
خاص "هي": فوزية النافع ومسيرة أكثر من 70 عاما في ريادة الأزياء السعودية
في مكالمة هاتفية ملهمة، في بداية صيف 2025، امتد الحديث مع المصممة السعودية الرائدة فوزية النافع ليتحوّل إلى جلسة توثيق صادقة، ومفتوحة، وعميقة، جمعت بين الشغف، والكفاح، والذكريات التي لم تُكتب من قبل. من خلال حواري مع المصممة السعودية التي أخذت الموضة السعودية إلى آفاق لم يصلها أحد قبلها، نلقي الضوء على قصة سيدة صنعت فرقا حقيقيا في مشهد الأزياء السعودي قبل أن تكون لهذا القطاع ملامح واضحة، وكانت من أوائل من قدموا نموذجا مهنيا متكاملا محليا قبل الوصول إلى العالمية. في منتصف حديثي معها، قاطعتني، وقالت: "لماذا تناديني دكتورة؟"، قالتها لي باستغراب ممزوج بابتسامة فيها شيء من الخجل وشيء من الفخر. في تلك اللحظة، لم يكن ندائي لها "دكتورة" مجرد مجاملة، بل كان اعترافا عفويا بفضلها، وبتجربتها، وبموقعها في ذاكرة الأزياء السعودية. قلت لها بصدق: "لأنك دكتورتنا في الأزياء.. ومنك نتعلم".

حواري مع فوزية النافع غيّر نظرتي إلى قواعد اللعبة. كانت تلك المكالمة جلسة توثيق نادرة، نستعيد فيها فصولا من سيرة امرأة سبقت زمنها، ورسمت ملامح الأناقة السعودية في زمن لم تكن فيه الأضواء مسلّطة، ولا المنصات متاحة، وخاصة للمرأة.
فوزية النافع ليست مجرد مصممة، بل هي أرشيف حيّ لتاريخ الأزياء في المنطقة الشرقية، وواحدة من أوائل من جمعوا بين الحرفة والذوق، وبين العمل الجاد والتأثير البعيد. قالت لي أثناء حديثي معها: "اسألي عني أهل الشرقية". وبالفعل كل من سألت يحمل ذاكرة عنها أو معها.
تتحدث المصممة فوزية النافع بصوتها الحقيقي، مشاعر وصدق وجرأة لم أعتدها من مصمم سعودي، بلا تكلّف، بلا مجاملات. تحدثت عن البدايات، والتحديات، والنجاح، والتوثيق، والهُوية.
النشأة.. بدايات مصممة سعودية خارج دائرة الضوء
فوزية النافع لم تنتظر الأضواء لتثبت حضورها، ولم تُراهن على المنصات. بدأت في زمن كانت فيه الخيارات محدودة أمام المرأة. في الخامسة عشرة من عمرها، كانت قد بدأت العمل مدرّسة. وبعد سنوات قليلة، تولّت إدارة محل والدها التجاري في مركز الخبر الثالثة، لتصبح لاحقا أحد الأسماء المؤثرة في مشهد الموضة في المنطقة الشرقية.
تحدثت بثقة عن تجربتها في إدخال تصاميم بلمسات عالمية إلى الـــذائــــــقــــة المحــلــيــة، فتـــعامــلــت مع عــــلامـــــات مثــــــل Valentino وCavalli وVersace وUngaro. وكانت تشرح تفاصيل تلك التصاميم للعميلات، وتربطها بالسياق الثقافي المحلي، وكأنما تلعب دور منسقة أزياء ومستشارة مظهر!
بحسب شهادة الأميرة مشاعل حرم أمير منطقة الشرقية وقتها، كان لفوزية فضل كبير في رفع الذائقة وتطوير المشهد. فهي لم تكن فقط مصممة، بل مرشدة ثقافية أنيقة أثّرت في مجتمعها، وفتحت أبوابا للمرأة السعودية قبل عقود.
في الخمسينيات، حين لم يكن مألوفا أن تتحدث امرأة بثقة في حضور الرجال، وكانت هي الاستثناء. بصوت واضح، وموقف صريح، كانت تقول: "كنت جريئة، أتكلم أمام الرجال بكل وضوح". لم تكن الرحلة سهلة، لكنها كانت مسنودة برجل مؤمن بها، إنه زوجها، الذي تصفه بـ"النافع"، وهي كنيته التي استخدمتها لاحقا كاسم تجاري للعلامة بدلا من اسم العائلة "الطبيب". لم تكن تكتفي بالبيع، بل كانت تختار الأقمشة بنفسها، وتنسّقها، وتشرحها، وتعلّم من حولها. قالت لي: "حتى لو كان زوجي تاجر أقمشة، أنا كنت أختار الأقمشة. كنت أشتري بنفسي، وأجمع القطع، وأصمّم بيدي، وأخيط، وأضع لمستي على كل التفاصيل".
من الكراج إلى الأتيليه
لم تكن لديها صالة عرض، فحوّلت كراج منزلها إلى أتيليه صغير. بدأت النساء يأتين إليها بطلبات خاصة، حتى صار اسمها معروفا في مجتمع الشرقية، ليس فقط كخياطة، بل كمصممة بطابع فريد، تصمم بأناقة ترتكز على الذوق السعودي. "كنت أجهز من بيتي عرائس. أحضّرهن من الألف إلى الياء، أحب التفاصيل، حتى الإطلالة الجمالية كنت أتدخل فيها".
حين سبقت زمنها.. أول عرض أزياء في الثمانينيات في السعودية
بينما كان بعض المصممين السعوديين يسعون نحو العالمية، كانت فوزية تبحث عن صناعة الفرص في السعودية وإن كانت المصادر محدودة، ولا توجد بنية تدعم القطاع.
فاجأتني عندما روت تفاصيل أول عرض أزياء أقامته بنفسها في 1982 بحضور 500 امرأة من المجتمع بمجهودها الفردي: "ذهبت إلى فندق رمادا المعروف بفندق مطار الظهران، قابلت الإدارة، وقلت: أريد أن أنظم حفلة عشاء مصحوبة بعرض أزياء. جهّزت 45 قطعة، وبعت 500 تذكرة، كل تذكرة بـ150 ريالا. الحضور كان كبيرا، لكن منعنا التصوير. كل شيء محفوظا في ذاكرتي، وصورة واحدة من العرض". لكنها تعلم أن ما فعلته كان سابقة، ودرسا في كيفية تحويل الشغف إلى تجربة جماهيرية في وقت لم يكن فيه شيء اسمه "فاشن شو".
التوسّع الخليجي ثم العودة إلى الجذور
ومن بين المحطات التي لا تُنسى، دعوة من بلدية روما في إيطاليا ضمن فعالية دولية ثقافية جاءت بعد أحداث سبتمبر، لتسلط الضوء على وجوه حضارية من العالم العربي.
"لم أتسلم الإبرة الذهبية بسبب الأوضاع السياسية وقتها في العالم في 2001، لكن تمت دعوتي للمشاركة في اللقاء. كانت لحظة رمزية. كانوا يبحثون عن صورة مختلفة لبلادنا، صورة فيها فن وأناقة وثقافة".
لاحقا، حملت فوزية تصاميمها إلى فندق "الشيراتون" في البحرين، حيث افتتحت مركزا خاصا بها، وكانت تصاميمها تُعرض إلى جانب بوتيكات عالمية مثل Chanel. لم تكن ترى نفسها أقل من أحد، بل كانت تؤمن بأن البراند السعودي قادر على الوقوف على المنصات نفسها.
لكن، وكما تقول: "الأحلام الكبيرة تصطدم أحيانا بالواقع، فقد أجبرتها الأزمة الاقتصادية في 2012 على إغلاق المشروع". وعلى الرغم من الخسارة، لم تخفِ فخرها، فتقول: "يكفيني إن اسمي كان إلى جانب بوتيك شانيل".
صاحبة مصنع ورسّامة على الأقمشة
ورائدة في الأزياء والاستدامة في السعودية
لم تكتفِ فوزية النافع بالخياطة وتصميم الأزياء، بل أسست مصنعا في السعودية، وكانت تستفيد من قصاصات أقمشة أرامكو وسابك في نهج مستدام مبكر لم يكن متداولا وقتها.
وتكشف أيضا عن الحرفة التي أتقنتها في التصميم: "أنا رسّامة. كنت أرسم على الأقمشة بيدي. كل قطعة تبدأ من الخام الأبيض، ثم تـدخـــل مـــرحــلــة الشكّ والتطريز، إلى أن تصبح قطعة تحمل روحها الخاصة".
الإبداع وحده لا يكفي..
فوزية النافع تكشف الجانب الخفي من نجاح الأزياء
تتحدث بصراحة عن تحديات مشوارها، وتكشف عن الجانب الخــفـــي خــلــف التــــصاميــــم والنجاح الظاهري: "كنت أتمنى أن أركز على الإبداع فقط. هذا مجالي الحقيقي. لكن الواقع يقول إن الأزياء تحتاج إلى رأسمال، وتمويل، وفريق تنفيذي، ومصنع، ومستثمرين يتبنون الموهبة".
ثم تضيف: "لو كان هناك أحد يتبناني من البداية، أو يقدّر إمكاناتي كمشروع استثماري لتحركت بشكل أسرع، وحققت إنجازات أكثر. كثير من وقتي ضاع في الشغل اليومي، وفي الإدارة والتجهيزات، بدل أن أكون متفرغة للتصميم".
لكنها لا تقول هذا بأسى، بل كحكمة من امرأة قطعت الطريق بنفسها، وتعرف تماما معنى أن تكون مستقلة ومبدعة في آن معا.
عن الروّاد.. وتفاصيل لن تُقال الآن
انتقلنا إلى الحديث عن الروّاد في قطاع الأزياء السعودي، شاركتني فوزية النافع معلومة صادمة عن أحد المصممين السعوديين الذين وقفوا خلف مصمم عربي وصل إلى العالمية، دعما ومساندة، في الكواليس، من دون أن يُسلّط عليه الضوء.
لم يكن هذا فقط كشفا، بل درسا في الكِبر والصمت الكريم، وفي إدراك أن للنجاح وجوها لا تُروى دائما. وفي المقابل، أشادت بمسيرة المصمم السعودي يحيى البشري، واصفة إياه بالذكي والطموح، قائلة: "يعرف متى يتكلم، ومتى يتحرّك، ويغتنم الفرصة".
النجاح، بالنسبة إلى فوزية، ليس قالبا واحدا. بل هو مجموعة مسارات متقاطعة، وأحيانا متعارضة، لكن المشترك بينها جميعا هو الشغف، والاستمرارية، والنية الصافية. هكذا ترى مشهد الموضة في السعودية لوحة من قصص نساء ورجال، كل منهم حفر طريقه بطريقته. فبعضهم صعد فوق المسرح، وبعضهم اكتفى بأن يُمسك الستارة من الخلف، لكنهم جميعا شاركوا في رسم المشهد.