق الحرير، المطبعة، المجلات العالمية، كلها كانت قنوات لانتشار الحِرفة. واليوم، المنصات الاجتماعية والتجارة الإلكترونية هي الامتداد الجديد لذلك الإرث. الحِرفة لا تخضع لهذه الوسائط، بل تعبر من خلالها لتُكرّس مكانتها. التقنية من دون يدٍ تُبدع تصبح ناقصة الروح، والحِرفة من دون تقنية تبقى أسيرة حدودها. فالعلاقة بينهما تكاملية لا تراتبية.
معجم جديد للقيمة
الخطر ليس في أن تمحو التقنية الحِرفة، بل الخطر أن نتجاهل قيمة التلاقي بينهما. دور الأزياء الكبرى والحِرفيون المستقلون مدعوون لرواية قصصهم كرحلة، لا كمنتجات. قصص تُروى عبر الصور، وتُشفَّر في الخوارزميات، وتُبنى على بنى التجارة الرقمية.


لم يعد معيار القيمة يُقاس فقط بعدد الغرز أو الأحجار، بل بقدرة الحرفة على التكيّف، وعلى البقاء في الذاكرة الجمعية. التقنية ليست عدو الديمومة، إنها بنيتها التحتية.
الحِرفة خالدة، لا لأنها تقاوم التقنية، بل لأنها تجري عبرها. نول اليوم ليس مجرد آلة، إنه خوارزمية وموقع ومنصة. قنوات وتيارات تتدفّق فيها اليد، وتُضاعف أثرها، وتُكرّس سيادتها في زمن لا يترك مجالا للصمت..
 
             
               
 
           
               
 
           
              