مديرة الطهاة نورة الغشيري

مديرة الطهاة نورة الغشيري تكتب لـ"هي": من السعودية إلى أوساكا وما بينهما

مجلة هي
22 أكتوبر 2025

في إكسبو أوساكا 2025 كان عليّ أن أخوض تجربة مختلفة تماما عن أي تجربة مررت بها من قبل. اليابان لم تعرف المطبخ السعودي سابقا، لم يكن هناك مطاعم سعودية أو حتى فكرة مسبقة لدى الجمهور الياباني عن نكهاتنا. كنت أقف أمام فرصة ومسؤولية في الوقت نفسه: أن أقدم مطبخا كاملا لم يُكتشف بعد، وأن أفتح نافذة جديدة على ثقافتنا من خلال الطهي.

منذ اللحظة الأولى، كنت أدرك أن النجاح لا يكمن في نسخ الوصفات كما هي، ولا في التخلي عنها لإرضاء الآخر، بل في الموازنة بين الأصالة والتأقلم. فعلى سبيل المثال، حين قدمنا طبق المرقوق، أبقينا الخضار أقل طهوا مما نفعله عادة في السعودية، ليكون أقرب إلى الذائقة اليابانية التي تميل إلى النكهات الطازجة والقوام المقرمش. ومع ذلك، ظل الطبق يحمل روح المطبخ النجدي الذي ولد فيه.

أما المفاجأة، فكانت في الضيافة. في السعودية، للشاي والقهوة دور يتجاوز حدود المشروب، إنهما رمز للعطاء والكرم. لذلك اخترنا أن نقدم في أوساكا مزجيات شاي سعودية مستوحاة من بيئاتنا المختلفة: مزيج من الحبق، والورد الطائفي، والنعناع، والدوش. عندما تذوق اليابانيون هذه التوليفات العطرية، رأوا فيها طقسا يعادل مراسم الشاي الياباني التقليدي، لكنه بروح سعودية خالصة. بالنسبة إلي، كانت تلك اللحظة تجسيدا رائعا لما يعنيه أن يتحول الطعام إلى جسر حضاري يربط بين ثقافتين مختلفتين.

البدايات: رحلة داخل السعودية

لكن رحلتي مع المطبخ السعودي لم تبدأ في أوساكا، بل بدأت من الداخل، من أرض المملكة نفسها. قبل أن أخرج بهذا المطبخ إلى العالم، أردت أن أكتشف تنوعه وأسراره. ولهذا زرت ١٢ منطقة سعودية، وجمعت من كل منطقة طبقا أو وصفة تعكس هُويتها.

في جازان، ذات الأرض الخصبة، وجدت المائدة غنية بالخضراوات الطازجة والأطباق التي تعتمد على وفرة الزراعة. في المقابل، في الرياض ذات الطبيعة الصحراوية، كان المطبخ يعتمد على الأرز والمواد الجافة، في انعكاس لشح الموارد وقسوة البيئة. وهكذا اكتشفت أن المطبخ السعودي ليس مجرد طعام، بل هو تاريخ مكتوب بالنكهات، وذاكرة تنقلها الأمهات والجدات، وجغرافيا تتجلى في كل لقمة.

ومن هنا جاء مشروع "مطعم إرث" التي أطلقته هيئة فنون الطهي، والذي كان لي شرف أن أكون جزءا منه. تهدف هذه المبادرة إلى تشجيع الطهاة المحترفين والهواة على حفظ وتوثيق الوصفات السعودية، ليس فقط كأطباق، بل كجزء من تراثنا الوطني الذي يستحق أن يُصان ويُروى للأجيال المقبلة.

محطة دبي: الأصالة بلمسة عصرية

كانت أول محطة عالمية لي مع هذه المبادرة في إكسبو دبي 2020. الجمهور هناك يعرف المطبخ السعودي، لكنه لم يكن يتوقع أن يراه بملامح جديدة. أردنا أن ندهشهم، وأن نثبت أن الوصفات التقليدية قادرة على أن تعيش وتُعاد صياغتها من دون أن تفقد هُويتها.

قدمنا طبق السليق بأسلوب مستوحى من الريزوتو الإيطالي، فكان مألوفا وغريبا في الوقت ذاته. كما ابتكرنا آيس كريم سعوديا بنكهات محلية أصيلة مثل التمر واللبن، والبرتقال واللقيمات. هذه التجربة لاقت نجاحا واسعا، بل وحصدنا بفضلها جائزة إكسبو، لأنها عبرت عن قدرة المطبخ السعودي على أن يكون معاصرا دون أن يتخلى عن جذوره.

كانت دبي بالنسبة لي درسا مهما: أن المطبخ ليس جامدا، بل هو حيّ وقابل للتطور. وأن السر يكمن في تقديم الجديد مع الحفاظ على الجوهر.

من الداخل إلى العالم

ما بين دبي وأوساكا، وما بين السعودية والعالم، تغيرت نظرتي إلى المطبخ السعودي. أدركت أن ما نحمله ليس فقط وصفات، بل رواية وطن. كل منطقة تحكي قصتها بطبق، كل بيئة تترك بصمتها في المذاق، وكل جيل يضيف لمسته الخاصة.

وعندما نشارك هذه الرواية مع العالم، فإننا لا نقدّم مجرد طعام، بل نفتح بابا للحوار الثقافي. ففي أوساكا، كان المطبخ السعودي بالنسبة لليابانيين نافذة جديدة على ثقافة لم يعرفوها من قبل. وفي دبي، كان وسيلة لإعادة اكتشاف ما هو مألوف بعيون مختلفة. وفي السعودية، كان رحلة للبحث عن الذات والهُوية.

الطعام كرواية وهوية

اليوم، أؤمن بأن المطبخ السعودي ليس مجرد وصفات على ورق أو أطباق على مائدة. إنه رواية تُحكى عن تنوعنا، وعن أصالتنا، وعن المستقبل الذي نبنيه بثقة وحداثة. لقد تحول بالنسبة إلي إلى لغة دبلوماسية ناعمة تصل إلى القلوب قبل العقول، وتبني جسورا لا تبنيها الكلمات وحدها.

من السعودية إلى دبي، ومن دبي إلى أوساكا، حملت هذه الرواية معي في كل مكان. وفي كل مرة، وجدت أن العالم مستعد للاستماع، طالما تحدثنا إليه بلغة صادقة، ونابعة من الأرض والذاكرة والهُوية.